تابع جبل الشيح - جبل الجليل - 2
والجليل : هو اسم المنطقة الشمالية من فلسطين ، وتقع بين نهر الليطاني ووادي يزرعيل ، عرضها تسعة عشر ميلاً ، وطولها خمسة وعشرون ميلاً . وهي مقاطعة جبلية منتجة للحبوب وتَكثُر فيها الجبال ، مثل الكرمل وجلبوع ، التي يَبلُغ ارتفاع بعضها أربعة آلاف قدم . وتُعدُّ الجليل من أوليات المناطق التي سكنها الإنسان ، ومن أقدم مدنها مدينة مجدو التي شهدت معارك طاحنة بين الكنعانيين والمصريين « 1480 ق.م » . وقد سكنها الحويون والجرجاشيون وغيرهم من الأقوام . وقد استقرت قبائل نفتالي وآشر ويساكر وزوبولون في الجليل . كما انتقلت إليها قبيلة دان . ولم يستطع العبرانيون طرد سكان الجليل ، ولذا ظل سكانها خليطاً . وقد أعطى سليمان لحيرام - ملك صور- عشرين من مدنها نظير أدوات بناء ابتاعها منه . وبعد التهجير إلى بابل والعودة منها ، أصبحت أغلبية سكانها من غير اليهود . وقد غزاها شيشنق أثناء حكم رحبعام ، وضمها الآشوريون ثم حكمها الفرس والسلوقيون . وفي عام 707ق.هـ( ) احتلها الرومان وأصبحت الجليل تابعة لهم . وفي عهد الرومان كانت فلسطين تُقسَّم إلى ثلاث مناطق : الجليل والسامرة ويهودا « يوديا باللاتينية » . وكانت الجليل ذاتها تُقسَّم إلى الجليل الأعلى والجليل الأسفل . وحينما قام التمرد الحشموني ، كان عدد اليهود من القلة بحيث اضطر سيمون الحشموني إلى تهجير الأقلية اليهودية منها خشية أن تهاجمهم الأغلبية . وقد هاجر بعض اليهود إليها أثناء حكم الأسرة الحشمونية بعد أن ضم أرسطوبولوس الأول منطقة يهودا . وفي تلك المرحلة التاريخية ، كان يهود الجليل غير ملتزمين بالشعائر الدينية كتلك الخاصة بالختان والعشور . ولذا ، كان يُشار إليهم باسم « عَمْ هآرتس » أي « عوام الأرض » ، وهي عبارة تفيد أنهم أجلاف غير مؤمنين . وكان نطقهم للعبرية مختلفاً عن نطق اليهود الموجودين في يهودا . وتقول المصادر إنهم لم يكن بوسعهم التمييز بين حرفي الألف والعين . وقد انضم بعض يهود الجليل إلى التمرد الأول ضد روما « 574-567 ق.هـ »( ) وكان قائد القوات اليهودية في الجليل هو يوسيفوس الذي استسلم للرومان . ولم يتخذ الرومان إجراءات انتقامية ضد سكانها من اليهود لأن أعداداً منهم ، وخصوصًا في صفورية وطبرية ، كانت متعاطفة مع الرومان . أما التمرد الثاني « 506- 503 ق.هـ »( ) ضد روما ، فلم يؤيده سكان الجليل من اليهود . وأصبحت الجليل مركزاً للدراسات الدينية إذ تضم طبرية التي صارت مقراً للسنهدرين . ومن مدن الجليل أيضاً الكرمل وصفد . ويقع فيها بحر طبرية المعروف باسم « بحر الجليل » . وقد نشأ المسيح في الجليل ، ولذا فقد كان يعرف بـ « الجليلي » . ثم دخلت الجليل بعد ذلك نطاق الحضارة الإسلامية ، ونزلت قبائل عربية كثيرة فيها . وتأسست في العهد العثماني بعض الإمارات الإسلامية . ومن أهم مدن الجليل صفد وطبرية وبيسان وعكا . ولا تزال الكثافة السكانية العربية عالية في منطقة الجليل ، رغم المحاولات الصهيونية الرامية لتغيير طابعها السكاني »( ).
