يقول أبو شامة المقدسي في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين: "لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من هم تحت سلطتهم بخروج مافي أيديهم من المعاقل، والقلاع ونصبوا الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد، وحملوه على البتاع فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جا ولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان محترزاً خائفاً من الحشيشية، لايترع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان بذلك.
ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم. وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضرا، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، وما زال يخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية منهزما، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له في وسط سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان. واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى سكن العسكر[5]."
[عدل] الحرب مع الصليبين
بينما كان صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه على عمق سورية فقد كان غالبا يترك الصليبيين لحالهم مرجئا المواجهة معهم وإن كانت غالبا لم تغب عنه حتميتها، إلا أنه كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم، وكان الاستثناء هو موقعة مونتجيسارد يوم 25 نوفمبر 1177 حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ ترك الجنود تسعى وراء الغنائم وتتشتت، فهاجمته قوات بولدوين السادس ملك أورشليم وأرناط وفرسان المعبد وهزمته. إلا أن صلاح الدين عاد وهاجم الإمارات الفرنجية من الغرب وانتصر على بولدوين في معركة مرج عيون في 1179 وكذلك في السنة التالية في موقعة خليج يعقوب، ثم أرسيت هدنة بين الصليبيين وصلاح الدين في 1180.
إلا أن غارات الصليبيين عادت فحفزت صلاح الدين على الرد. فقد كان أرناط يتحرش بالتجارة وبالحجاج المسلمين بواسطة أسطول له في البحر الأحمر، فبنى صلاح الدين أسطولا من 30 سفينة لمهاجمة بيروت في 1182، وعندها هدد أرناطُ بمهاجمة مكة والمدينة، فحاصر صلاح الدين حصن الكرك معقل أرناط مرتين في عامي 1183 و1184، ورد أرناط بمهاجمة قوافل حجاج مسلمين سنة 1185.
تروى مصادر فرنسية من القرن الثالث عشر[6] أن أرناط قد أسرَ في غارة أختَ صلاح الدين وإن كان ذلك غير مشهود في المصادر المعاصرة، سواء الإسلامية أو الفرنجية، بل يُذكر أن أرناط هاجم قافلة قبل ذلك وأن صلاح الدين أرسل حراسا لحماية اخته وابنها الذين لم يصبها أذى.
بعد أن استعصى حصن الكرك المنيع على صلاح الدين أدار وجهه وجهة أخرى وعاود مهاجمة عزالدين مسعود بن مودود الزنكي في نواحي الموصل التي كان قد بدأت جهوده في ضمها سنة 1182، إلا أن تحالف عزالدين مع حاكم أذربيجان وجبال حال دون تحقق مراده، ثم إن صلاح الدين مرض فأرسيت معاهدة في 1186.
في عام 1187 سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس في يد صلاح الدين بعد أن هزمت القوات الصليبية في موقعة حطين بتاريخ في 4 يوليو 1187.
حيث ألتقت قوات صلاح الدين في معركة حطين مع القوات المجتمعة بقيادة غي دي لوزينيان نائب ملك مملكة بيت المقدس، وريموند الثالث كونت طرابلس، وفي تلك الموقعة كادت قوات الصليبيين تفنى.
[عدل] فتح القدس
دخلت قوات صلاح الدين القدس يوم 2 أكتوبر 1187 بعد أن أستسلمت المدينة وكان صلاح الدين قد عرض شروطا كريمة للاستسلام، إلا أنها رفضت، فبعد بدء الحصار رفض أن يمنح عفوا للأوروبيين من سكان القدس حتى هدد باليان بقتل كل الرهائن المسلمين الذين كان عددهم يقدر بخمسة آلاف، وتدمير قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فاستشار صلاح الدين مجلسه ثم قبِل منح العفو، على أن تُدفع فدية لكل فرنجي في المدينة سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، إلا أن صلاح الدين سمح لكثيرين بالخروج ممن لم يكن معهم ما يكفي لدفع الفدية عن جميع أفراد أسرهم.
قبل القدس كان صلاح الدين قد استعاد كل المدن تقريبا من الصليبيين، ما عدا صور التي كانت المدينة الوحيدة الباقية في يد الصليبين. من الناحية الإستراتيجية ربما كان من الأفضل لصلاح الدين فتح صور قبل القدس لكون الأولى بموقعها على البحر تشكل مدخلا لإمدادات الصليبيين من أوروبا، إلا أنه اختار البدء بالقدس بسبب أهميتها الروحية لدى المسلمين.
كانت صور في ذلك الوقت تحت إمرة كونراد أمير مونتفرات الذي حصنها فصمدت أمام حصارين لصلاح الدين. كان صلاح الدين قد أطلق سراح جاي ذي لوزينان وأعاده إلى زوجته سيبيلا ملكة أورشليم، فلجئا أولا إلى طرابلس ثم إلى أنطاكيا، وحاولا عام 1189 استعادة صور إلا أن كونراد حاكمها رفض دخولهما لأنه لم يكن يعترف بجاي ملكا، فذهب جاي لحصار عكا.
