الرحيــــل حملت حقيبتي الصغيرة وأعلنت الرحيل دون تفكير ولا إدراك، بعد أن ودعت كل ما يخصني في ذلك المنزل الفقير، وبعد أن غسلت دموعي الغزيرات وجهي وقبة قميصي وبعض أثاث. أدرت وجهي دون أن أعلم وجهة سفري، دون أن أحجز بطاقتي، فلم يكن حينها مهم لي معرفة المكان الذي أمضي إليه ، وإنما المهم كان مغادرة مكاني الذي طالما أحسست بإذلاله لي وبكراهيتي له.
حملت ما تبقى لي من أفراح ذاك المنزل ومن أحزانه لملمتهم في حقيبة سوداء بأربطة سوداء وأقفال من حديد ومضيت إلى نهايتي أو بدايتي لم أعلم ، تركت الأمر لخطاي فتوجهت إلى أول قطار متجه إلى الغرب ضاربة كل قيود الشرق ومفاهيمه عرض الحائط معلنة الثورة على قيود النساء وعلى التقاليد البالية.
تقدمت نحو القطار والفرح يغمرني ، صعدت وجلست قرب نافذة متسخة في فركونة صغيرة كبيتي الصغير، تمعنت حولي باحثة عن صفحة جريدة أو عن شيء يسليني ويملأ وحدتي، فلم أد. فأدرت ناظري من خلال النافذة على الشارع حيث المسافرين قد وصلوا من القطار المعاكس، منهمكين في حمل الحقائب والبحث عن العتالين وعن سيارات الأجرة، ولمحت من بين هؤلاء شخص بدى لي في الوهلة الأولى غريب الأطوار، فبينما الكل منهمك في ما هو عليه ، أكتفى صاحبنا هذا بالتمعن بالقطار من الفركونة الأولى إلى الفركونة الأخيرة مروراً بكل الركاب على كل النوافذ ومن بينهم أنا، ولاستغرابي أطلت النظر إليه حتى أدرك ذلك، فقد حيرني أمره، والذي زاد في حيرتي أنه توجه نحوي ، بعد أن أخرج كتاب كبير من حقيبة يده الصغيرة وصعد فركونتي ليسألني بعد كل هذا العناء : هل أنت مسافرة؟؟
نظرت إلى حولي ومن ثم إلى حقيبتي وقهقهت ساخرة: لا إنني فقط متوجهة إلى الحمام لأغسل يداي بعد وجبة الطعام الدسمة. وأدرت وجهي إلى النافذة متجاهلة وجوده، فحاول من جديد معي: كم ستمكثين في الغربة ، وما حاجتك بها؟ فقهقهت من جديد: حالما سأتعلم التدخين وأشعل أول لفافة تبغ سأخذ أول قطار للشرق وأعود. وقبل أن أنهي كلامي أعلنت صافرة القطار عن الرحيل. فأسرع صاحبنا هذا يهم بالنزول خوفاً من أن تحمله إلى ما هو هارب منه، بعد أن أعطاني ذاك الكتاب الذي يحمله طالباً مني قراءته في سفري هذا وفي رحلتي هذه كلها.
في الوهلة الأولى لم أنتبه إلى عنوان الكتاب ، فقد لازمت نظراتي صاحبنا الغامض ذاك وطريقته في التعامل، وكأن الغربة أكلت شيئاً من عقله، وحين حطت قدماه على الأرض إلتفت إلى وهز رأسه ولمح لي بيده معلناً الوداع، وانطلقت بنا القطار برحله لا علم لي بمداها ، ومن الملل أدرت ناظري على المقعد الجانبي فلمحت ذاك الكتاب وهو معنون" آلام الغربة" فبدأت أتصفحه إلى أن انتهى بي الأمر إلى قراءته حرفاً حرف وغسله بالدمع صفحة صفحة ، وحينها أيقنت مشكلة صاحبنا وأيقنت ما يجب علي فعله. وهو أنني حينما وصلت محطة استراحة أخذت أول قطار عائد إلى الوطـن تاركه ورائي حقائبي وأحلامي الطائشة مكتفية بذاك الكتاب الذي أعادني طوعاً. أغمضت أعيني طوال ساعات السفر حالمة بما هجرت إلى أن أيقظتني صافرة القطار معلنة الوصول إلى نفس المحطة التي غادرتها أي وصولي للوطن. فأسرعت أهم بالنزول لألامس ترابه من جديد وحين وضعت أول قدم لي عليه هزني أحدهم من الخلف أدرت إليه ناظري فإذا بصاحبنا ينتظر وصولي ولفافة التبغ في يده طالباً مني التدخين، وحين أبيت لعدم كفاءتي به قهقه قائـلاً" حتى هذه لم تعلمك إياها الغربـة، فعلى علمي أنها كانت هدف سفرتك الوحيد. فضحكت من سخريته ومن نفسي، فأحكم يداه على يداي ومضينا معاً وضحكاتنا تملء المحطة بعد أن تركت كتاب " آلام الغربـة" على أحد مقاعد القطار أملاً بأن يعيد بعضهم كما أعاد صاحبي وأعادنـي