تابع جبل الشيخ - جبل الثلج
13- جبل الثلج
عرَّف الجغرافيون العرب جبل الشيخ باسم « جبل الثلج » ، وقد تكون هذه التسمية ترجمة لاسمه في الآرامية « طور تلجا » . وقد وصفه القلقشندي بقوله تحت عنوان : جبل الثَّلْجِ وما يتصل به . قال في تقويم البلدان : والطرف الجنوبي لهذا الجبل بالقرب من صفد ، قال في رسم المعمور : حيث الطول تسع وخمسون درجة وخمس وأربعون دقيقة ، والعرض اثنتان وثلاثون درجة . قال في تقويم البلدان : ثم يمتد إلى الشمال ويتجاوز دمشق ، فإذا صار في شماليها سمي جبل سنير ، ويسمى جانبه المطل على دمشق جبل قاسيون ، ويتجاوز دمشق ويمر غربي بعلبك ، ويسمى الجبل المقابل لبعلبك جبل لِبْنَان ، وإذا تجاوز بعلبك وصار شرقي طرابلس سمي جبل عَكَّار ، إضافة إلى حصن بأعلاه يسمى عكارًا ، ثم يمر شمالًا ويتجاوز طرابلس إلى حصن الأكراد من عمل طرابلس ، ويسامت حمص من غربيها على مسيرة يوم ، ويمتد حتى يجاوز سمت حماة ، ثم سمت شيزر ، ثم سمت أفامية ، ويسمى قبالة هذه البلاد جبل اللُّكَّام . قال في رسم المعمور : وجبل اللكام يمتد إلى أن يصير بينه وبين جبل شحشبو ، اتساعه نصف يوم ، حتى يتجاوز صهيون والشغر وبكاس والقصير ، وينتهي إلى أنطاكية فينقطع هناك ، ويصير قبالة جبال الأرمن( ).
تقول أبي عاد : يبرز الغنى الطبيعي المستوحى من لبنان . ويأتي الثلج الأبيض في الطليعة ، ولا سيما ديمومته على قمم حرمون العالية على مدار السنة ، بما شكل سحرًا جذابًا لعيون الناظرين إليه من البعيد : « هل يخلو صخر القدير من ثلج لبنان ، أم تنضب المياه الغريبة الباردة الجارية ؟ » « أرميا 18/14» . العلاقة وثيقة ما بين الثلج ولبنان . وما يعنيه النبي بهذا السؤال هو أنه : « يقدم إلى شعبه جبل حرمون مثالًا ، كأنه يقول : لا يمكن شريعة الرب أن تزول ، بقدر ما هو مستحيل أن يخلو جبل حرمون من ثلجه » . مرجعان آخران تعزز بهما أبي عاد هذه الفكرة ، الأول كتاب المؤرخ دو فيتري « 1020هـ » ( )الذي تكلم فيه على « تميز لبنان حصريًّا في كل هذا الشرق بثلجه » . والآخر « الترغوم » ، - أي ترجمة الكتاب المقدس من العبرية إلى الآرامية - الذي نجد في سفر تثنية الاشتراع « 3/9 » تسمية « جبل الثلج » للدلالة إلى حرمون . وفي التلمود أيضًا ، يسمى « حرمون الكبير »( ).
