ابو سام أطناوي مستشار
المزاج : عدد المساهمات : 7840 نقاط : 11069 تاريخ الميلاد : 09/05/1990 العمر : 34 تاريخ التسجيل : 08/04/2010 مكان الإقامة : دبي
| موضوع: الكتابة والألم الإثنين أكتوبر 25, 2010 5:39 pm | |
|
الكتابة والألم كتابة الألم، ألم الكتابة 1 – يمكن أن ننطلق من عبارات هذا العنوان: سنأخذ عبارة "الكتابة" في معناها المادي وفي معناها التخييلي. أما الواو، فهو الرابط الذي سيسمح لنا بإبراز أهم الإشكالات التي تثيرها مختلف العلائق الممكنة بين الكتابة والألم. وهذه العبارة الأخيرة تعني لغة الوجع. وتتضمن فكرة مفادها أن الجسد والروح معرضان لما يسبب شعورا صعب الاحتمال. وسننظر إلى هذه العبارة من زاوية نفسانية: وهنا نميز بين بعد باتولوجي (مرضي) يعتبر الأمراض الجسمانية والنفسية والعقلية سبب الألم، وبين بعد بنيوي ينظر إلى الألم على أنه متجذر ومساهم في بناء ذاتية كل كائن إنساني. وبالنظر إلى موضوعنا، تلزم الإشارة إلى أن فعالية المقاربة النفسانية –التي نعتمدها هنا- لا تتجلى فقط في كونها تكشف الأمراض والعقد والجراحات، بل هي تتجلى، كما بين ذلك ديديي أنزيو، في كونها لا تتعرف على مريضها إلا من خلال محكية الخاص، من خلال أسلوبه وعباراته، وما يصاحبها من إيقاع وتنغيم وتقطيع… وألم. 2 – إذا أخذنا الكتابة في معناها المادي، بمعنى هذه الرموز والعلامات التي ننقشها بالقلم (أو بآلة ما) على ورقة بيضاء، فإنه يمكن التساؤل: ما هي الحاجة الرمزية التي لا يمكن أن يسدها إلا القلم؟ أليس فعل الكتابة فعلا عدوانيا مؤلما؟ ألا تتألم الورقة مرتين: مرة لأن هناك قلما يخدش جسدها، ومرة لأن هناك لونا أسود يلوث بياضها الصافي الطاهر؟ ألا يتعلق الأمر بلذة لا شعورية سادية تتعلق بوظائف رمزية من مثل عدوانية الريشة، ومن مثل فض بكارة جسد أبيض بكر بقلم فحل (والفحولة قيمة رمزية أساسية في ثقافتنا؟). الكاتب هو الإنسان–الريشة L’homme-plume على حد تعبير غوستاف فلوبير الذي يقول في إحدى رسائله: "أنا إنسان-ريشة. عن طريقها أحس وبسببها وفي علاقة بها، وأحس كثيرا معها". وكثيرا ما كان هذا الكاتب-الإنسان-الريشة يتحدث عن عمله باستعارات جنسية، ويرى أن الإنسان لا بد أن يختار: إما المرأة وإما الكتابة. فهل يتعلق الأمر بفعل جنسي فيه من الألم قدر ما فيه من اللذة؟ ينبغي الانتباه إلى أن كلمة "القلم" لها معنى جنسي في ثقافتنا المغربية الشعبية. وكل الشروط متوفرة لتمام الزواج بين القلم والورقة طبقا لمقتضيات ثقافتنا. فالورقة بلونها الأبيض طاهرة وصافية وبكر. لكن ألا يتعلق الأمر باغتصاب جسد صامت لا يستشار قبل النقش عليه؟ والورقة البيضاء تفيض بالإيحاءات والدلالات. نشير إلى واحدة سنعود إليها عند تحليل نص روائي مغربي فيما بعد. فغالبا ما يرى المحللون في الورقة البيضاء مساحة الجلد اللبني للثدي المغذي الذي يعتبر أول مدرك حسيا. والورقة البيضاء عندما نرى فيها ذلك الثدي العزيز اللذيذ الذي كان الانفصال عنه مؤلما، فلا شك أننا سنتمسك به بكل الأظافر وبالكثير من الإيلام حتى لا يفتقد مرة أخرى! 3 – قد يقال إن الكتابة لا تتألم، بل الكاتب هو الذي يتألم. ويمكن افتراضا اعتبار كل الدراسات النقدية النفسانية التي اهتمت بالكتاب دراسات تكشف آلامهم وأوجاعهم. إلا أن هذه الدراسات عندما تبالغ في منظورها الشخصي والمرضي، فهي بذلك تبتعد عن أسئلة الكتابة وتصير إشكاليتها محدودة. لكن بعض الدراسات، وخاصة التي تستند إلى التحليل النفسي اللاكاني، توفقت في جعل اهتمامها بالكاتب جسرا لإثارة أسئلة جديدة حول