تابع جبل الشيح - حديقة إلهية
35- حديقة إلهية
جاء في الكتاب المقدس : أن الله - عز وجل – غرس شجر أرز لبنان ونصبه : « تشبع أشجار الرب ، أرز لبنان الذي نصبه »( ). ووصف أرزه الباسق المعانق لغيوم السماء ، وجمال أغصانه الوارفة الظلال : « هو ذا أعلى الأرز في لبنان ، جميل الأغصان ، وأغبى الظل ، وقامته طويلة ، وكان فرعه بين الغيوم »( ). ووصفه بأنه ينبوع جنات على هذه الأرض : « ينبوع جنات ، بئر مياه حية ، سيول من لبنان »( ). ويتحول جبل الشيخ ولبنان في مدة يسيرة إلى بساتين خضراء ، وجنات تبهج النفوس : « أليس في مدة يسيرة جدًا يتحول لبنان بستانًا ، والبستان يحسب وعرًا ؟ »( ). وجاء فيه أنه « يزهر أزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويرنم »( ). وبذلك تفوح رائحة عطرها الذكية في أرجاء الجبل ، وتعم كل لبنان ، وبلاد الشام . وهناك تعليلان لربط الرائحة الذكية بلبنان :
• السبب الأول هو وجود شجر البخور في لبنان القديم : فاللبان يعني « البخور» بالعربية وهي مادة لزجة تستخرج من شجر « اللبنى » « بالإنجليزية : Styrax Officinale » . وبحسب أقوال بيلين فان هذه الشجرة كانت موجودة بكثرة في لبنان ، وكان الإغريق يستوردونها للتبخير ولمنافعها الطبية . وكذلك فقد سمى اليونانيون البخور بليبانوس « باللاتينية : Libanos» وطقوس التبخير بليبانومانسي « باللاتينية : Libanomancie » . وزرعت هذه الشجرة في أوروبا وعرفت بالأليبوفيير « باللاتينية : Aliboufier » والتي استعملت في الطبابة .
• السبب الثاني هو رائحة شجر الأَرْز المنتشر في لبنان : فقد ذكر فيرجيل أن « كيركي - باللاتينية -: Circe » ابنة إله الشمس المترفة ، كانت توقد في قصرها خشب الأرْز العطري لكي تنشر نورًا دجويًا » . وذكر في الكتاب المقدس : « عرف أدهانك فوق جميع الأطايب ! شفتاك تقطران شهدًا أيتها العروس ، وتحت لسانك عسل ولبن ، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان » و « تنتشر فروعه ويكون بهاؤه كالزيتون ، ورائحته كلبنان » . وذكر في ملحمة جلجامش : « رأوا جبل الأرز ... مقام الآلهة ، قاعدة « عرش » أرنيني ... أمام الجبل ذاته ، يحمل الأرز إنتاجه الوفير... ظله لطيف ، مفعم بالعطر » . والفراعنة قالوا في الألف الرابع قبل الهجرة النبوية( ) : « يجلبون لي أجود منتوجات « نغاو » « أي : وادي نهر إبراهيم في لبنان » من الشربين والعرعر وخشب المر... أجمل أشجار الأرض الإلهية » كل هذا يدل أن الرائحة العطرة هي ملازمة لطبيعة لبنان( ) في التاريخ .