ولا شك أن أعظم شخصية كانت من الجليل هي شخصية عيسى – عليه السلام - قال الحرالي : وفي الكتاب الأول : جاء الله من سيناء ، وأشرق من جبل ساعير ، وظهر لنا من جبال فاران ؛ والمراد بالأول نبوة موسى - عليه الصلاة والسلام - وهو واضح ، وبالثاني نبوة عيسى - عليه الصلاة والسلام - فإن جبل ساعير هو جبل الجليل ، وهو الذي بين طبرية ومرج بني عامر ، وبالثالث نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن فاران هي مكة المشرفة( ). وذكر القضاعي في عيون المعارف أن عيسى - عليه السلام - ولد في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الأول بعد قيام الإسكندر بثلاثمائة وثلاث سنين ، وحملت به مريم ولها ثلاث عشرة سنة . وكانت ولادته في بيت لحم ، ولما تمت له ثمانية أيام ختن على سنة موسى - عليه السلام - وسموه اليسوع ، وهربت به أمه إلى مصر ، وأقام بها اثنتي عشرة سنة ، ثم رجعت به إلى ناصرة من جبل الجليل - عليه السلام - فلما بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي ، وكانت نبوته ثلاث سنين . وتكلم في المهد ثلاث مرات ، ثم لم يتكلم حتى بلغ حد الكلام ، وبشر بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال في إنجيل يوحنا : احفظوا وصيتي فسيأتيكم الفارقليط ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقال إنه رفع إلى السماء في ليلة القدر من جبل بيت المقدس ، فلما كان بعد سبع ظهر لأمه فقال : لها لم يصبني إلا خير ، وأمرها بأن تأتيه بالحواريين ، فجاؤا إليه وأوصاهم ، وبثهم في الأرض . وعاشت مريم بعده ست سنين( ).
وكان الجليل مكان وداع عيسى بن مريم – عليه السلام – لتلاميذه فيه على قول متى في إنجيله « 31:26» ، يقول متى : « أن المسيح كان قد أخبر تلاميذه بأنه سيكون فى منطقة الجليل بعد قيامته من الأموات : « ولكن بعد قيامي أسبقكم إلي الجليل » ويستطرد متى قائلًا : « وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجليل حيث أمرهم يسوع ، ولما رأوه سجدوا ، ولكن بعضهم شَكُّوا » « 16:28 » . ثم أوصاهم المسيح بنشر دعوته بين الأمم وختم خطابه لهم بقوله : « وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر » « 20:28» . ولم يذكر متى شيئًا عن صعود المسيح إلى السماء ، وإنما ذكر أن جبل الجليل كان هو مكان الوداع ، وأن الأحد عشر تلميذًا كانوا في وداعه ... بينما يذكر لوقا مكان الوداع مدينة « بيت عنيا » ويوحنا شاطئ « بحر طبرية » ومرقس « أورشليم » !؟ ( ). قال صالح بن الحسين الجعفري الهاشمي : وقيل : « إن اليهود لما جاؤوا لأخذ المسيح هرب من كان معه من أصحابه وثبت معه رجل واحد يسمّى : جرجس ، فألقى الله شبهه عليه ، فأخذوه وذهبوا به ليلاً ، وستر الله المسيح عن أعينهم ، فعذبوا الرجل ليلاً ، ثم قتلوه من صبيحة تلك الليلة » . فلم يشكّ من كان ترك المسيح وهرب عنه أن المأخوذ هو المسيح ، فلذلك أخبروا أن المسيح قد صلب . قال الهاشمي : قد روينا عن بطرس - صاحب المسيح - : « أن المسيح - عليه السلام - صعد إلى جبل الجليل في جماعة من أصحابه ، فنظروا إلى وجهه وإذا هو قد تغيرت صورته ، وابيضت ثيابه ، وإذا موسى وإيلياء قد نزلا إليه ومعهم سحابة تظلهم ، وعند ذلك وقع على بطرس وأصحاب المسيح النوم فناموا » « 1/155/أ » ، وذلك يحقّق قولنا في الشبه . وقد اختلف العلماء في الشبه المصلوب بدلاً عن المسيح - عليه السلام - على أقوال هي :
الأوّل :- أن عيسى - عليه السلام - سأل أصحابه - ممن كان معه في البيت حين أحاط به اليهود – فقال : « أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ » . فانتدب لذلك شاب من أحدثهم سنّاً ، فألقي عليه شبهه فقتل ، ورفع عيسى - عليه السلام . قال بهذا قتادة والسدي والقاسم بن أبي عزة وابن جريج . ورجّحه الإمام ابن كثير « 1/587 ، 588 » وساق في ذلك أثراً من تفسير ابن عباس ، ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه . وكذا ذكره غير واحد من السلف .