وقد ذكره شاعر الرسول – صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه - المتوفى حوالي سنة 54 هـ في شعره في أبناء ملك الغساسنة النعمان بن الحارث الثلاثة وهم : حجر بن النعمان وبه كان يكنى ، والنعمان بن النعمان ، وعمرو بن النعمان . فقد جاء في قصيدة له يمدح فيها أميرين منهم من أخواله من آل جفنة الغساسنة :
مَن يَغُرُّ الدَهـــــرُ أَو يَأمَنُهُ ... مِن قَبيلٍ بَعدَ عَمرٍو وَحُجُر
مَلَكا مِن جَبَلِ الثَـــــلجِ إِلى ... جانِبَي أَيلَةَ مِن عَبدٍ وَحُـــرّ
ثم كانا خير من نال الندى ... ســـبقا الناس بإقســـاط وبر( )
وقال حسان بن ثابت :
مِنْ دُونِ بُصْرَى وَدُونَهَا جَبَلُ الثَّلْـ ... ـجِ عَلَيْهِ السَّحَابُ كالقَرَدِ( )
وقال حسان بن ثابت أيضًا :
أَبْصَرت سلمى ودونها جبل الثلـ ..... ـج عليه السحاب كالقدد( )
كما ورد ذكره عند محاصرة المسلمين لمدينة دمشق لفتحها وتحريرها من أيدي الروم سنة 14 هـ ، فقد روى ابن عساكر بسنده أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبر : أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أسد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقتل ، وعاب ذلك المسلمون عليه ، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص – رضي الله عنه -وهو على جند من الأجناد ، فأرسل إليه عمرو فرده ، فقال عمرو : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ »( ) وقال الله : « وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ »( ) فقال له رجل : يا عمرو ! أذكرك الله الذي وجدك رأس كفر فجعلك رأس الإسلام ، أن تصدني في أمر قد جعلته في نفسي ، فإني أريد أن أمشي حتى يزول هذا ، وأشار إلى جبل الثلج . فلم يزل يناشد عَمْرًا حتى خلى عمرو سبيله ، فانطلق حتى أمسى وجنح الليل قبل العدو ، ثم رجع فقال له المسلمون : الحمد لله الذي جعلك وأراك غير رأيك الذي كنت عليه . قال : إني - والله - ما انثنيت عما في نفسي ، ولكني رأيت المساء وخشيت أني أهلك بمضيعة . فلما أصبح غدا إلى العدو وحده فقاتلهم حتى قتل( ).
وقال قيس بن الملوح العامري« مجنون ليلى » المتوفى سنة 68هـ :
أيا جبل الثلج الذي في ظلاله ... غزالان مكحــولان مؤتلفان
غزالان شبا في نعيم وغبطة ... وَرَغْدَة ِ عَيْشٍ نَاعمٍ عَطِـرَانِ( )
وفي عهد الخليفة العباسي المأمون ورد ذكره عند الطبري وابن عساكر وأبي الفرج الأصفهاني ، فقد ذكر أبو خشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو قال : كنا مع المأمون بدمشق فركب يريد( ) جبل الثلج ، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية ، وعلى جوانبها أربع سروات ، وكان الماء يدخلها سيحًا ويخرج منها ، فاستحسن المأمون الموضع ، فدعا ببزما ورد ورطل ، وذكر بني أمية فوضع منهم وتنقصهم ، فأقبل علوية على العود واندفع يغني :
أولئك قومي بعد عز وثروة ... تفانوا فإلا أذرف العين أكمدا
فضرب المأمون الطعام برجله ووثب ، وقال لعلوية : يابن الفاعلة ، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت !؟ فقال : مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام ، وأنا عندكم أموت من الجوع . فغضب عليه عشرين يومًا ، ثم رضي عنه( ) ، ووصله بعشرين ألف درهم( ) . وقال ابن عساكر : قرأت بخط أبي الحسين الرازي قال ، قال أحمد بن الخير الوراق الدمشقي : لم يزل ملوك بني العباس تخف إلى دمشق طلبًا للصحة وحسن المنظر ، منهم المأمون فإنه أقام بها ، وأجرى إليها قناة من نهر منين في سفح جبلها إلى معسكره بدير مران ، وبنى القبة التي في أعلا جبل دي مران ، وصيرها مرقبًا يوقد في أعلاها النار لكي ينظر إلى ما في عسكره إذا جن عليه الليل ، وكان ضوؤها وضياؤها يبلغ إلى ثنية العقاب وإلى جبل الثلج( ). وروى ابن عساكر عن الفضل بن مروان : أن أمير المؤمنين المأمون صار إلى دمشق وهو رقيق فغلظ ، وأخذ بعض اللحم ، وكان أكله قبل ذلك في كل يوم ثمان عشرة لقمة ، فلما أقام بدمشق صار أكله في كل يوم أربعًا وعشرين لقمة زيادة الثلث( ).
