تابع جبل الشيح - جبل جلجال
19- جبل جلجال
لا بد لنا هنا أن نشير إلى أن عددًا من الكتاب القدماء والمحدثين استخدموا لفظ « جلجال » الذي استخدمته التوراة بدلا من الجليل ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر : القرطبي في كتابه الإعلام بما في دين النصارى « ص 249 و 414 » وابن حزم الأندلسي في كتابه الفصل في الملل والنحل «2 /15 و 16 و 45 و 47 » وأبو محمد المصري في أرشيف ملتقى أهل التفسير 10 « ص 1573» . ومحمد رحمت الله الهندي في كتابه « إظهار الحق : 4/1023 » ، ومحمد أحمد ملكاوي في كتابه « مختصر إظهار الحق ، ص 722» ، ومحمد جميل غازي وزملاؤه في كتاب « مناظرة بين الإسلام والمسيحية ، ص 326 » ، ومحمد بيومي مهران في كتابه « دراسات في تاريخ العرب القديم ، ص 396 » ، وإبراهيم البقاعي في تفسيره « نظم الدرر في تناسب الآيات والسور : 6/110 و 211 و9/199- 200 » وفيه : أنه بعد عبور يوشع بن نون نهر الأردن ببني إسرائيل نزلوا الجلجال – أقصى شرق أريحا – وهناك « قال الرب ليشوع : اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً ، ونزل بنو إسرائيل الجلجال ، وعملوا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا ، وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح ، وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً. وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض »( ). أما في ترجمة الكتاب المقدس الحالية فقد كان لفظ النص « وقال الرب ليشوع : اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر ، فدعي اسم ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم . فحل بنو اسرائيل في الجلجال ، وعملوا الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر مساء في عربات أريحا . وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرًا و فريكًا في نفس ذلك اليوم( ) . وهذا النص يدل على أن التسمية عبرية ، ولكن ورد في سفر التثنية « وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها ، فاجعل البركة على جبل جرزيم ، واللعنة على جبل عيبال . أما هما في عبر الأردن وراء طريق غروب الشمس ، في أرض الكنعانيين الساكنين في العربة ، مقابل الجلجال بجانب بلوطات مورة »( ). ولما كان سفر التثنية من الأسفار التي نزلت على موسى – عليه السلام – فإنه بناء على ذلك فالتسمية موجودة قبل دخول بني إسرائيل إلى فلسطين وعبورهم نهر الأردن !! وهذا يدل على اقتباس التوراة للتسمية من الأمم السابقة كالكنعانيين التي كانت تسكن المنطقة ، وليس تسميتهم هم لها بهذا الاسم . وقد علق الدكتور منقذ السقار على ذلك قائلاً : « كما نجد في مواضع كثيرة أن كاتب السفر – سفر يشوع - يخبرنا ببقاء بعض المسميات التي سميت في عهد يشوع ، وأنها لم تتغير بتقادم الأيام وتصرم السنين ، ومن المؤكد أن يشوع ليس القائل . أن هذه المسميات ظهرت في عصره ، وليس من المعتاد تغير أسماء المدن في وقت قريب ، يقول سفر يشوع : « فدعي اسم ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم » « يشوع : 5/9» ، أي ما زال اسمه كذلك إلى زمن كتابة السفر » ( ). لذا قال عبد الوهاب المسيري في وصفها : « الجليل » من « الجلجال » ، وهو لفظ سامي يُرجَّح أن يكون كنعاني الأصل ، ومعناه : « الحجر المسندي الشكل » ، ومعنى الكلمة بالعبرية « دائرة » أو « مقاطعة »( ).
