1. المعرة :
قال الأستاذ سعد الدين تحت عنوان « قطنا في العهد الآرامي » : والدليل على أن اسم قطنا القديم هو « المعرّة » لم يعثر عليه في البحث ، ولكن بالقرائن والدلائل قدِّر ترجيح هذا الاسم لكثرة المغائر فيها ، شأن البلدات التي وجدت فيها مغائر ، مثل معرة صيدنايا ومعرة مصرين ومعرة النعمان . ولا تزال قطنا تحمل إلى اليوم أسماء آرامية مثل : وادي المعرة : « معارثو » أو وادي المغارة( ). وفي الحقيقة فإن التسمية بالمعرة مثير للجدل بين الباحثين ، وهو يعكس اختلافهم البيِّن في ذلك ، فقد قيل في تسميتها :
1. أنها تسمية عربية مشتقة من المعرة ، وقد ورد ذكر ذلك في قوله تعالى في كتابه الكريم : « هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ، وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا »( ). قال ابن عاشور : أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لما صدوهم عن البيت ، لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم ، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم ، فالجملة معطوفة على جملة « وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ » أو على جملة « وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ »( ) الخ . وأيًّا ما كان فهي كلام معترض بين جملة « هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ » الخ وبين جملة « إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ »( ). ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته . و « لولا » دالة على امتناع لوجود ، أي امتنع تعذيبنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم . وما بعد « لولا » مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع « لولا » إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجودًا مطلقًا غير مقيد بحال ، فالتقدير : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون ، كما يدل عليه قوله بعده « لو تزيلوا » ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم ، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب « لولا » . وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه ، ولكن الامتناع ليس معلقًا على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم . وكذلك قوله « لم تعلموهم » ليس هو خبرًا بل وصفًا ثانيًا إذ ليس محط الفائدة . ووجه عطف « نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ » مع أن وجود « رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ » كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول : ولولا المؤمنون ، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالبًا ، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاع المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن . ومعنى « لم تعلموهم » لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا . فعن جُنْبُذ بن سَبُع ، ويقال : سِباع يقال : إنه أنصاري ، ويقال : قاري صحابي قال : هم سبعة رجال سمى منهم الوليد بن الوليد ابن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش ابن أبي ربيعة ، وأبو جندل ابن سهيل ، وأبو بصير القرشي ، ولم أقف على اسم السابع ، وعدت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب ، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رجع إلى المدينة . وعن حجر بن خلف : ثلاثة رجال وتسع نسوة ، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين . والظاهر أن المراد بقوله « لَمْ تَعْلَمُوهُمْ » ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ، ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم ، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبية من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمنًا وإن كان يعرفهم المهاجرون ، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان ، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار . و « أَنْ تَطَأُوهُمْ » بدل اشتمال من « رجال » ومعطوفه ، أو من الضمير المنصوب في « لَمْ تَعْلَمُوهُمْ » أي لولا أن تطئوهم . والوطء : الدوس بالرجل ، ويستعار للإبادة والإهلاك ، وقد جمعهما الحارث بن وعلة الذهلي في قوله :
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
