تابع تسميات قطنا - كاتانيا - كاتاني
ج- كاتانيا أو كاتاني
يعتقد بعض الباحثين أن التسمية يونانية الأصل ، ويقولون إن اليونان القدماء أطلقوا عليها اسم » كاتانيا » أو » كاتاني » بمعنى : مفرق الطرق ، أو مفترق الطرق( ) في خضم التغيير الكبير في أسماء المدن والقرى الذي قام اليونانيون به لفرض الحضارة اليونانية – الهلنستية في بلاد الشام التي احتلوها ، وصبغها بصبغتهم حتى أنهم فرضوا على سكان البلاد استعمال اللغة اليونانية ، ومنعوهم من استخدام لغتهم الآرامية !! وهذا ما قامت به فرنسا في العصر الحاضر بعد احتلالها للجزائر وغيرها من البلاد لفرنستها ، وصبغها بالصبغة الفرنسية بعد احتلالها ، والدولة العثمانية في آخر عهدها عندما فرضت سياسة التتريك على البلاد الواقعة تحت حكمها ومنها بلاد الشام ، وهذا كان من عوامل تفككها وأسباب سقوطها . ويعتقد فريق الباحثين هذا أن لفظ » كاتانيا » أو » كاتاني » حُوِّر في النطق فيما بعد إلى قطنا . وأعتقد أن هذا الاسم وصف لموقع قطنا ، حيث أنه عقدة مواصلات هامة ، ويبدو أنه أخذ من اسم مملكة قطنة كما سيأتي ، بعد أن تعرف اليونان على المنطقة واحتلوها ، وأضافوا إلى معنى الاسم ما يتصف به الموقع ، فصار ذلك الوصف مصاحبًا للمعنى الدلالي للكلمة . ومن قطنا يتم توزع الطرق :
أولاً – قطنا – الصوجة – الزبداني – لبنان ( بيروت )
ثانياً – قطنا – كفر قوق – رخلة – حاصبيا – العرقوب – جنوب لبنان – فلسطين
ثالثاً : قطنا – بيت تيما – حينة – مجدل شمس – بانياس الجولان .
وجميع هذه الطرق كانت تمر بالمدن المذكورة والمأهولة ، وتؤمن الحماية والخدمات للمسافرين .
وفي الواقع إن الكشف عن « مملكة قطنة » في تل المشرفة في شمال شرقي حمص التي تعود إلى عهد العموريين « الأموريين » الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية حوالي 4250 ق.هـ( ) ، وأسسوا لهم عدة مدن أقاموا فيها ممالك لهم في وسط وشمال سورية الداخلية دعيت بممالك المدن ، أهمها : إيبلا وماري ويمحاض وقطنة وقادش ، ومن جهة ثانية فإن الوثائق المكتوبة ، التي اكتشفت في أوغاريت وتل العمارنة ومملكة بابل في عصر حمورابي ومدينة ماري ، قد كتبت بلغة مشابهة هي اللغة الكنعانية ، وهذا ما جعل كثيرًا من العلماء يعتقدون أن القبائل ، التي انتشرت في بلاد الشام خلال القرنين الأخيرين من الألف الخامس قبل الهجرة( ) وانتقلت شرقاً إلى بابل كانت كنعانية( ). أقول : إن هذا الكشف المذهل يقودنا إلى حقيقة واقعية هامة غفل عنها كل الذين بحثوا في تسمية قطنا المعاصرة الحالية وتاريخها ، ألا وهي قدم هذه التسمية أولاً ، والأصل السامي - العربي لها ثانيًا ، وأن أهل المنطقة هم الذين أطلقوا هذه التسمية على بلدتهم التي أنشأوها ، وأن هذه التسمية لم تأتهم من خارج محيطهم من اليونان القدماء « الإغريق » كما يحلو لبعض الباحثين قوله ، وأن الاسم الذي أطلقه اليونانيون عليها لم نعد نسمع به في العهد الروماني حيث سميت باسم « قطيا » ، وذلك إما تحويرًا من الرومان لاسمها أو من السكان الذين مزجوا بين الاسمين الأصلي والجديد وخرجوا به عن لفظه اليوناني في محاولة منهم للتخلص من الاسم الذي فرضه المحتل على بلادهم ، ثم بعد تخلصهم من الاحتلال الروماني عادوا بالتسمية إلى أصلها . ومن المهم أن نذكر هنا بهذا الصدد : أنه آن الأوان لأمتنا أن تفتح أعينها لتكشف زيف الخداع الذي تحاول أوروبا خاصة والغرب عامة فيه أن تجعل نفسها مركز الحضارة والتقدم والإشعاع الفكري والقوة قديمًا