لعل مما يستحق التدبر والتفكر في شأن الأذكار المختلفة أن منها ما ورد عن نبينا عليه وآله الصلاة والسلام أن يذكر مرة واحدة ، ومنها ما يردد ثلاثا ، ومنها ما يردد أربعا ، ومنها ما يردد عشرا ، ومنها ما يردد ثلاثا وثلاثين ، ومنها ما يردد مئة مرة.
إننا نقرأ الفاتحة في كل ركعة مرة واحدة ، ولننظر كم نصلي في اليوم والليلة من الركعات ثم لنحسب عدد تكرار قراءتنا للفاتحة ، ونردد التكبير في حركات الصلاة باستثناء الرفع من الركوع والتسليم ، ونردد أذكار الركوع والسجود ، وفي هذا الترديد تكرار متباعد غير متتال ، ومثله ما يكون من حالنا مع أذكار ما بعد الصلاة التي من السنة أن نذكرها ونستنير بآثارها من التسبيح والتحميد والتكبير ومن قراءة لآية الكرسي والمعوذات وما نردده من الأذكار في مختلف الأحوال ، فلماذا هذا التكرار للأذكار عموما ولماذا تكرار بعض الأذكار في كل مرة عددا محددا ؟
الأمر في الأذكار كلها ليس سواء ، فلكل ذكر معناه وإشعاعه وأثره ، ولتكرار كل ذكر فائدة خاصة تتعلق بالإنسان نفسه وحاجته إلى هذا الذكر المكرر
ومن المعاني التي تلوح لي في تكرار الأذكار أن في هذا التكرار تثبيتا للمعنى المراد من الذكر في القلب والعقل والحواس ، هذا إذا تم الذكر بوعي وتدبر وتم فيه ربط الألفاظ بالمعاني والمشاهد التي يجب أن ترافقها ، حينئذ لا بد أن يسهم التكرار في تثبيت المعنى تكبيرا لله تعالى وحمدا له على نعمه وتسبيحا بحمده ، فأنت حين تردد مرات كثيرة كل يوم : سبحان الله ، يستقر في عقلك وقلبك وحواسك معنى التسبيح : تنزيها لله تعالى عما يقال بحقه مما لا ينبغي أن يقال ، وتعظيما لجلاله وشأنه ، وكذلك تطهرا بالتسبيح من كل نقص يصدر عن العبد مما لا يليق بتكريم الله تعالى للإنسان.
وأنت حين تردد : الحمد لله ، يستقر في قلبك وعقلك وحواسك إدراك النعم التي لا تعد ولا تحصى التي يستحق الرب سبحانه على إنعامه بها ما هو أهل له من الحمد الذي لا يقوم به إلا أن تحمده بعددها أو أن تقول بإيجاز شامل : يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
وأنت حين تردد : الله أكبر ، يستقر في قلبك وعقلك وحواسك عظمة الله تعالى ويصغر لديك كل ما عدا الله تعالى فتأوي إلى ركن شديد وتحس بالتوكل على من بيده مقاليد كل شيء.
ومن ثمرات تكرار الأذكار : التلذذ بذكر الله تعالى ، فأنت حين تذكر الله سبحانه بأي ذكر من الذكر يفترض أن يملأ قلبك الأنس ، ويغمر قلبك وعقلك وجسدك الخشوع ، ويجللك النور ، وتحس بالطمأنينة ، وإذا كان لمحبوبات الدنيا أنس في قلوب المحبين فأي أنس يفترض أن يغمر قلوب أحباب الله تعالى وهم يذكرونه ؟ وهذا المعنى لا يقتصر على ذكر دون ذكر بل يفترض أن يكون في الأذكار كلها : تسبيحا وتحميدا ، تكبيرا وتهليلا ، حوقلة واستغفارا ، وفي كل ذكر من أذكار الصباح والمساء ، بل في أذكار الأحوال الطارئة
ومن ثمرات تكرار الأذكار التطهر من الذنب وستر العيب ، وسد النقص البشري ، ألا ترى أن الإنسان وهو يستغفر ربه سبحانه كأنما هو في حال وضوء حينا أو اغتسال قلبي وروحي وعقلي وحسي أحيانا ؟ ألا ترى كيف نغسل الغبار بالماء فيزول ؟ وكيف نحتاج أحيانا إلى الصابون لإزالة بعض ما علق باليدين أو الجسد وقد نحتاج أحيانا إلى الاستحمام ؟ كذلك هو حالنا مع الذنوب وحالنا ونحن نردد الاستغفار ، فقد تستغفر ربك مرة واحدة فتقول : رب اغفر لي ، وقد تجد نفسك بحاجة إلى أن تكرر الاستغفار ثلاثا ، وإذا أحسست بثقل الذنب وبتقصيرك في حق الرب سبحانه فقد تجد لسانك يلهج بالاستغفار مئة مرة أو فوق ذلك ، وقس بقية الأذكار وتكرارها على ما سبق ، وقد يفتح الله عليك بمعان للتكرار أخرى ، والله المستعان.