والإصابة : لحاق ما يصيب . و« من » في قوله « منهم » للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب ، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم معرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم . والمعرة : مصدر ميمي من عَرَّهُ ، إذا دهاه ، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة ، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضرارًا بالمسلمين من ديات قتلى ، وغرم أضرار ، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه ، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم ليكرهوا العرب في الإسلام وأهله . والباء في « بِغَيْرِ عِلْمٍ » للملابسة ، أي ملابسين لانتفاء العلم . والمجرور بها متعلق بـ « تصيبكم » ، أي فتلحقكم من جرائهم مكاره لا تعلمونها حتى تقعوا فيها . وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله « لم تعلموهم » لأن العلم المنفي في قوله « لم تعلموهم » هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة . والعلم المنفي ثانيًا في قوله « بِغَيْرِ عِلْمٍ » هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلكين ، وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سببًا في الإقدام على إهلاكهم . واللام في قوله « لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ » للتعليل والمعلل واقع لا مفروض ، فهو وجود شرط « لولا » الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط ، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا ، وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم ، وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم ، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك ، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة ، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة ، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة( ). وننتقل إلى معاجم اللغة العربية لإلقاء مزيد من الضوء على التسمية . قال الزبيدي : المَعَرَّة : أَي الإثم ، وتُطلَق المعرَّة بمعنى الأذى . وتأتي بمعنى الغُرْم والجِناية والعَيْب والدِّية . وبمعنى الصُّعوبة والشِّدَّة ، وَقِيلَ : الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ( ). وَفِي حَدِيث عُمَرَ بنِ الخَطّابِ - رَضِي الله عَنهُ -: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ من مَعَرَّةِ الجَيْش . قَالَ شَمِرٌ : مَعْنَاهُ أَنْ يَنْزِلُوا بِقَوْم فيَأْكُلُوا من زُرُوعهم شَيئاً بِغَيْر عِلْمٍ . وَقيل : هُوَ قِتَالُ الجَيْشِ دُونَ إِذْنِ الأَمِيرِ . وَقيل : وَطْأَتهُمُ مَنْ مَرُّوا بِهِ مِنْ مسْلِمٍ أَو مُعَاهَد ، وإِصابَتهم إِيّاهم فِي حَرِيمِهم وأَمْوالِهِم بِما لَمْ يُؤْذَنْ لَهُم فِيهِ( ).
2. المَعَرَّة : كَوْكَبٌ دونَ المَجَرَّة ، وَفِي الحَدِيث( ) : أَنَّ رَجُلاً سَأَل آخَرَ عَن مَنْزِله ، فأَخْبَره أَنّه يَنْزِل بَيْنَ حَيَّيْنِ مِن العَرَب ، فَقَال : نَزَلْتَ بَيْنَ المَعَرَّةِ والمَجَرَّةِ ، المَجَرّةُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ : البَيَاضُ الْمَعْرُوف ، والمَعرة : مَا وَرَاءَها من ناحِيَةِ القُطْب الشَّمَاليّ ، سُمِّيت مَعَرَّةً لِكَثْرَة النُّجُوم فِيهَا . أَراد : بَين حَيَّيْن عَظيمين لِكَثْرَة النجوُم . وأَصل المَعَرَّة : موضعُ العَرِّ وَهُوَ الجَرَب ، وَلِهَذَا سَمَّوُا السماءَ الجَرْباءَ ، لِكَثْرَة النُّجوم فِيهَا . تَشْبِيهاً بالجَرَب فِي بَدَن الإِنْسَان( ).
3. المَعَرَّة : تَلوُّنُ الوَجْهِ غَضَبًا( ).
4. أَرض معِرَةٌ : إِذا انْجَرَد نَبْتها . وأَرض معِرَة : قليلةُ النباتِ . وأَمْعَرَتِ الأَرض : لَمْ يَكُ فِيهَا نباتٌ . وأَمْعَرَتِ الْمَوَاشِي الأَرضَ : إِذا رعتْ شجرَها فَلَمْ تدَعْ شَيْئًا يُرْعَى( ).
5. المعرة لفظة آرامية « أي سريانية » الأصل ، من « مغرتا » وتعني المغارة أو الكهف لكثرة المغاور والكهوف فيها( ). وذكر الغزي ذلك فقال : يحتمل أن تكون لفظة المعرة هنا سريانية معناها المغارة ، سميت بذلك لأن هذه المدينة مشتملة على كثير من المغاور. وأن أصلها في السريانية معرَّتا ، فتصرّف بها العرب وقالوا معرة ، وتاؤها في اللغتين للتأنيث( ). قال الأستاذ أمين : كلمة المعرة آرامية تعني المغاور ، وأينما تجولت في قطنا تجد المغاور ، ولكن التبدلات المناخية والكوارث الطبيعية غيرت معالم الأرض( ). ومن تلك المغاور نذكر على سبيل المثال : مغارة وادي البياض التي كان السكان يستخرجون منها البياض إلى وقت قريب ، الذي كانوا يطلون به جدران منازلهم ليصبح لونها أبيض ، ومغارة القصعة ومغارة الهوة وهاتان المغارتان كان يستخدمهما الرعاة ، ومغارة جامع الشيخ حسن الراعي ، ومغارة جامع العمري وغيرها كثير .
