تابع جبل الشيح - جبل آرمانا « آرمانو »
32- جبل آرمانا « آرمانو »
قال بطرس ضو : في نص للملك نارام سين « 3014 ق. هـ »( ) باللغة الأكادية دُعي حرمون « آرمانا ، آرمانو » . وآرمانا و آرمانو نسبة إلى آرام بن سام جد الآراميين . ومن آرمانا وآرمانو اشتقت لفظة « حرمون » إذ حلت الحاء محل الهمزة كما يحدث كثيرًا في اللغات الساميّة . فاللغة السريانية سواء دُعيت سريانية أو آرامية أطلق عليها هذان الاسمان إلى مكان واحد هو جبل حرمون الذي دُعي « سريون » و « شريون » بسبب تكوينه الطبيعي الصخري ، ودُعي « آرمانو » و « آرمانا » نسبة إلى آرام : أي الشعب الذي حلّ فيه . وحرمون هو جزء من لبنان ، وقد دُعي على مر الأجيال لبنان الشرقي . والشعب الآرامي انطلق أصلًا من حرمون أي من لبنان . واللغة الآرامية السريانية لغة نشأت في جبل حرمون اللبناني ، ولدى الشعب الآرامي اللبناني ، فهي لغة لبنانية الأصل والجذور، والسّمة والتكوين ى رأي ضو - عل. هذه اللغة الآرامية كانت اللغة الشائعة في فلسطين وخاصة في الجليل في زمن المسيح ، وبها تكلم المسيح ووالدته العذراء والرسل وكافة الشعب ذلك الزمن . ويعود ذلك إلى الأسباب التالية :
1- كانت اللغة الآرامية لغة إبراهيم جد العبرانيين الذي نشأ في أور الكلدانيين فيما بين النهرين حيث كانت الآرامية اللغة السائدة . ثم أقام إبراهيم مدة في حرّان عاصمة مملكة آرامية اسمها في التوراة والنصوص القديمة « آرام النهرين » . وهكذا كانت الآرامية لغة إبراهم . و كان على كل يهودي أن يعترف بذلك في هيكل الرب عندما يقدم الذبيحة حسبما يأمر سفر تثنية الاشتراع : « وإذ دخلت الأرض … فخذ من أوائل كل ثمر الأرض… وامض إلى المكان الذي يختاره الرب … وأتِ الكاهن … ثم تجيء وتقول بين يدي الرب إلهك : إن أبي كان آراميًّا تائهًا فهبط مصر ونزل هناك في رجال قلائل فصار أمة عظيمة شديدة كثيرة » . هكذا أتى العبرانيون من جهات الفرات وهم يتكلمون اللغة الآرامية .
2- لما حلّوا في أرض كنعان أي فلسطين اقتبسوا اللغة الكنعانية وهي والآرامية من أصل لبناني واحد فأصبحت لغة اليهود في فلسطين مزيجًا من الكنعانية والآرامية .
3- نفي يهود الجليل وفلسطين إلى بابل وآشور على دفعتين في القرنين الخامس عشر والثالث عشر قبل الهجري( ) وهناك لبثوا مدة من الزمن تغلبت عليهم فيها اللغة الآرامية حسب لهجتها التي كانت سائدة في ما بين النهرين . وعادوا إلى فلسطين بهذه اللهجة الآرامية الميزوبوتامية.