وحديثًا ، وأن تميط عن أعينها اللثام الذي يحجب عنها الرؤية الصحيحة ، وأن ترى الأمور بجلاء على حقيقتها ، وأن تضعها في موقعها ومكانها الصحيح . نعم آن الأوان لأمتنا أن تتحرر لتستعيد موقعها الريادي والحضاري للعالم ، ولتستطيع أن تلعب دورها الحضاري في قيادة البشرية من جديد ، نعم آن الأوان لأن تستخدم الأمة مصطلحاتها الحضارية – والتسميات للمدن جزء مهم منها - التي تميزها عن الأمم الأخرى ، والتي تعبر عن مضمون حضاراتها المختلفة وروحها . وليعلم القراء الكرام أن استخدام الأمة لمصطلحات الأمم الأخرى وإهمالها مصطلحاتها الحضارية المميزة نوع من الهزيمة النفسية التي تدخلها في الذوبان في ثقافة الغير وحضارة الغير ، وهذا ما تفعله الأمم المغلوبة عند تقلد الأمم الغالبة ، وتردد كالببغاء أفكارها وثقافتها وحضارتها دون النظر إلى ما عندها من جواهر ثمينة في هذه المجالات ، وهذا البناء الحضاري للمصطلحات هو ما أرشدنا إليه القرآن الكريم في مناسبات عديدة منها قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ »( ) . قال أسعد حومد : كَانَ الأنْصَارُ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَمَا يَتْلُو عَلَيهِمِ الوَحْيَ : « رَاعِنَا » : أيْ تَمَهَّلْ عَلَينا في التّلاوَةِ حَتّى نَعِيَ مَا تَقْرَؤُهُ عَلَينا . وَكَانَ اليَهُودُ يَسْتَعْمِلُونَ هذا التَّعْبيرَ في مَخَاطَبتِهِمْ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَريدُونَ أنْ يَقُولُوا لَهُ : ارْعِنَا سَمْعَكَ ، أوْ تَمَهَّل عَلَينا . وَلكِنَّهُمْ كَانُوا يُمِيلُونَ الكَلِمَاتِ بَعْضَ الشَّيءِ ، وَيُورُونَ بِهَا عَنِ الرُّعُونَةِ . « وَرَاعِينُو فِي العِبْرِيَّةِ مَعْنَاهَا : شِرِّيرٌ » . فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَالمُؤمِنينَ إلى ذَلِكَ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ هذِهِ الكَلِمَةِ في مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ . وَأمَرَهُمْ بِأنْ يَسْتَعْمِلُوا بَدَلاً مِنْ كَلِمَةِ « رَاعِنَا » كَلِمَةَ « انْظُرْنا » ومعناها : انْظُرْ إلَينَا أوِ انْتَظِرْنَا أوْ تَأنَّ عَلَينَا . وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ الكَافِرينَ بِالعَذَابِ الأليمِ الذِي أعَدَّهُ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وِسُوءِ أدَبِهِمْ بِحَقِّ الرَّسُولِ الكَرِيمِ( ). وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى : « مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا »( ). يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إنَّهُ أَعْرَفُ مِنْهُمْ بِأَعْدَائِهِمُ اليَهُودَ « الذِينَ هَادُوا » ، وَإنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ يُمِيلُونَ الكَلاَمَ عَنْ مَعْنَاهُ ، وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ « يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ » وَيُرِيدُونَ بِهِ غَيْرَ المَقْصُودِ بِهِ ، وَهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ مِنْهُمْ ، افْتِرَاءً عَلَى اللهِ ، وَرَغْبَةً فِي إِيْذَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُونَ : سَمِعْنَا مَا قُلْتَ يَا مُحَمَّدُ ، وَنَحْنُ لاَ نُطِيعُكَ فِيهِ . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الكُفْرَ وَالعِنَادَ لأَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ عَنْ كِتَابِ اللهِ ، بَعْدَمَا عَقَلُوهُ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الإِثْمِ وَالعُقُوبَةِ عِنْدَ اللهِ . وَيَقُولُونَ : اسْمَعْ مَا نَقُولُ لَكَ لاَ سَمِعْتَ « أَيْ لاَ أَسْمَعَكَ اللهُ دُعَاءً » ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ، مَعْ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِيهَامَ مَنْ حَوْلَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ لَهُ . مَعْ أنَّ المُسْلِمِينَ حِينَمَا كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ العِبَارَةَ إنَّمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا الدُّعَاءَ « لاَ أَسْمَعَكَ اللهُ مَكْرُوهاً » . وَكَانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: « رَاعِنَا » ، وَهُمْ يُوهِمُونَ مَنْ حَوْلَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ « أَرْعِنَا سَمْعَكَ » ، أيْ انْتَبِهْ لِمَا نَقُولُ لَكَ . وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَلُوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فَيَبْدُو وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ سَبَّ النَّبِيِّ وَوَصْفَهُ بِالرُّعُونَةِ .. وَهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بالدِّينِ الذِي يُبَلِّغُهُ النَّبِيُّ عَنْ رَبِهِ إلى عِبِادِ اللهِ . ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْنَّبِيِّ : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرَنا ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ وَأَفْضَلَ ، وَلَكِنَّ اللهَ لَعَنَهُمْ وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَصَرْفِهِمْ عَنِ الخَيْرِ وَالهُدَى ، فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِيْمَاناً نَافِعاً لَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى المَقْطَعِ الأَخِيرِ : إنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ بِالإِسْلاَمِ إلاَّ قَلِيلُونَ( ). وعلق ابن عجيبة على ذلك بقوله : حسنُ الخطاب من تمام الآداب ، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب ، فمن لا أدب له لا تربية له ، ومن لا تربية له لا سَيْر له ، ومن لا سير له لا وصول له ، فمن لا يتربى على أيدي الرجال لا يُربى الرجال ، وقد قالوا : من أساء الأدب مع الأحباب طُرد إلى الباب ، ومن أساء الأدب في الباب طرد إلى سياسة الدواب . وقالوا أيضاً : اجعل عملك ملحاً ، وأدبك دقيقاً . وقال آخر : إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل ، ومن حرم الأدب حُرم الخيرَ كله ، ومن أُعطي الأدب فقد مُكن من مفاتيح القلوب( ). ومن الفوائد التي استنبطها ابن عثيمين من آية البقرة :
1. أنه ينبغي استعمال الأدب في الألفاظ ؛ يعني أن يُتجنب الألفاظ التي توهم سبًّا وشتماً لقوله تعالى : « لا تقولوا : راعنا ، وقولوا : انظرنا » .
2. أن الإيمان مقتضٍ لكل الأخلاق الفاضلة ؛ لأن مراعاة الأدب في اللفظ من الأخلاق الفاضلة ..
3. أن مراعاة الأخلاق الفاضلة من الإيمان ..
4. أنه ينبغي لمن نهى عن شيء أن يدل الناس على بدله المباح ؛ فلا ينهاهم ويجعلهم في حيرة ..
5. وجوب الانقياد لأمر الله ورسوله؛ لقوله تعالى : « واسمعوا » .
6. التحذير من مخالفة أمر الله ، وأنها من أعمال الكافرين ؛ لقوله تعالى : « وللكافرين عذاب أليم »( ).