الثّاني : قيل : إن شبه عيسى ألقي على جميع من كان معه في البيت من غير مسألة عيسى إيّاهم ذلك ، فخرج إلى اليهود بعض من كان في البيت ، فقتلوه وهم يحسبونه أنه المسيح - عليه السلام . وهذا القول أحد الروايتين عن وهب ابن منبه واختاره الإمام ابن جرير في تفسيره « 6/16» .
الثّالث :- قيل : إن الشبه ألقي على الحواري الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي أخذ الرشوة من اليهود ليدلهم على مكان المسيح - عليه السلام - فعاقبه الله بعكس مقصوده . فألقي شبه عيسى عليه ، فقبض عليه اليهود وقتلوه ، وهم يحسبون أنه المسيح - عليه السلام - وهذا القول أحد الروايتين عن وهب بن منبه « تفسير الطبري 6/13 » ، وبه قال نجم الدين الطوفي في كتابه : « الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية ، ص 102» . وقد وردت هذه الرواية في « إنجيل برنابا : الإصحاح 214، 215، 217 » .
الرّابع :- إنه شبه للنصارى القول بذلك ، أي : حصلت لهم الشبهة في أمره ، وليس لهم علم بأنه قتل وصلب ، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشُرُطهم المُدَّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه ، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك . وإنما أخذوا مَنْ أَمْكَنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامّة الذين شبه لهم الخبر . وقال بهذا ابن حزم في « الفصل الملل والنحل : 1/125» ، وذكره ابن القيم في « هداية الحيارى ، ص 314» . والذي يرجّحه الهاشمي : هو القول الأوّل لصحّة إسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قد أثنى على الحواريين في عدة آيات من سورة آل عمران ، والمائدة ، والصّفّ ، قال تعالى : « وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ : أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي . قَالُوا : آمَنَّا ، وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ »( ). وقال تعالى : « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ : مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ، آمَنَّا بِاللَّهِ ، وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ »( ). فناسب أن يكون موقفهم بحسب قوّة إيمانهم بالله ، وتصديقهم لنبيّه عيسى - عليه السلام - أن يفدوه بأنفسهم ، ويستشهدوا في سبيل الدفاع عنه ، عليه السلام( ).
قال أحد المفكرين : مكتبة نجع حمادي الأثرية التي تم اكتشافها ، بها كتابات تم تدوينها فى أوائل العصر المسيحي ، ومن بينها « إنجيل توماس » : ويختلف هذا الإنجيل عن الأناجيل الأخرى المعروفة ، في أنه لا يحتوي على قصة أو رواية للأحداث ، وإنما يتكون من « 114» قولًا منسوبة إلى يسوع المسيح . كما أنه من الصعب اعتبار هذا الإنجيل هرطوقيًا إذ أنه يحتوي على عدد كبير من أقوال المسيح التي ظهرت في أناجيل العهد الجديد ، إلى جانب أقوال لم تظهر بها . كما أن أقوال يسوع هنا موجودة بشكل أولي ولا تدخل في سرد قصصي ، مما يوحي بأنها أقدم من أيٍّ من الأناجيل الأخرى . و كما ورد في كتاب « سيت الأكبر » على لسان المسيح قوله : « كان شخص آخر هو الذي شرب المرارة والخل ، لم أكن أنا ، كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه ، كان أخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه . وكنت أنا مبتهجًا في العلا ، أضحك لجهلهم » . وجاء في كتاب « أعمال يوحنا » - الذي عثر عليه بنجع حمادي أيضًا - على لسان المسيح قوله : « لم يحدث لي أي شيء مما يقولون عني » . قال تعالى : « وَقَوْلِهِمْ : إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ ! وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ، وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا »( ).
