1/252 ـ عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول ((ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف ، لو أقسم على الله
لابره . ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتلٍ جواظٍ مستكبر )) متفق عليه( 24 ) .
(( العتل )) : الغليظ الجافي : (( والجواظ )) بفتح الجيم وتشديد الواو
وبالظاء المعجمة : هو الجموع المنوع ، وقيل : الضخم المختال في مشيته ،
وقيل : القصير البطين .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن حارثة بن وهب رضي الله عنه
في باب ضعفاء المسلمين وأذلاءهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا
أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره )) يعني هذه من
علامات أهل الجنة ؛ أن الإنسان يكون ضعيفاً متضعفاً ، أي : لا يهتم بمنصبه
أو جاهه ، أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا ، ولكنه ضعيف في نفسه متضعف
، يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور ؛ لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه
عند الله عز وجل ، لا أن يكون شريفاً في قومه أو ذا عظمة فيهم ، ولكن يرى
أن الأهم كله أن يكون عند الله سبحانه وتعالى ذا منزلة كبيرة عالية .
ولذلك تجد أهل الآخرة لا يهتمون بما يفوتهم من الدنيا ؛إن جاءهم من الدنيا
شيء قبلوه ، وإن فاتهم شيء لم يهتموا به؛ لأنهم يرون أن ما شاء الله كان ،
وما لم يشأ لم يكن ، وأن الأمور بيد الله ، وإن تغيير الحال من المحال،
وأنه لا يمكن رفع ما وقع ولا دفع ما قدر إلا بالأسباب الشرعية التي جعلها
الله تعالى سبباً .
وقوله : (( لو أقسم على الله لأبره )) يعني لو حلف على شيء ليسره الله له
أمره ، حتى يحقق له ما حلف عليه ، وهذا كثيراً ما يقع ؛ أن يحلف الإنسان
على شيء ثقة بالله عز وجل ، ورجاء لثوابه فيبر الله قسمه ، وأما الحالف
على الله تعالياً وتحجراً لرحمته ، فإن هذا يخذل ، والعياذ بالله .
وهاهنا مثلان :
المثل الأول : أن الربيع بنت النضر رضي الله عنهما وهي من الأنصار، كسرت
ثنية جارية من الأنصار ، فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تكسر ثنية الربيع ، لقول الله تعالى : (
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس) إلى قوله : (
وَالسِّنَّ بِالسِّنّ) [المائدة : 45] فقال أخوها أنس بن النضر : والله يا
رسول الله لا تكسر ثنية الربيع ، فقال (( يا أنس كتاب الله القصاص )) فقال
: والله لا تكسر ثنية الربيع .
أقسم بهذا ليس ذلك رداً لحكم الله ورسوله ، ولكنه يحاول بقدر ما يستطيع أن
يتكلم مع أهلها حتى يعفوا ويأخذوا الدية ، أو يعفوا مجاناً ، كأنه واثق من
موافقتهم ، لا رداً لحكم الله ورسوله ، فيسر الله سبحانه وتعالى ؛ فعفى
أهل الجارية عن القصاص ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن من عباد
الله من لو أقسم على الله لأبره)) ( 25 ) .
وهنا لا شك أن الحامل لأنس بن النضر هو قوة رجائه بالله عز وجل ، وأن الله سييسر من الأسباب ما يمنع كسر ثنية أخته الربيع .
أما المثل الثاني : الذي أقسم على الله تألياً وتعارضاً وترفعاً فإن الله
يخيب آماله ، ومثال ذلك الرجل الذي كان مطيعاً لله عز وجل عابداً ، يمر
على رجل عاص ، كلما مر عليه وجده على المعصية ، فقال : والله لا يغفر الله
لفلان ، حمله على ذلك الإعجاب بنفسه ، والتحجر بفضل الله ورحمته ،
واستبعاد رحمة الله عز وجل من عباده .
فقال الله تعالى (( من ذا الذي يتألى علي ـ أي يحلف على ـ ألا أغفر لفلان
. قد غفرت له ، وأحبطت عملك )) ( 26 ) ، فانظر الفرق بين هذا وهذا .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إن من عباد الله )) (( من )) هنا
للتبعيض ، (( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره )) وذلك فيمن
أقسم على الله ثقة به ، ورجاء لما عند الله عز وجل .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بأهل النار ، كل عتل جواظ مستكبر )) ؛ هذه علامات أهل النار.
(( عتل )) : يعني أنه غليظ جاف ، قلبه حجر والعياذ بالله ؛ كالحجارة أو
أشد قسوة . (( جواظ مستكبر )) الجواظ فيه تفاسير متعددة ، قيل إنه الجموع
المنوع ، يعني الذي يجمع المال ويمنع ما يجب فيه .
والظاهر أن الجواظ هو الرجل الذي لا يصبر ، فجواظ يعني جزوع لا يصبرعلى شيء ، ويرى أنه في قمة أعلى من أن يمسه شيء .
ومن ذلك قصة الرجل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ، وكان
شجاعاً لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : (( إن هذا من أهل النار )) ، فعظم ذلك على الصحابة ، وقالوا :
كيف يكون هذا من أهل النار وهو بهذه المثابة ؟ ثم قال رجل : والله لألزمنه
يعني لأ لازمه حتى أنظر ماذا يكون حاله ، فلزمه فأصاب هذا الرجل الشجاع
سهم من العدو . فعجز عن الصبر وجزع ثم أخذ بذبابة سيفه فوضعه في صدره ثم
اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره والعياذ بالله ، فقتل نفسه . فجاء الرجل
للرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أشهد أنك لرسول الله ، قال
(( ويم ؟ )) قال : لأن الرجل الذي قلت إنه من أهل النار ، فعل كذا وكذا ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما
يبدو للناس وهو من أهل النار )) ( 27 ) . فانظر إلى هذا الرجل جزع وعجز أن
يتحمل فقتل نفسه .
فالجواظ هو الجزوع الذي لا يصبر ، دائماًُ في أنين وحزن وهمّ وغمّ ، معترضاً على القضاء والقدر ، لا يخضع له ، ولا يرضى بالله رباً .
وأما المستكبر فهو الذي جمع بين وصفين : غمط الناس ، وبطر الحق ؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ))( 28 )
وبطر الحق : يعني رده، وغمط الناس: يعني احتفارهم، فهو في نفسه عال على
الحق، وعال على الخلق ، لا يلين للحق ولا يرحم الخلق والعياذ بالله .
فهذه علامات أهل النار . نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار ، وأن يدخلنا وإياكم الجنة . إنه جواد كريم .
شرح رياض الصالحين المجلد الثالث
باب فضل ضعفة المسلمين
والفقراء والخاملين
الشيخ بن عثيمين رحمه الله