وفي الواقع فإنه اشتهر ببلاد الشام عدد من البلدان بهذا الاسم أهمها :
1. معرَّة النعمان : تقع مدينة المعرة « معرة النعمان » جنوبي إدلب في سوريا ، وتبعد عن مدينة حلب 84 كم وعن مدينة حماة 60 كم . وهي تعلو عن سطح البحر بـ 496 م . ومما أعطى مدينة المعرة هذه الأهمية هو ما تتمتع به من مناخ لطيف ، وموقع استراتيجي ، لاسيما مجاورتها لمملكة إيبلا ووقوعها أيضاً بين مملكتين قديمتين هامتين هما : أفاميا في الجنوب الغربي ، وشاليسيس « قنسرين » إلى الشمال منها . فضلاً عن السهول الخصبة ، والطبيعة الجيولوجية التي امتازت بها أيضًاً . كل هذه العوامل جعلت من مدينة المعرة « معرة النعمان » مهوى أفئدة الإنسان القديم ، الذي استقر بها ، وأفرز بصمات لا تمحى على أرضها . وقد توضعت نواة مدينة المعرة فوق ثلاثة تلال أثرية هي « بنصرة ، ومنصور باشا ، والفجل » واستمرت فيها الحياة حتى العصر الكلاسيكي حيث شرعت أسباب المدينة بالارتقاء ، حيث ساد الأمن والطمأنينة ، فانحدر سكان تلك التلال إلى السهل المتوسط ، وأنشأوا مدينتهم الجديدة « المعرة » لتصبح فيما بعد مهد الأديب الشاعر والفيلسوف المنسوب إلِى هَذِه المَدينَة أَبو العَلاءِ المَعَرِّيّ أَحْمَدُ بْن عبد الله بن سَلَيْمَانَ التَّنُوخِيُّ وأَقارِبُه . ومَيْمُونُ بن أَحْمدَ المَعَرِّيّ ، وآخَرُون . فبلغت شهرتها الأمصار ، وازدهرت حضارتها فذكرها الرحالة والباحثون والعلماء والمؤرخون . وفي الواقع فإن معرة النعمان من المدن السورية المغرقة بالقدم التي شهدت أحداثًا كثيرة عبر تاريخها الطويل ، وحروبًا دامية ، فقد غزاها الآشوريون واليونانيون والفرس والرومان والبيزنطيون .
ومن المحتمل أن تكون المعرة قد قامت في موقع « عرّا » القديمة الواقعة على طريق كالسيس « قنسرين » - حماة ؛ وذلك لتكون محطة للقوافل العابرة من حماة إلى حلب ، ومن منطقة الغاب والبحر إلى بادية الشام ، وبالعكس . ويذكر أن عدة أعمدة قديمة قد تم اكتشافها فيها( ). قال المهلبي : هي مدينة جليلة العمارة ، كثيرة الفواكه والثمار والخصب ، وشرب أهلها من الآبار( ). قال ناصر خسرو : هِي مَدِينَة عامرة ، وَلها سور مَبْنِيّ ، وَقد رَأَيْت على بَابهَا عمودًا من الْحجر عَلَيْهِ كِتَابَة غير عَرَبِيَّة ، فَسَأَلت : مَا هَذَا ؟ فَقيل : إِنَّه طلسم الْعَقْرَب ، حَتَّى لَا يكون فِي هَذِه الْمَدِينَة عقرب أبدًا وَلَا يَأْتِي إليها ، وَإِذا أحضر من الْخَارِج وَأطلق بهَا فَإِنَّهُ يهرب وَلَا يدخلهَا( ) ، وَقد قست هَذَا العمود فَكَانَ ارتفاعه عشر أَذْرع . وَرَأَيْت أسواق معرة النُّعْمَان وافرة الْعمرَان ، وَقد بني مَسْجِد الْجُمُعَة على مُرْتَفع وسط الْمَدِينَة بِحَيْثُ يصعدون إليه من أَي جَانب يُرِيدُونَ ، وَذَلِكَ على ثَلَاث عشرَة دَرَجَة . وزراعة السكان كلهَا قَمح وَهُوَ كثير ، وفيهَا شجر وفير من التِّين