كل عاقل مفكر ، يفترض أن يعلن صاحب أي دعوة أو رسالة ، من أول أيام دعوته عن أطر رسالته وأهدافها ومقاصدها ، فهذا هو ما يجرى حقاً على صعيد الواقع من حولنا ، وأن يكون في إعلانه صريحاً وواضحًا أيضًا ، خصوصًا إذا كان هذا الداعية نبياً ورسولاً من رب الكائنات . فإن صح ما زعمه أصحاب الأناجيل من أن المسيح أتى إلى هذا العالم ليموت فداء خطيئة آدم وحواء ومن ثم يقوم من بين الأموات ، فقد كان متوجبًا عليه أن يعلن ذلك للناس ولتلاميذه بالذات من أول أيام دعوته ، فلو فعل ذلك لتوجب أن ينتظر جميع هؤلاء التلاميذ تحقق هذه المعجزة وبفارغ صبرهم أيضًا . وقد دققت ما نقلته لنا الأناجيل من أخبار ، فلم ألحظ معالم لهذه الظاهرة الطبيعية ، على صعيد الأقوال ، فتناولت قضية أخبار وضع جثة المسيح في قبره الذي وضعه يوسف الرامي فيه لعلي ألحظ تجمع تلاميذ المسيح حول القبر ساعة وضع الجثة فيه ، فلم ألحظ إلا تواجد امرأتين هناك ، فإنجيل متى روى : « وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر » « متى 27 : 61 » فأين بقية تلاميذ المسيح الناصري ؟! وقلت في نفسي لعلهم اتفقوا فيما بينهم أن يأتوا إلى قبره صباح يوم الأحد يستطلعون قيامته ، فدققت في الأناجيل الأربعة ، وأدهشني أن غير هاتين الامرأتين لم تسارعا إلى القبر فجر يوم الأحد ، ثم إنهن ما سارعتا للقاء المسيح بعد قيامته ، بل على حسب ما روى مرقس سارعتا لتدهنان جسد الميت بالطيب ، فقد ورد : « وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطًا ليأتين ويدهنه ، وباكراً جداً في أول الأسبوع - أي فجر يوم الأحد - أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس ، وكن يقلن فيما بينهن : من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر ؟ فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً جداً » « مرقس 16 : 1 » . فالنسوة ، ومريم المجدلية من بينهن ، أسرعن إلى القبر صباح الأحد ، ليس لينظرن إلى قيامة المسيح الناصري من بين الأموات ، بل « ليأتين ويدهنه » من هذا ندرك كباحثين مدققين ، أن تلاميذ المسيح ما كانوا ينتظرون موته وقيامته ليصبح كفارة عن ذنوبهم . وهذه القرينة يثبت منها عكس ما زعمه رواة الأناجيل وأجمعوا عليه من أن المسيح الناصري مات على الصليب ، وقام من بين الأموات ، ليصبح كفارة عن خطيئة آدم وحواء . قد يرد على هذه القرينة قائل يقول : لقد كان سبق للمسيح الناصري أن اتفق مع تلاميذه أن يجتمع بهم بعد قيامته من الأموات على جبل الجليل ، ويستدل بقول متى : « هاهو يسبقكم إلى الجليل ، هناك ترونه » وقول مرقس : « إنه يسبقكم إلى الجليل ، هناك ترونه كما قال لكم » ولذلك كانوا ينتظرون لقاءه على جبل الجليل ، وليس فجر يوم الأحد على القبر . أقول : هذه مزاعم لا يصدقها واقع ما جرى ، فإن نحن عدنا إلى إنجيل متى نلاحظه قد قال : « وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجليل ، إلى الجبل حيث أمرهم يسوع ، ولما رأوه ، سجدوا له ، ولكن بعضهم شَكُّوا ، فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً : دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس » « متى 28 : 16 » هذا ما رواه متى . لكننا إذا رجعنا إلى إنجيل مرقس نلاحظه قد قال : « أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون ، ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ، وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ، من آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدن ، وهذه الآيات تتبع المؤمنين : يخرجون الشياطين باسمي ، ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويمسكون بأيديهم الحيات ، وإن شربوا شيئا مميتاً لا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون » « مرقس 16 : 14 » فهذا الكلام يتضارب مع ما أورده إنجيل متى في نواحي كثيرة يدركها كل قارئ للنصين ، ولا يثبت منها أن تلاميذ المسيح كانوا ينتظرونه من أنفسهم على جبل الجليل ، بل على حسب ما روى متى : « ولكن بعضهم شكوا » وعلى حسب ما رواه مرقس : « ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام » . وإن نحن رجعنا إلى إنجيل لوقا ، فلا نجد أثراً للقاء المسيح الناصري بتلاميذه على جبل الجليل ، بل في أورشليم ، فقد ورد : « فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم ، وهم يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ، وأما هما ، فكانا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز، وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم ، وقال لهم : سلام لكم فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً ، فقال لهم : ما بالكم مضطربين ، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي إني أنا هو ، جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي ، وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه » « لوقا 24 : 33 » . وأما إنجيل يوحنا فلم يتطرق إلى جميع ما أوردته الأناجيل الأخرى ، بل روى أموراً لا تمت إلى اجتماع المسيح بتلاميذه في الجليل ولا شيئاً من ذلك . بل روى اجتماعات في طبرية وسواها مما لا حاجة بنا إلى إيراده في هذا المقام . وأنا أرجو من القارئ أن يتدبر جميع هذه النصوص التي نقلتها له ، وينظر، هل يثبت ولو من واحدة منها ما يشكل قرينة تؤكد إيمان تلاميذ المسيح بقيامته من الأموات وانتظارهم لها ؟( ).