وقال أحد الأدباء : يتجه الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى « الذين آمنوا » يناديهم بالصفة التي تميزهم ، والتي تربطهم بربهم ونبيهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية . وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : « راعنا » - من الرعاية والنظر - وأن يقولوا بدلاً منها مرادفها في اللغة العربية : « انظرنا » . . ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة ، ويحذرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم : « يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا ، وقولوا انظرنا . واسمعوا . وللكافرين عذاب أليم » وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة « راعنا » .. أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ ، وهم يوجهونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يؤدي معنى آخر مشتقاً من الرعونة . فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي - صلى الله عليه وسلم - مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه ! واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ، وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين( ). ويقول الصالح موضحًا استقلالية المسلم وذاتيته في إحكام البناء الحضاري : كانت آفاقًا مشرقة مضيئة في هدي النبوة ، تلك التي تبدو على تؤام عميق مع قول الله تعالى في سورة البقرة ، ناهيًا المؤمنين عن التشبه باليهود في سوء استخدامهم لبعض الكلمات وما اصطلحوا عليه فيها .. ثم ساق آيات البقرة والنساء السابقة ، ثم علق عليها قائلاً : وكان لتلك الآيات آثار برزت في الحياة العملية والمواقف التي يمكن أن تتكرر كل يوم في علاقة المسلم – الذي يحمل عبء البناء على أسس جديدة ترتبط بعقيدة التوحيد – مع اليهود الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها ، وتراهم وأقوالهم وأفعالهم تنضح بسوء الطوية والحقد على الإسلام والمسلمين . اليهودي يُحَيِّي المسلمين بقوله : « السام عليكم » ، والسام هو الموت ، فيوجه النبي – صلى الله عليه وسلم – المسلمين بأن يردوا هذه التحية بقولهم : « وعليكم » فقط دون أن يضيفوا إليها شيئًا ، والله تبارك وتعالى يستجيب لنا فيهم ، ولا يستجيب لهم فينا . وهذا – في الواقع - لا يتنافى مع قوله تعالى : « وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا »( ) لأن الرسول – عليه الصلاة والسلام – يعلم علم اليقين أن اليهود لم يريدوها بمعناها المرتبط بالود والسلام ، وإنما أرادوها دعاء بالموت على من يخاطبونه من المسلمين ، وإلا فما معنى أن يقولوا : « السام عليكم » ، ومعناها : الموت عليكم !؟ إن رسول الله بهذا التصرف يضع حدًّا فاصلاً بين فهم الدين كما ينبغي – وتطويع السلوك لهذا الفهم – وبين الغفلة باسم التدين ، وهو - صلى الله عليه وسلم – معصوم من هذه الغفلة . ألا ليت لأبناء أمتنا اليوم وبناتها قلوبًا موصولة بالله تعي هذه الحقيقة كما ينبغي ، كيما يوظف الوعي على تلك الدروب الشائكة في معالجة الواقع ، واقع أمتنا مع أعدائها .. لأنه ما لم تتحرر النفوس أولاً من أدران التقليد الأعمى لأولئك الأعداء فلا فائدة تذكر في ميادين المواجهة ورد التحدي باللغة المناسبة . إن ظاهرة الوعي العميق لتحركات اليهود التي تصل في عصر النبوة إلى وزن الكلمة يخاطبون بها رسول الله ، أو التحية المزعومة يلقونها على طريق المسلمين ... إن هذا الوعي العميق الذي نما وتعاظم في ظل معالم الكتاب : جدير أن يوقظ الأمة على مطارق البغي ، وأن يفتح الأبصار وينير البصائر في شتى ميادين البناء كيما تكون الأمة على السنن الذي يرد العاديات في الدنيا وتحسن معه العاقبة يوم الدين( ). ثم أضاف في بناء الإنسان المسلم وأهمية نظره في المصطلحات قوله : لم تكن القضية الوحيدة – قضية تحية اليهود الآنفة الذكر – في هديه - عليه الصلاة والسلام – وهو يسير في بناء الفرد المسلم على الجادة التي تجعل من هذا المسلم – بعون الله – قوة قادرة على بناء المجتمع الأنموذج الذي يصوغ المبادئ والقيم وجودًا متحركًا على ساحة العمل وتسيير دفة الحياة في كل الأصعدة والميادين . بل إنه – صلى الله عليه وسلم – تجاوز تبصير المسلمين بمخاطر التقليد الأعمى لليهود ، والنظر بحذر إلى كل ما يصدر عنهم من مصطلحات ، كما في قولهم لرسول الله : « راعنا » ، وقولهم للمسلمين : « السام عليكم » .. تجاوز ذلك وهو يؤدي أمانة البيان لكتاب الله العزيز ، ويسهر على بناء الإنسان لبنة بعد لبنة إلى مصطلحات درج الناس عليها في الجاهلية فأمر بتركها ، كما استبدل ببعض المصطلحات أخرى تكون على اتساق مع مفهومات الرسالة الخاتمة التي أؤتمن على إبلاغها وتربية المسلمين عليها . كل أولئك ، كيما تكون للمؤمن شخصيته المتميزة التي يستطيع من خلالها أن يسهم في بناء مجتمعه بل وأمته باستقلالية وأصالة وتميز على خط وثيق الصلة ، دائم الارتباط بعقيدة التوحيد ومنهج الحياة الذي كانت – كما شاء الله - عنوانًا عليه . فقد روى البخاري ومسلم - واللفظ هنا لمسلم - عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِم »( ). وفي رواية : « فَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِن »( ). وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم : « وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِن »( ). وقصة ذلك أن العرب كانوا يسمون العنب كرمًا لما يدَّعون من أن ما يعتصر منها من الخمر تحدث في قلوب شاربيها الكرم . فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذه التسمية التي تشعر بمدح الخمر – كما يقول الإمام ابن الجوزي – لتأكيد ذم الخمر وتحريمها . وعلم أن قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان أولى بذلك الاسم . وعلى الطريقة الإيجابية في التربية والإبلاغ وتنمية الحس الصادق بالانتماء أمرهم – صلى الله عليه وسلم – بالبديل عن كلمة الكرم . فقد روى وَائِلٍ بن حجر - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « لَا تَقُولُوا الْكَرْمُ وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبُ وَالْحَبْلَةُ »( ). ويتابع الصالح قوله في بيان واقع الأمة ودلالة المنهج الرباني في بنائها للمصطلحات قوله : كلما تبصر المؤمن بواقع الأمة اليوم وما يقع من ضحايا المصطلحات والتقليد الأعمى من أبنائها ازداد يقينًا بإعجاز الكتاب الكريم ، وما لمعالمه الخيرة من أبعاد عميقة ومتسعة في تاريخ المسلمين بخاصة وفي تاريخ الإنسان بعامة . ويرى الصالح أن أمر المصطلحات في بناء الأمة يتجاوز قضية التحية وتسمية الخمر فيقول : ولكن الوجه الآخر من وجوه الدلالة يبدو – والله أعلم – أشمل من سبب النزول ، إذ إنه عنوان عريض تتجمع تحته كل المقولات التي تعني إحكام البناء لشخصية المسلم ولكيان المجتمع والأمة ، وأن لا تتجارى بأبنائها الأهواء ، فيكون كل قبيل تبعًا لزمرة من زمر الكافرين . وأن يحول دون الفرد والجماعة ودون الذوبان في مصطلحات الآخرين ، حيث يتم ذلك عن منهج متكامل في الفكر والقيم والسلوك ... وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد للمسلم أن يكون على يقظة تامة ووعي كامل في أقواله وأفعاله وتصرفاته جميعًا . وأن يكون ذلك كله متسقًا مع العقيدة التي يحملها والأحكام المنبثقة عن تلك العقيدة . وذلكم هو الإنسان صاحب الرسالة ، الذي يجب إحكام بنائه عليها اليوم . فالواقع والأحداث المتجددة كلها تملي ذلك وتوجبه ، وذلكم هو النواة الحقيقية لجيل التغيير الذي تتطلع إليه الأمة كيما تشرق شمس الحضارة الإسلامية من جديد ، ويعود للإسلام وجوده العملي في دنيا الناس( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