وورد اسم « الجلجال » في أدبيات الكتاب المقدس كثيرًا ، فمن ذلك ما ورد في سفر يشوع « وصعد الشعب من الأردن في اليوم العاشر من الشهر الأول ، وحلوا في الجلجال في تخم أريحا الشرقي . والاثنا عشر حجرًا التي أخذوها من الأردن نصبها يشوع في الجلجال »( ). وجاء وفد الحويين فعقدوا معهم صلحًا « وساروا – أي الحويون - إلى يشوع ، إلى المحلة في الجلجال ، و قالوا له ولرجال إسرائيل من أرض بعيدة جئنا ، والآن اقطعوا لنا عهدًا »( ). ولما صالح أهل جبعون بني إسرائيل اجتمع لحربهم « فاجتمع ملوك الأموريين الخمسة : ملك أورشليم ، وملك حبرون ، وملك يرموت ، وملك لخيش ، وملك عجلون ، وصعدوا هم وكل جيوشهم ، ونزلوا على جبعون وحاربوها . فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال يقولون : لا ترخ يديك عن عبيدك ، اصعد إلينا عاجلًا وخلصنا وأعنا ، لأنه قد اجتمع علينا جميع ملوك الأموريين الساكنين في الجبل . فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع رجال الحرب معه وكل جبابرة البأس . فقال الرب ليشوع : لا تخفهم لأني بيدك قد أسلمتهم ، لا يقف رجل منهم بوجهك . فأتى إليهم يشوع بغتة ، صعد الليل كله من الجلجال . فأزعجهم الرب أمام إسرائيل ، وضربهم ضربة عظيمة في جبعون ، وطردهم في طريق عقبة بيت حورون ، وضربهم إلى عزيقة وإلى مقيدة »( ). وبعد النصر « رجع يشوع وجميع إسرائيل معه إلى المحلة في الجلجال »( ). ثم ذكر ملوك الأرض الذين دانوا لبني إسرائيل واستولوا على بلادهم ، وعدَّ منهم « ملك دور في مرتفعات دور واحد ، ملك جوييم في الجلجال واحد »( ). وطلب كالب بن يفنة من يشوع أن يعطيه حبرون لقاء خدماته من عهد موسى فأعطاه إياها « فتقدم بنو يهوذا الى يشوع في الجلجال و قال له كالب بن يفنة القنزي : أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع »( ). ثم ذكر حدود ما وصل إليه من فتوحات فذكر منها ما يشمل الجلجال « وصعد التخم إلى دبير من وادي عخور ، وتوجه نحو الشمال إلى الجلجال التي مقابل عقبة أدميم التي من جنوبي الوادي ، وعبر التخم إلى مياه عين شمس ، وكانت مخارجه إلى عين روجل »( ). وجاء في سفر القضاة « وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم ، وقال : قد أصعدتكم من مصر ، وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم ، وقلت : لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد »( ). وتحدث السفر عن طريقة اغتيال اهود لعجلون ملك مؤاب ، فقال بعد أن قدم له الوفد الإسرائيلي هدية وخرج من عنده : « وأما هو فرجع من عند المنحوتات التي لدى الجلجال ، وقال : لي كلام سر إليك أيها الملك ! فقال : صه ! وخرج من عنده جميع الواقفين لديه »( ). وجاء في سفر صموئيل الأول ورد « وقضى صموئيل لإسرائيل كل أيام حياته . وكان يذهب من سنة إلى سنة ، ويدور في بيت إيل والجلجال والمصفاة ويقضي لإسرائيل في جميع هذه المواضع »( ). وفي موضع آخر منه ورد « وتنزل قدامي إلى الجلجال ، وهوذا أنا أنزل إليك لأصعد محرقات ، وأذبح ذبائح سلامة ، سبعة أيام تلبث حتى آتي إليك وأعلمك ماذا تفعل »( ). وبعد انتصار بني إسرائيل على العمونيين « قال صموئيل للشعب : هلموا نذهب إلى الجلجال ، ونجدد هناك المملكة . فذهب كل الشعب إلى الجلجال ، وملكوا هناك شاول أمام الرب في الجلجال ، وذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب ، وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جدًّا »( ). وفي النفير لحرب الفلسطينيين « فسمع جميع إسرائيل قولًا ، قد ضرب شاول نصب الفلسطينيين ، وأيضًا قد أنتن إسرائيل لدى الفلسطينيين ، فاجتمع الشعب وراء شاول إلى الجلجال »( ). « وبعض العبرانيين عبروا الأردن إلى أرض جاد وجلعاد ، وكان شاول بعد في الجلجال ، وكل الشعب ارتعد وراءه . فمكث سبعة أيام حسب ميعاد صموئيل ، ولم يأت صموئيل إلى الجلجال والشعب تفرق عنه . فقال شاول قدموا إلي المحرقة وذبائح السلامة ، فأصعد المحرقة . وكان لما انتهى من إصعاد المحرقة إذا صموئيل مقبل ، فخرج شاول للقائه ليباركه . فقال صموئيل : ماذا فعلت ؟ فقال شاول : لأني رأيت أن الشعب قد تفرق عني ، وأنت لم تأت في أيام الميعاد ، والفلسطينيون متجمعون في مخماس . فقلت : الآن ينزل الفلسطينيون إلي إلى الجلجال ، ولم أتضرع إلى وجه الرب ، فتجلدت وأصعدت المحرقة . فقال صموئيل لشاول : قد انحمقت ، لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها ، لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد . وأما الآن فمملكتك لا تقوم ، قد انتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه ، وأمره الرب أن يترأس على شعبه ، لأنك لم تحفظ ما أمرك به الرب . وقام صموئيل وصعد من الجلجال إلى جبعة بنيامين وعد شاول الشعب الموجود معه نحو ست مئة رجل »( ). وفيه أيضًا « فبكر صموئيل للقاء شاول صباحًا ، فأخبر صموئيل وقيل له : قد جاء شاول إلى الكرمل ، وهوذا قد نصب لنفسه نصبًا ، ودار وعبر ونزل إلى الجلجال »( ). وتابع قوله بعد النصر « قال صموئيل : قدموا إلي أجاج ملك عماليق ، فذهب إليه أجاج فرحًا ، وقال أجاج : حقًا قد زالت مرارة الموت . فقال صموئيل : كما أثكل سيفك النساء ، كذلك تثكل أمك بين النساء . فقطع صموئيل أجاج أمام الرب في الجلجال »( ). وفي سفر صموئيل الثاني ورد « فرجع الملك وأتى إلى الأردن ، وأتى يهوذا إلى الجلجال سائرًا لملاقاة الملك ، ليعبر الملك الأردن . فبادر شمعي بن جيرا البنياميني الذي من بحوريم ، ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك داود»( ). وفيه استقبال الملك داود « وعبر الملك إلى الجلجال ، وعبر كمهام معه ، وكل شعب يهوذا عبروا الملك ، وكذلك نصف شعب إسرائيل »( ). وفيه كان رفع إيليا إلى السماء من الجلجال « وكان عند إصعاد الرب إيليا في العاصفة إلى السماء : أن إيليا واليشع ذهبا من الجلجال »( ). وحول إصلاح الطعام و تكثيره جاء فيه « ورجع اليشع إلى الجلجال ، وكان جوع في الأرض ، وكان بنو الأنبياء جلوسًا أمامه ، فقال لغلامه : ضع القدر الكبيرة واسلق سليقة لبني الأنبياء »( ). وعند تدشين سور أورشليم شارك مغنو الجلجال غيرهم « وعند تدشين سور أورشليم طلبوا اللاويين من جميع أماكنهم ليأتوا بهم إلى أورشليم ، لكي يدشنوا بفرح وبحمد وغناء بالصنوج والرباب والعيدان . فاجتمع بنو المغنين من الدائرة حول أورشليم ومن ضياع النطوفاتي . ومن بيت الجلجال ، ومن حقول جبع وعزموت ، لأن المغنين بنوا لأنفسهم ضياعًا حول أورشليم »( ). وينكر هوشع عليهم الزنا الذي انتشر بينهم « إن كنت أنت زانيًا يا إسرائيل فلا يأثم يهوذا ، ولا تأتوا إلى الجلجال ، و لا تصعدوا إلى بيت أون ، ولا تحلفوا : حي هو الرب »( ). ومن أجل شرورهم أبغضهم « كل شرهم في الجلجال ، إني هناك أبغضتهم ، من أجل سوء أفعالهم أطردهم من بيتي ، لا أعود أحبهم ، جميع رؤسائهم متمردون »( ). وتابع نكيره عليهم فقال : « إنهم في جلعاد قد صاروا إثمًا بطلًا ، لا غير في الجلجال ، ذبحوا ثيرانًا ، ومذابحهم كرجم في أتلام الحقل »( ). ووتتابع صورة الإثم في سفر عاموس « هلم إلى بيت إيل ، وأذنبوا إلى الجلجال ، وأكثروا الذنوب ، وأحضروا كل صباح ذبائحكم ، وكل ثلاثة أيام عشوركم »( ). وفي مرثاة إسرائيل ورد في سفر عاموس « ولا تطلبوا بيت إيل ، وإلى الجلجال لا تذهبوا ، وإلى بئر سبع لا تعبروا ، لأن الجلجال تسبى سبيًا ، وبيت إيل تصير عدمًا »( ). وفي سفر ميخا يخاطب الرب بني إسرائيل : « يا شعبي ! اذكر بماذا تأمر بالاق ملك مؤاب ، وبماذا أجابه بلعام بن بعور من شطيم إلى الجلجال ، لكي تعرف اجادة الرب »( ). وفي سفر دانيال وصف لتخاذل بني إسرائيل عن قتال عدوهم وهزيمة الباقين « ولما سمع ديمتريوس بأن نكانور و جيوشه قد سقطوا في الحرب ، عاد ثانية فأرسل إلى أرض يهوذا بكيديس والكيمس ومعهما الجناح الايمن . فانطلقا في طريق الجلجال ، ونزلا عند مشالوت بأربيل فاستوليا عليها ، وأهلكا نفوسًا كثيرة .. »( ). ولا يسعنا في ختام هذه الأدبيات إلا أن نشير إلى معنى « الجلجال » في اللغة العربية وهو : الصوت الكثير الشديد المتواتر كصوت سقوط المطر وصوت الرعد وصوت الجيش لكثرة عدده( ). وقد أقامت فيه إسرائيل مستوطنة دعتها باسم جلجال( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