وَالزَّيْتُون والفستق وَالْعِنَب ، ومياه الْمَدِينَة من الْمَطَر والآبار . وَكَانَ بِهَذِهِ الْمَدِينَة رجل أعمى اسْمه أَبُو الْعَلَاء المعري وَهُوَ حاكمها ، وَكَانَ وَاسع الثراء ، عِنْده كثير من العبيد ، وَكَانَ أهل الْبَلَد خدم لَهُ . أما هُوَ فقد تزهد فَلبس الكلتم ، وَاعْتَكف فِي الْبَيْت ، وَكَانَ قوته نصف مَنٍّ من خبز الشّعير ، لَا يَأْكُل غَيره ، وَقد سَمِعت أَن بَاب سرايه مَفْتُوح دَائِمًا ، وَأَن نوابه وملازميه يدبرون أَمر الْمَدِينَة وَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْأُمُور الهامة ، وَهُوَ لَا يمْنَع نعْمَته أحدًا ، يَصُوم الدَّهْر وَيقوم اللَّيْل وَلَا يشغل نَفسه مُطلقًا بِأَمْر دُنْيَوِيّ . وَقد سما المعري فِي الشّعْر وَالْأَدب إِلَى حد أَن أفاضل الشَّام وَالْمغْرب وَالْعراق يقرونَ بِأَنَّهُ لم يكن من يدانيه فِي هَذَا الْعَصْر ، وَلَا يكون ، وَقد وضع كتابا سَمَّاهُ الفضول والغايات ، ذكر بِهِ كَلِمَات مرموزة وأمثالا فِي لفظ فصيح عَجِيب ، بِحَيْثُ لَا يقف النَّاس إِلَّا على قَلِيل مِنْهُ ، وَلَا يفهمهُ إِلَّا من يقرأه عَلَيْهِ . وَقد اتَّهَمُوهُ بأنك وضعت هَذَا الْكتاب مُعَارضَة لِلْقُرْآنِ . يجلس حوله دَائِما أَكثر من مِائَتي رجل : يحْضرُون من الْأَطْرَاف يقرؤُون عَلَيْهِ الْأَدَب وَالشعر ، وَسمعت أَن لَهُ أَكثر من مائَة ألف بَيت شعر . سَأَلَهُ رجل : لم تعط النَّاس مَا أَفَاء الله تبَارك وَتَعَالَى عَلَيْك من وافر النعم ، وَلَا تقوت نَفسك ؟ فَأجَاب : إِنِّي لَا أملك أَكثر مِمَّا يُقيم أودي . وَكَانَ هَذَا الرجل حَيًّا وَأَنا هُنَاكَ( ). وذكر الشريف الإدريسي أنها : في ذاتها كبيرة عامرة ، كثيرة المباني والأسواق ، وليس بأرضها ولا في شيء من نواحيها ماء جار ولا عين ، والغالب على أرضها الرمال ، وشرب أهلها من ماء السماء ، وهي كثيرة الخير والشجر( ). وقيل في تسميتها :
1. قال البكري : سمّيت معرّة النعمان بذلك لأنّ الجبل المطلّ عليها اسمه النعمان( ).
2. قال البلاذري وغيره : أن معَرَّةُ النُّعْمَانِ سميت بهذا الاسم لأن النعمان ابن بشير الصحابيّ اجتاز بها فمات له بها ولد فدفنه وأقام عليه فسميت به( ) . وأما أبو بكر السويدي فذكر أن إضافتها إلى النعمان بن بشير الأنصاري لأنه تديرها فنسبت إليه( ). وكذلك قال ابن خلكان في تاريخه وأضاف : أنه كان يقال لها قبله معرة حمص( ). وسميت معرة حمص لتابعيتها مركز الجند في مدينة حمص ، أما نسبة النعمان فهناك أكثر من رواية لعل من أرجحها هو نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي الذي كان والياً على حمص ، فحين توفي ولده كان يعبر مدينة المعرة فأقام حزناً عليه لعدة أيام فنسبت له( ). وقال الغزي : كانت المعرة معروفة عند العرب بذات القصور إلى أن سميت بمعرة النعمان للسبب الذي تقدم ذكره( ).