[عدل] ريتشارد قلب الأسد والحملة الثالثة
حفّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا وأجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عرفت بضريبة صلاح الدين (بالإنجليزية: Saladin tithe)، قاد الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هم رِتشَرد (قلب الأسد) ملك إنجلترا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وملك ألمانيا فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس، إلا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة، وانضم الآخران إلى حصار عكا التي سقطت في 1191، وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم بمن فيهم نساء وأطفال، في 7 سبتمبر 1191 اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة رتشرد في معركة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلا أن الصليبيين لم يتمكنوا من اجتياح الداخل وبقوا على الساحل وفشلت كل محاولاتهم لغزو القدس فوقّع رِتشَرد في 1192 معاهدة الرملة مع صلاح الدين مستعيدا بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور كما فتحت القدس للحجاج المسيحيين. العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي ورتشرد مثالا على الفروسية والاحترام المتبادلين رغم الخصومة العسكرية، فعندما مرض رتشرد بالحمى أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجا لتبريد الشراب، وهو إلى جانب كونه فعلا كريما يعد استعراضا للقدرة، وعندما فقد رتشرد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين اثنين.
عرض رتشرد على صلاح الدين فلسطين موحدة للمسيحيين الأوربيون والمسلمين العرب بطريق تزويج أخت رتشرد بأخو صلاح الدين وأن تكون القدس هدية زفافهما. إلا أن الرجلين لم يلتقيا أبدا وجها لوجه وكان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل.
[عدل] وفاته
قبر صلاح الدين في دمشقكانت المواجهة مع ريتشارد و معاهدة الرملة آخر أعمال صلاح الدين، إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل ريتشارد، مات صلاح الدين من الحمى في دمشق في 3 مارس 1193، الموافق يوم الأربعاء 27 صفر 589 ھـ. وعندما فُتحت خزانته الشخصية وجدوا أنه لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما واحدا ذهبا سوريا ولم يخلف ملكا ولا دارا، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات [7]
صلاح الدين مدفون في ضريح في المدرسة العزيزية قرب الجامع الأموي في دمشق إلى جوار الملك نور الدين زنكي، وكان فلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا عندما زار دمشق توجه إلى مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية على قبره عليها نقش معناه "ملك بلا خوف ولا ملامة علّم خصومه طريق الفروسية الحق"[8]، كما أهدى نعشا رخاميا للضريح إلا أنه جثمان صلاح الدين لم ينقل إليه وبقي في النعش الخشبي، بينما بقي الهدية في الضريح خاويا إلى اليوم.
في ساعة موته كتب القاضي الفاضل قاضي دمشق إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضي عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام}.
[عدل] صلاح الدين في التراث
[عدل] في الوعي العربي
شعار مصر الحالي هو العقاب الذي اكتشف في قلعة صلاح الدين بالقاهرةبالرغم من أن الدولة التي أسساها صلاح الدين لم تدم طويلا من بعده، إلا أن صلاح الدين يعد في الوعي الإسلامي محرر القدس واستلهمت شخصيته في الملاحم والأشعار وحتى مناهج التربية الوطنية في الدول العربية، كما ألفت عشرات الكتب عن سيرته، وتناولتها المسرحيات والتمثيليات والأعمال الدرامية. لا يزال صلاح الدين يضرب به المثل على القائد المسلم المثالي الذي يعمل على مواجهة أعداءه بحسم ليحرر أراضي المسلمين، دون تفريط في الشهامة والأخلاق الرفيعة. نسر العقاب الذي يرمز للدولة الأيوبية اتخذ كشعار للعديد من الدول العربية في العصر الحديث، إذ يظهر هذا النسر في العلم المصري، كما اتخذ شعارًا رسميآ في سوريا وكذلك لكل من ليبيا و فلسطين والعراق.
[عدل] في الوعي الأوروبي
بالرغم من كونه خصما عنيدا للأوربيين فإن صلاح الدين في الوعي الأوربي ظل نموذجا للفارس الشهم الذي تتجسد فيه أخلاق الفروسية بالمفهوم الأوربي، حتى أنه توجد ملحمة شعبية شعرية من القرن الرابع عشر تصف أعماله البطولية.
كما أن الشاعر دانتي أليجييري مؤلف الكوميديا الإلهية قد وضعه في المطهر مع عدد من الشخصيات التي عدها كافرة - وفق معتقده المسيحي الكاثوليكي - لكنها في نظره شخصيات صالحة وسامية أخلاقيا (وضع دانتي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في المطهر كذلك). كما أن صلاح الدين يصور بشكل مقبول في رواية والتر سكوت التعويذة (The Talisman) المكتوبة سنة 1825.
عام 2006 جُسِدتْ شخصيةُ صلاح الدين في فيلم مملكة الجنة (Kingdom of Heaven) بأسلوب فيه فروسية أخلاق وكرم نفس وقد جسد الشخصية الفنان السوري غسان مسعود. ويدرك الأوربيون أنه بالرغم من المذابح التي أوقعها الصليبيون عندما غزوا القدس في 1099 فإن صلاح الدين قد عفا عن كل المسيحيين الكاثوليك (الأوروبيين) وحتى عن الجنود المنهزمين طالما كانوا قادرين على دفع الفدية، في حين عومل الأرثودكس (و منهم العرب) حتى بأفضل من ذلك لأنهم عادة ما كانوا يعارضون الغزو الأوربي الصليبي.
بالرغم من الاختلاف في العقيدة فإن القُواد المسيحيين امتدحوا صلاح الدين، خصوصا رتشرد قلب الأسد الذي قال عنه أنه أمير عظيم وأنه بلا شك أعظم وأقوى قائد في العالم الإسلامي؛ كما رد صلاح الدين بأنه لم يكن هناك قائد مسيحي أشرف من رتشرد.
قال عنه المؤرخون الأوربيون أن "من الحق أن كرمه وورعه وبعده عن التعصب؛ تلك الليبرالية والنزاهة التي كانت النموذج الذي ألهم مؤرخينا القدماء؛ هي ما أكسبه احتراما في سورية الإفرنجية لا يقل عن الذي له في أرض الإسلام."
منقووووووووووووول