الكتابة. يمكن أن نذكر هنا كتابا يعود إلى سنة 1961 لجان لابلانش: "هولدرلين وسؤال الأبط. وهولدرلين شاعر ألماني قضى نصف حياته (ستة وثلاثين عاما) في عزلة بقلعة توبنجسن، شاعر قاسى كثيرا وتألم طويلا. لكن إن كان ل بلانش قد انطلق من تحليل الكاتب، فقد كانت غايته الإنصات وإبراز النص الشعري للجنون. وهناك دراسة تعود إلى العقد الأخير من القرن العشرين للباحث النفساني آلان غروريشارد حول الكتابة والجنون انطلاقا من جان جاك روسو. فهذا الكاتب قد صار أحمق من الألم بسبب مرش جسدي ولد معه وموطنه في المنطقة البولية الوراثية، مرض يجعله ينزعج لأنه يشكو الحاجة إلى البول في كل آن. وبداية من السنة التي شرع فيها في كتاب "اعترافاته" (1765) سيزداد ألمه بسبب تشويشات من يسميهم بـ"هؤلاء السادة ces Messieurs" الذين يطاردونه ويراقبونه حيثما ذهب ومهما فعل. وفي نونبر 1769، وهو لاجيء في مزرعة بعيدة، ووحيد ومريض ومنقطع عن العالم، يقرر استئناف "اعترافاته" بالرغم من ألمه ومرضه وقلقه، من أجل عرض الحقيقة التي لا يريدها "هؤلاء السادة". ومثل لاكان، يستنتج غروريشارد أن روسو كان كاتبا كبيرا بسبب أمراضه وآلامه، فبسبب ذلك بقي واستمر يسحرنا بأسلوبه وبشخصيته أو بالأصح بهذا الشبح الذي قام بحبسه في منفى كتاباته وسماه باسمه. لنلاحظ أن الكتابة تحتاج إلى الكثير من الألم. لكن هل الكاتب وحده من يتألم؟ ألا ينقل الكاتب ألمه إلى نصه؟ أليس الألم رحما يولد نصوصا من نوع نصوص هولدرلين وروسو؟ 4 – أقترح الآن الوقوف عند نص روائي مغربي: "لعبة النسيان" لأستاذي محمد برادة، من أجل إثارة أسئلة وملاحظات حول الكتابة والألم. وعبارة "الكتابة" هنا مأخوذة في معناها الاصطلاحي ومحصورة في جنس الرواية كأحد أجناس الكتابة. أ – لنتأمل العبارات التي جاءت في بداية الرواية: "منذ الآن لن أراها، قلت في نفسي وهم يضعون جسمها الصغيرة المكفن داخل حفرة القبر ويهيلون عليها التراب". لقد ماتت الأم، وفقدها الابن إلى الأبد، وها هو يجعلها موضوع روايته. وهذا ما يسمح لنا بالقول إنها رواية الحداد، ما جامت متعلقة بحالة فقدان إنسان عزيز، وهي حالة يصاحبها الكثير من الضيق والألم والاكتئاب. لكن الرواية لم تركز على أجواء الحداد الحزينة، ولم تغلب عليها السوداوية التي قد تكون منتظرة في مثل هذه الحالة. بالعكس، لقد اختار الراوي أن يمارس عملا داخل النفس لرفع ونسيان الألم والإحباط والاكتئاب، وهذا العمل يسميه س.فرويد "عمل الحداد Travail de deuil": فبعد اختفاء الموضوع الخارجي (الأم)، تقوم الذات المتألمة المحبطة بإنجاز عمل يتحدد في استحضار كل الذكريات التي تربطه بهذا الموضوع المختفي. وهذا الاستحضار هو في العمق بحث من طرف الراوي الفاعل (الهادي) عن إعادة تثبيت هذا الإنسان الغالي (لالة الغالية) في داخليته. فهذه الرواية صرخة شعرية لإنسان محد يتألم من فقدان أمه "لالة الغالية". لكن بدل أجواء الحزن والبكاء، تدعونا الرواية إلى ممارسة "لعبة النسيان": نسيان الوجع وصداع الراس وتحاشي ما يؤلم النفس، هذا ما تقوله الرواية نفسها (ص133)، واستحضار الطفولة والذكريات واتخاذ الضحك أسلوبا في الحياة. ولا يمكن أن نقدر الألم الكبير الذي أصاب "الهادي" بعد موت أمه، إلا إذا شددنا على الحب الكبير الذي يشعر به هذا الابن تجاه أمه، حب كبير مكن هذا النص من ثراء شعري مدهش. لقد كان الجرح كبيرا والألم كبيرا، لأن هذا الابن، على خلاف الأبناء، لم يعرف الأب الذي مات وترك ابنه ينعم بخيرات أرض الأم مدة أطول. لكن، وتبعا لدراسة طورت فيها م.