3. عقب ياقوت على ذكر البلاذري لهذا السبب في كتابه فتوح البلدان : بأنه في رأيه سبب ضعيف لا تسمى بمثله مدينة ، والذي يظنه أنها مسمّاة بالنعمان الملقب بالساطع بن عدي بن غطفان التنوخي القضاعي( ). واستصوب الغزي قوله معللًا ذلك بقوله : لأن التنوخيين كانوا يقطنون هذه النواحي( ).
4. ويقال سميت بذلك نسبة إلى النعمان بن المنذر( ).
5. سميت في العهد الروماني « أرّا » أي القديمة ، وفي العهد البيزنطي سميت « مأرَّا »( ). ويبدو أنه من التسمية الأخيرة أخذ المسلمون العرب الفاتحون اسم مَعَرَّة بإبدال الهمزة في وسط الكلمة عينًا .
وقد دعيت المعرة في العصر العباسي باسم « العواصم » ، وهو من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء ، إذ أن منطقة العواصم تلي منطقة الثغور على حدود دولة الروم البيزنطيين ، وفي تعبيرنا المعاصر تمثل منطقة العواصم خط الدفاع الثاني ، حيث ذكرها أبو العلاء في شعره بقوله :
متى سآلت بغداد عني وأهلها ... فإني عن أهل العواصم سائل
« العواصم = معرة النعمان »( ). قال ياقوت : وهي مدينة كبيرة قديمة مشهورة من أعمال حمص ، بين حلب وحماة ، ومنها كان أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّي القائل :
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليها الدهر منذ ليال
فهل فيك من مـــاء المعرّة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال ؟( )
وفي سنة 492هـ سار الفرنج الصليبيون إلى المعرة وملكوها ، وقتلوا
فيها زهاء مائة ألف وســــــلبوا ، وأقاموا فيها أربعين يومًا . وفي ذلك
يقول بعض المعرّيين :
معـــرّة الأذكــياء قد حردت ... عنّا، وحقّ المليحة الحرد
في يوم الاثنين كان موعدهم ... فما نجا من خميسهم أحد( )
وفي سنة 713 هـ( ) خرجت معرة النعمان من معاملات حماة وأضيفت إلى معاملات حلب( ). وفي عام 1248هـ( ) استولى عليها إبراهيم باشا المصري ابن محمد علي وأمر بتجنيد الصغار والكبار وتسخير الناس في الأعمال الشاقة ، ثم ما لبثت أن تعرضت من بعد للاعتداء والنهب من قبل جنده في عام 1256هـ( ) ، إلى أن عادت إلى العثمانيين في هذه السنة نفسها ، لترزح تحت سيطرتهم حتى عام 1337هـ( ) حيث انضوت تحت لواء الحكومة العربية ، ونعمت كشقيقاتها بالحرية ، ولكن ذلك العهد لم يطل فدخلتها أرتال الجيش الفرنسي في عام 1338هـ( ) لتقع كغيرها تحت نير الانتداب الفرنسي وتخضع لنظمه ومظالمه . ولقد شارك أبناء المعرة في مختلف الانتفاضات والثورات ضد المحتل الغاصب وعلى مدى ستة وعشرين عامًا حتى أطل صباح الجلاء عام 1366هـ( ) واحتفلت مع أخواتها بعيد الجلاء والنصر وسارت معها لتسطير صفحة جديدة ناصعة من صفحات الاستقلال الوطني والتقدم نحو السيادة والحرية والمجد( ).