وقد ذكره ابن خرداذبة في الإقليم الرابع فقال : جبل الثلج بدمشق وطوله ثلاثة وثمانون ميلًا( ). وقال وصف قدامة بن جعفر نهرًا يخرج من " مدينة مدورة » – لم يذكر اسمها واسمه – الوصف ينطبق على نهر العاصي - يمر بجبل الثلج الذي عند دمشق إلى قرب أنطاكية فيما بين جبل الثلج وجبل سنير حتى يصب في البحر ، ويخرج أيضًا من هذه البحيرة نهر إلى البحيرة المعروفة بالنتنة « البحر الميت حاليًا » ، ومقدار هذه البحيرة مقدار بحيرة طبرية( ). وهذا الوصف ينطبق على نهر الأردن الذي بينه القلقشندي بقوله تحت عنوان « نهر الأُرْدُنّ » ، والأردن بلدة من بلاد الغور من الشام نسب إليها النهر ، ويسمى الشريعة أيضًا ، وأصله من أنهار تصب من جبل الثلج إلى بحيرة بانياس ، ثم يخرج من البحيرة المذكورة ويصب في بحيرة طبرية ، ويمتد جنوبًا ، وهناك يصب في اليرموك ، بين بحيرة طبرية المذكورة وبين القصير ، ويمتد في وسط الغور جنوبًا حتى يجاوز بيسان ، ويمتد في الجنوب كذلك إلى أريحا ، ولا يزال يمتد في الجنوب حتى يصب في بحيرة زغر وهي البحيرة المنتنة المعروفة ببحيرة لوط( )« البحر الميت حاليًا » .
ومن المؤكد أن جبل الثلج « حرمون » كان مكاناً مقدّساً منذ القدم فرض نفسه على كل الشعوب المحيطة به ، التي نظرت بإعجاب إلى عظمته ومهابته وعلوه ، وتحول ظاهرة طبيعية بسبب تراكم الثلوج على قممه ، التي يروى أنها كانت ترطّب موائد ملوك صيدون وصور وملوك الفراعنة في مصر ، إذ كانت الثلوج تُقتطع منه لتملأ حمولة ثلاث سفن . وبالعودة إلى الجغرافيا وعلم الجيولوجيا فإن أول قمة ظهرت فوق سطح المياه في العصر الجيولوجي الثاني هي قمة حرمون . كما يُعدّ من حيث التكوين الجيولوجي واحداً من أهم الخزّانات المائية في منطقة الشرق الأوسط ومنه منابع نهر الأردن ، ولعل تشبّث العدو الإسرائيلي باحتلال مزارع شبعا يعزى إلى الكميات الكبيرة من المياه الجوفية في هذا الجبل( ).
ومن ناحية أخرى فإن جميع ممالك بلاد الرافدين قد استوردت أخشاب شجر الأرز الذي كان ينمو بوفرة في الجبل ، حيث عوض عن أشجار النخيل التي تنمو عندهم ، لكن جذوعها الطويلة ليست بمثل متانة شجر الأرز بحيث تقوى على حمل سقوف المباني والبيوت السكنية. وقد درج الفراعنة أيضًا على فعل الشيء ذاته ، فأرسلوا بعثات تجارية لقطع شجر الأرز ونقله عبر البحر في سفن قدر عددها في كل بعثة بـ 40 سفينة ، إلى جانب أنهم نقلوا الثلوج التي تغطي الجبل طيلة أيام السنة عبر ميناء صيدا إلى قصور الفراعنة والباحات العامة في المدن المصرية ، وظلت هذه العادة منتشرة في المدن المحيطة بالجبل أيضًا حتى القرن العشرين ، فبعض الناس قد امتهنوا نقل الثلوج وبيعها في أيام الصيف القائظ ، ولعل بعض المسنين يتذكرون ذلك ، أو أنهم امتهنوا العمل ذاته في يوم من الأيام( ) .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