وإذا كانت هذه البساتين والجنات والخضرة سببها وفرة المياه التي تتدفق هنا وهناك ، لأن الله تعالى جعل الماء رمزًا للحياة وأساسًا لكينونتها ، وعلامة على وجودها ، فقال عز من قائل : « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، أَفَلَا يُؤْمِنُون »( ) وورد في الكتاب المقدس : « هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان ؟ أم هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية ؟ »( ). تقول روز أبي عاد : وتتعاقب الصور الشعرية الجميلة عن لبنان ، التي تعبّر عن الوفرة والفيض والغزارة والخضار، وتحمل بعدًا واقعيًا جدًا. وجاء في المزمور 72/ 16: « وفرت الحنطة في البلاد ، وتموجت على رؤوس الجبال كلبنان ، إذ أخرج ثماره وأزهاره ، وإذ أخرجت الأرض عشبها » . وتشرح أبي عاد لفظة : المسيح في الكتاب المقدس فتقول معناها : الملك الصحيح ، هو الذي تحل وفرة وازدهار وفرح واطمئنان في أيامه . وبالتالي ، فإن الوفرة التي كان ينتظرها اليهود من المسيح أو الملك وجدوها في جبل حرمون » . ويربط أيضًا النبي أشعيا الشهير « 35/2 » الفرح والازهار والابتهاج « بمجد لبنان « لتفرح البرية والقفر ، ولتبتهج البادية وتزهر كالنرجس ... قد أوتيت مجد لبنان » . وعند النبي هوشع ، يبرز أيضًا لبنان في أبهى حلة « أكون لإسرائيل كالندى ، فيزهر كالسوسن ، ويغرز جذوره كلبنان. وتنتشر فروعه ، ويكون بهاؤه كالزيتون ، ورائحته كلبنان . فيرجعون ليجلسوا في ظلي ، ويحيون الحنطة ، ويزهرون كالكرمة » . « 14/6- 8 » . وتتوالى الصور الجميلة حينًا ، والعطرة حينًا آخر، في « نشيد الأناشيد » ، حيث يرد اسم لبنان « 6 مرات في 8 فصول » ويتغزل الحبيب بحبيبته قائًلا : « هلمي معي من لبنان أيتها العروس » « 8/4 » ، و « رائحة ثيابك كرائحة لبنان » « 4/11» ، ويصفها بأنها « أنهار من لبنان » « 4/15 » وأنفها « كبرج لبنان الناظر نحو دمشق » « 7/5 » . وإقران الحبيبة ، شكلًا ورائحة ، بلبنان هو للتغزل بها ، دلالة إلى جمالها وتجددها وخصبها ورفعتها وصلابتها . والرائحة هنا هي رائحة البخور المنبعث من أشجار الأرز والصنوبر ، وأيضًا رائحة الزهور ، بما يدل إلى وجود مياه وخصب في لبنان . وإذا تلفت إلى ما كتبه الكاتب الألماني أورتمار كيل : « إن حرمون كان يدعى حديقة إلهية » ، تثير تساؤلًا : « كيف ستأتي العروس من كل هذه الجبال ، ومما يسميه الحبيب « مرابض الأسود وجبال النمور ، معي من لبنان » ؟ وهل معقول أن تكون الحبيبة تعيش هناك ؟ وهل هي إنسان بكل معنى الكلمة ؟
وتشير إلى أن بعض مفسري الكتاب المقدس يقول : إن وصف الحبيبة في هذا الشكل يعطيها بعدًا إلهيًا عملاقًا ، يتجاوز كونها إنسانًا( ) . ويرى فيه آخرون أسطورة كنعانية مرتبطة بالإلهة عشتار وعشيقها أدونيس ، علمًا أن وصفًا للبنان يرد في ملحمة « جلجامش » ، وهو أنه جبل الأرز، مسكن الآلهة ، وعرش عشتار . كذلك ، ساد اعتقاد في العصر الحجري - أي في الألف السابع أو الثامن قبل الهجرة( ) ، أن كل النمور والأسود والفهود صفات للإلهة عشتار . وبوصفه الحبيبة في هذا الشكل ، أعطى الحبيب الأسطورة إطارًا واقعيًا بتطبيقه على حبيبته . وقد رأى الباحث كيل في هذا الامر « إثباتًا بأن كل سفر نشيد الأناشيد هو أناشيد لبنانية كانت ترنم في كنعان ، ودخلت على الكتاب المقدس. وهذا يعني أن انجذاب الشعب الساكن في فلسطين إلى لبنان كان تلقائيًا. .. وتتتابع الصور، وهذه المرة تتغنى الحبيبة بحبيبها . « ساقاه عمودا رخام ، موضوعان على قاعدتين من إبريز ، وطلعته كلبنان » « 5/15 » . وقد استخدمت هذه الاستعارة ، « لتعبر بها عن الإشراق والإشعاع اللذين يتمتع بهما وجه الحبيب . ويبدو ندى حرمون صورة جميلة أخرى تعزز سحر لبنان . وجاء في المزمور 133/3 : « هو كندى حرمون النازل على جبال صهيون » . وتقول أبي عاد : ثمة من يقول : إنه بقدر ما كانت هناك مياه في جبل حرمون ، كانت تتبخر أيام الحر ، وتضفي انتعاشًا وبرودة ، وصولًا إلى صهيون . قد كان تأثير حرمون كبيرًا ، إلى درجة الاعتقاد أنه مصدر أي برودة تصل إلى صهيون( ).
وفي ختام هذه الجولة مع مسميات « جبل الشيخ » فإن الاسم الحالي قد أصبح الاسم الرسمي الذي يعرف به ، وطغى على المسميات الأخرى التي آوت خجلة إلى بطون الكتب وذاكرة التاريخ الماضي ، وبقيت أثرًا من تلك الآثار التي تشهد بقدسية هذا الجبل ، وعظمته ، ودوره في حياة شعوب المنطقة على ما فصلناه فيها سابقًا .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