2. مَعَرَّةُ مَصْرِينَ : مدينة صغيرة نزهة ، مياهها من الأمطار( ). كانت إلى جبل السّماق بلد التين والزبيب والفستق والسّماق وحبة الخضراء ، يخرج عن الحدّ في الرخص ، ويحمل إلى مدن العراق ، ويجهز إلى كل بلد( ). والمعرة ورد معناها في معرة النعمان ، ومَصْرِين : كأنه جمع مصر ، والمَصر : حلب بأطراف الأصابع( ) . قال الغزي : والصواب أن معرة مصرين لفظان سريانيان : تعريبهما مغارة الأمصار ، والأمصار بالسريانية هي الأمطار . وكانت هذه القرية مدينة مذكورة وبلدة مشهورة محفوفة بالأشجار ، وشرب أهلها من ماء الأمطار ، ولها سور قديم مبني بالحجر ، وقد انهدم ولم يبق منه أثر . وقد فتحت عن يد أبي عبيدة سنة 17هـ . وهي بليدة وكورة بنواحي حلب ومن أعمالها بينهما نحو خمسة فراسخ ، وقال حمدان بن عبد الرحيم يذكرها :
جادت معــرّة مصرين من الدّيـــم ... مثل الذي جاد من دمعي لبينهـم
وســـالمتها الليـــالي فـي تغيّــرها ... وصافحتها يـــد الآلاء والنّعــــم
ولا تناوحــت الأعصـــار عاصفة ... بعرصتيها كــما هبّت على إرم
حاكت يـــد القطر في أفنانها حللا ... من كل نور شنيب الثغر مبتسـم
إذا الصّبا حرّكت أنوارها اعتنقت ... وقبّلت بعضها بعضــًا فما بفـــم
فطال ما نشــرت كفّ الربيع بها .. بهار كسرى مليك العرب والعجم( )
3. معرة صيدنايا : بلدة في منطقة التل من محافظة ريف دمشق . تقع في سهل مرتفع تابع لسلسلة جبال القلمون على مسافة 30 كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من مدينة دمشق ، وهي ترتفع نحو 1200 متر عن سطح البحر . وأصل تسميتها آرامي « معرتا » ويعني مغارة ، وفي الواقع تكثر المغاور والكهوف في هذه المنطقة . ويبلغ عدد سكانها نحو 3500 نسمة ، وتعتبر من المصايف الجميلة ، لطيب مائها ونقاوة هوائها . وتتميز المعرة بتراثها المسيحي حيث يتواجد فيها مقام النبي إيليا الحي الذي يعتبر من أشهر وأهم الأديرة ، ومقام القديس ثاودروس التيروني في المدفن ، بالإضافة إلى كنيسة مار الياس للروم الكاثوليك ، وكنيسة مار الياس للروم الأرثوذكس ، ودير القديس مار أفرام السرياني للسريان الأرثوذكس . وبعد التنقيب الطويل عن تاريخها تم التوصل إلى المعلومات التاريحية التالية : لقد جاء في كتاب تاريخ حوادث الشام ولبنان سنة 1197هـ( ) للمؤلف ميخائيل الدمشقي ما يلي : « وكانوا يصلون في بيوتهم ، وأيام الأعياد يتوجه منهم ومن العامة إلى قرية المعرة يصلون بالكنيسة التي بقيت بحالها بيد الكاثوليك مع كنائس يبرود ومعرونة ومعلولة » . وجاء في كتاب الشهب الصبحية في الكنيسة المسيحية للمؤلف يوسف وردة ما يلي : « وأما كنائس بر الشام : أي صيدنايا ومعرة ومعرونة ومعلولة ويبرود ومحلين بحوران أجبناه « قاضي الشرع » أن هؤلاء الكنائس من قديم الزمان وهم لطائفة الكاثوليك ولهم كهنة مسلسلين » . وأما في كتاب الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز للشيخ عبد الغني النابلسي سنة 1106هـ( ) ، فقد أطلق الشيخ عبد الغني اسم أرض راهب على قرية المعرة بقوله : « ثم بتنا بها ، وكنا أتينا نحوها من معرة