كلين مفهوم الحداد الفرويدي، الواقع أن هناك عمل حداد مؤلما وطبيعيا ينجزه الطفل الصغير الذي يشرع في معالجة المواقف الإحباطية بعد أن يفصله الأب عن أمه، الفردوس الذيذ، ويصدمه ويؤلمه بالحقيقة: يستحيل أن تحصل على كل ما ترغب فيه في هذا العالم! عمل الحداد المؤلم والطبيعي هذا الذي خبرناه أطفالا، هو ما يفسر في نظري الاستقبال الكبير الذي لقيته "لعبة النسيان" و"جنوب الروح". ب – لكن "الهادي" قد خبر الألم طفلا صغيرا، وينبغي أن نقدر ضخامة هذا الألم الذي كان بسبب واقعة فريدة وغريبة: افترض أنك كنت مفتونا ومنجذبا نحو جسد جميل، أبيض وعار، ومددت يدك إلى الصدر، وفي هذه اللحظة تخطفك يد امرأة وهي تحتج على ما تفعله أنت الطفل الذي لم يدرك أن الجسد ميت. هذا ما وقع للهادي مع جسد امرأة –زوجة خاله سيد الطيب- كان "مغمورا بعشقها"، تدلله وتغدق عليه حنانها وهداياها وكلماتها الحلوة، يسميها "الحبيبة" ويرى في موتها "فقدان حضور جسدي وعاطفي مثقل بالغبطة والدفء"، ولما أبعدوه، هو الطفل الصغير دون سن الرابعة، عن جسدها الأبيض المسجى، بكى وتألم. تعود هذه الواقعة إلى مرحلة دقيقة جدا –دون سن الرابعة: في هذه المرحلة يغادر الطفل سجل الحاجة إلى سجل الرغبة. ولنتصور ضخامة الجرح والألم عند طفل رغبته شرعت في التكون، شرعت في تأسيس موضوع حبها، فاصطدمت بشيء اسمه: موت الحبيبة! فقدان الجسد الجميل والقلب العطوف! ولننتبه إلى عبارات النص: يبكي الطفل لأنهم ابعدوه عن "جسدها الأبيض بياضا بنصاعة الجير وشعرها الفاحم الطويل". إنها ثنائية الأبيض والأسود ستلازم "الهادي" إلى أن يصير كاتبا. فهل نقول إن ذلك الحدث بكل ما تركه من ألم في النفس هو الخلفية اللاواعية لانجذاب الكاتب إلى الكتابة، إلى الورقة البيضاء؟ مع الورقة البيضاء، هذا الجسد الأبيض، يستعيد الكاتب تلك العلاقة الحميمة التي تفيض حبا وحنانا. مع الورقة البيضاء، هذا الجسد الأبيض، يحقق الكاتب أمرين لم يكن ممكنا تحقيقهما مع الجسد المحبوب الميت: يعيد الكاتب الحياة للجسد الأبيض، ولم يعد هناك أحد يمنعه من مد يده إلى ثدي وصدر الجسد الأبيض. وبالأسود يعود الدفء وتعود الحياة (ص47). فالكتابة –كما يلح فلوبير- تقوم بدور المرأة: موقد الرغبة ومصدر اللذة. وإذا استحضرنا الحياة الجنسية للهادي، فسنلاحظ ميله إلى الجسد الذي لا يكف عن الاهتزاز والحركة (ص101). ومن أحب جسدا يفيض حبا وحنانا، وجاء يوم صار فيه جسدا جامدا ميتا، فلا شك أنه بعد ذلك سيكون في "قمة الانفعال". أما كل جسد يتقن الاهتزاز والحركة. والكتابة ليست بعيدة عن هذه المسألة: بالأسود يستعيد هذا الجسد الأبيض الجامد (الورقة البيضاء) حركته واهتزازه، فيكون الكاتب في قمة انفعاله! وبذلك تكون الكتابة لعبة لنسيان ذلك الألم البعيد المترسب في أعماق النفس، لكنها أيضا لعبة تتحقق معها تلك اللذات المستحيلة: ملامسة الصدر، بل الثدي، ذلك الجسد اللبني الأبيض الذي يتم إبعادنا عنه، فتصاب النفس بأكبر جرح وبأضخم ألم . منقول لكم
| |
|
عاشق الحباري مراقب عام
المزاج : عدد المساهمات : 6048 نقاط : 8259 تاريخ الميلاد : 01/01/1974 العمر : 50 تاريخ التسجيل : 23/08/2010 مكان الإقامة : المملكه العربيه السعوديه الرياض
| موضوع: رد: الكتابة والألم الإثنين أكتوبر 25, 2010 7:52 pm | |
| | |
|
ابو سام أطناوي مستشار
المزاج : عدد المساهمات : 7840 نقاط : 11069 تاريخ الميلاد : 09/05/1990 العمر : 34 تاريخ التسجيل : 08/04/2010 مكان الإقامة : دبي
| موضوع: رد: الكتابة والألم الإثنين أكتوبر 25, 2010 8:13 pm | |
| | |
|