4- يهود الجليل تغلبت على لغتهم الآرامية اللهجة اللبنانية الصرفة لأنهم بعد عودتهم من سبي بابل وقبلها كانوا يعيشون مختلطين مع الفينيقيين فوق الأرض الواحدة كما رأينا سابقًا . وبسبب هذا الاختلاط وبسبب تفوق الفينيقيين على اليهود حضاريًا تغلّبت على يهود الجليل اللهجة الآرامية اللبنانية. لذلك كانت تختلف لهجة يهود الجليل إلى حد ما عن لهجة يهود القدس وفلسطين الجنوبية كما يتّضح من إنجيل متى : « اما بطرس فكان جالسًا في الدار خارجًا فدنت إليه جارية وقالت له : أنت مع يسوع الجليلي . فأنكر قدام الجميع وقال : لست أدري ما تقولين . ثم خرج إلى الباب فرأته جارية أخرى فقالت للذين هناك : هذا ايضًا كان مع يسوع الناصري . فأنكر ثانية بقسم … وبعد قليل دنا الحاضرون وقالوا لبطرس : في الحقيقة أنت أيضًا منهم فإن لهجتك تدل عليك » . هكذا كانت الآرامية اللبنانية لغة المسيح . وقد حفظ لنا الإنجيل بعض عبارات من هذه اللغة كما نطق بها المسيح ، وبعض ألفاظ تركت على أصلها ، منها أسماء الأعلام والأماكن المختومة بالألف المفتوحة مثل توما وشيلا وبرأبّا وبرنابا ومرتا وبيت عنيا وبيت حسدا وحقل دما . و منها لفظة ربوني ، وكيفا اللقب الذي أطلقه الرب على سمعان ، و قول المسيح للأعمى « افتتح » و للصبية بنت يائر « طليثا قومي » وصراخه على الصليب : « إيلي إيلي لما شبقتاني » . وبهذه اللغة كتب متى إنجيله . و قد بقيت مستعملة في فلسطين والجليل إلى القرن العاشر وبها كتب اليهود التلمود وترجمات التوراة . فلفظة « كيفا » التي أطلقها المسيح لقبًا على بطرس هي ذاتها اللفظة التي دعت بها اللغة اللبنانية الأصلية أماكن وقرى مثل رأس كيفا في لبنان الشمالي ودير كيفا في لبنان الجنوبي . فلغة المسيح ولغة لبنان الأصلية هي ذاتها.
ويقول ابن العبري : تنقسم اللغة السريانية إلى ثلاث لهجات أفصحها الآرامية وهي لغة أهل الرها وحران وقسم من الشام ، وبعدها الفلسطينية وهي لغة أهل دمشق وجبل لبنان وباقي الشام ، وأسمجها الكلدانية النبطية وهي لغة أهل جبال آشور وسواد العراق( ).
وفضلًا عن أن الآرامية السريانية هي لغة المسيح والعذراء والرسل والفوج المسيحي الأول وبها كتب الإنجيل الأول ، فإنها لغة بلغت في عهدها الذهبي انتشارًا عظيمًا ندر أن ضاهاه انتشار أية لغة أخرى . يقول العلامة الأب هنري لامنس اليسوعي : « من عجيب الأمور أن انتشار لغة الآراميين بلغ على عهد السلوقيين « 974- 708 ق.هـ »( ) مبلغًا عظيمًا فأضحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية ، أعني في لبنان وسوريا وما بين النهرين وبلاد الكلدان وجزيرة العرب… وقد بلغ امتداد هذه اللغة إلى أقاصي الشرق في الصين شمالاً وفي الأقطار الهندية جنوبًا . وبلغت جنادل النيل . فلا نظن أن لغة أخرى حتى ولا اليونانية جارت السريانية في اتساعها اللهم إلاّ اللغة الانكليزية في عصرنا »( ). وجاء في الكتاب المقدس اسم سريون : « صوت الرب بالقوة ، صوت الرب بالجلال . صوت الرب مكسر الأرز ، ويكسر الرب أرز لبنان . ويمرحها مثل عجل لبنان وسريون مثل فرير البقر الوحشي »( ).
ومن الجدير بالذكر أن أول ذكر لمدينة حلب في التاريخ يعود إلى الألف الرابع قبل الهجرة النبوية( ) ، وأنه كان من أسمائها وهي في مرحلة ممالك المدن العمورية القديمة : حلبابو ، وأرمانو ، ويمحاض ، وقد ورد اسمها في نصوص مدينة ماري « تل الحريري » على الفرات الأوسط ، وفي نصوص مملكة ايبلا « تل مرديخ » ، وفي نصوص مملكة أوغاريت مملكة أوغاريت « رأس شمرة » على الساحل السوري( ).
ومما يجدر التنبه إليه أن لفظة أرمانو لا تزال تستعمل إلى عصرنا الحاضر باللغة الإسبانية ، فهي « الأخ - El hermano - الـ إرمانو » و « الأخت - La hermana - لا إرمانا »( ). كما أن هذه اللفظة أصبحت اسم علم يطلق على الرجال والنساء عند النصارى في كثير من البلاد .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