أرض راهب » . أما مقام النبي إيليا الحي « مار الياس » فإنه يقع في منحدر جبلي يغمره السحر والجمال على مسافة 2200 متر إلى جنوب البلدة ، وهو يشرف مباشرة على بلدة معرونة ، ويطل على غوطة دمشق بمنظر خلاب ... يحوي الدير على المغارة التي التجأ إليها النبي إيليا الحي هرباً من الملكة إيزابيل والملك آحاب ، بالإضافة إلى « الصاعقة » وهي تسمية للهاوية التي تشق الجبل من علو إلى أسفل حيث لاتعرف لهذه الهاوية نهاية ، ويعتقد السكان النصارى بأنها ناتجة عن صاعقة أرسلها الله لينجو من خلالها النبي إيليا الحي . كما يحوي الدير رسوم بيزنطية جدارية تعود إلى القرن الثاني الهجري( ) تمثل القديس نيقولاوس ، ومريم العذراء « سيدة الظهور » ، والنبي إيليا الحي . ويحتفل أبناء البلدة في كل سنة بعيد مار الياس في ليلة 19 تموز حيث يؤم الدير المئات من المصلين من جميع المدن والبلدان والقرى حيث تتواصل الزيارات والصلوات والاحتفالات حتى اليوم الذي يليه . ويقول النصارى : نظرًا لشعبية هذا النبي الغيور فإنه يكاد لايخلو بيت في المعرة من اسم الياس ، الذي يعتقد النصارى في البلدة أنه شفيعهم !! ( ).
4. ومن المعرات : مَعَرَّةُ عَلْيَاءَ : مَحَلَّةٌ بمعرة النعمان ، ومَعَرَّةُ : بلدة قُرْبَ كَفِرْ طابَ . ومَعَرَّةُ : بلدة قُرْبَ أَفامِيَةَ( ).
و« معرة قطنا » هي إحدى المعرات التي عرفت في تاريخ بلاد الشام ، قال الأستاذ أمين في تسمية المعرة : هناك مدن كثيرة في سورية تحمل الاسم نفسه منها : معرة صيدنايا ومَعَرَّةُ مَصْرِينَ ومعرة النعمان( ) ، ولا تزال أجزاء من قطنا تحمل هذا الاسم ، فحي المعرة الحديث النشأة ، الواقع في شمال مدينة قطنا الذي تم تخطيطه عام 1382هـ من قبل بلدية قطنا( ). والآن تقوم فيه مبان وعمارات حديثة . ووادي المعرة الذي يمر من حي المعرة من أشهر أودية قطنا ، وسنأتي على شرحه في بحث المياه في قطنا . وهناك المأرة القريبة لفظًا من المعرة ، وهي تقع في جنوب شرق قطنا ، والتي سميت بذلك نسبة إلى الإرَّة ، وهو نبات مائي معروف ، يشبه ورقه ورق البقدونس إلا أنه أكبر منه حجمًا وأكثر سمكًا ، ولونه أشد خضرة ، يؤكل نيئًا ومطبوخًا ، وهو ينبت بكثرة على جوانب الأنهار والينابيع والسواقي في منطقة قطنا ، والمصدر الميمي منه المَأَرَّة . وهذه الدلائل هي من أوضح الأدلة الباقية من آثار تسمية قطنا بالمعرة ، وأن هذا الاسم من المحتمل أن يكون من أقدم أسماء قطنا لأن ذلك مرتبط بسكن الإنسان القديم المغاور والكهوف والأكنان . ولكن يؤخذ على هذا القول ما قلناه سابقًا عن لفظي وادي ومغارة من الغموض والإبهام وحاجته إلى لفظ آخر يزيل ذلك عنه ، فإن لفظ « معرة » ينطبق عليه مثل معرة النعمان ومعرة صيدنايا ومعرة معلولا ... لذا لا بد لنا من قول « معرة قطنا » لتكون التسمية واضحة بينة لا لبس فيها ولا إبهام أو غموض . ومن هنا يمكننا القول أن الاسم الأصلي للبلدة منذ نشأتها هو « قطنا » ، وأن التسميتين السابقتين هما وصفان لإيضاحها وبيان ما فيها من مغاور وكهوف .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