وقال القاسمي : « القول في تأويل قوله تعالى : « بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ ، وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً »( ). « بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ » ردٌّ وإنكار لقتله ، وإثبات لرفعه ، أي : اليقين إنما هو في رفعه إليه . « وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً » أي : لا يبعد رفعه على الله ، لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده ، وحكيم اقتضت حكمته رفعه ، فلا بد أن يرفعه ، وهي حفظه لتقوية دين محمد - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال ، فيقتله ، أفاده المهايمي . ثم استطرد منبهًا بقوله : لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى ، ولتبرئة ساحة مقام عيسى - عليه السلام - مما توهموه في ذلك ، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين ، ومعارك الفرقتين - أردت بسط الكلام في هذا المقام ، انتهاجاً للحق ، وأخذاً بناصر الصدق ، ورد أباطيل المكذبين ، وتزييف أقوال الملحدين ، نورد أولاً ما زعموه ورَوَوْه ، مما نفاه التنزيل الكريم ، ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة ، ثم ما رواه أئمة سلفنا - رضي الله عنهم - في هذه القصة ، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة ، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب ، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية ، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه ، مع ذكر من رفض عقيدة المسلمين ، ويطابق هذه الآية ، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في هذه الآية ، وأبدع ، على عادته . فهذه المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب ، إذ تفرعت إلى مباحث فائقة ، وفوائد شائقة ، فنقول : ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم ، فقد جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه : « كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع ؟ لكنهم كانوا يخافون من الشعب . أي : لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل - وهو الكنيسة - ليستمعوه » . وفي إنجيل لوقا - الإصحاح الحادي والعشرون « وكان في النهار يعلم في الهيكل ، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون . وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه . كما ذكر لوقا قبل الفصل . فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ - وهو أحد الاثني عشر - فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يُسْلمه إليهم . ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة . فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع . وبلغ يومُ الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفِصح . فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : امضيا فأَعِدَّا لنا الفِصح لنأكل . فقالا له : أين تريد أن نعِدَّ . فقال لهما : إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء ، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله » . وفي الإصحاح الثاني والعشرون « وقرب عيد الفطير الذي يقال له : الفصح . وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه ، لأنهم خافوا الشعب . فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي - وهو من جملة الاثني عشر - فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم . ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة . فواعدهم ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليه خِلْواً من جمع . وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح . فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل . فقالا له : أين تريد أن نُعِدّ . فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جَرّة ماء ، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل . وقولا لرب البيت : المعلم يقول لك ، أين المنزل الذي آكل فيه الفِصح مع تلاميذي ؟ فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة ، فأعِدَّا هناك . فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفِصح . ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه . فقال لهم : لقد اشتهيتُ شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم . فإني أقول لكم : إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله . ثم تناول كأساً وشكر وقال : خذوا فاقتسموا بينكم . فإني أقول لكم : إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله . وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً : هذا هو جسدي الذي يُبْذَل لأجلهم ، اصنعوا هذا لذكري . وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلاً : هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم . ومع ذلك فها إن يَدَ الذي يُسلمني معي على المائدة . وابن البشر ماضٍ كما هو محدود ، ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه . فطفقوا يسألون بعضهم بعضاً : من كان منهم مزمعاً أن يفعل ذلك . ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يُحسب الأكبر . فقال لهم : إن ملوك الأمم يسودونهم ، والمسلطين عليهم يدعون محسنين . وأما أنتم فلستم كذلك ، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر ، والذي يتقدم كالذي يَخْدُم . وأنتم الذي ثبتُّم معي في تجاربي . فأنا أُعِدُّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي . لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر . وقال يسوع : سمعان ! سمعانُ ! هو ذا الشيطان سأل أن يُغربلكم مثل الحنطة . لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك ، وأنت متى رجعت فَثَبِّتْ إخوتك . فقال له : أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت . قال : إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني . ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ . فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا في تجربة . ثم فَصَل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى . قائلاً : يا رب إن شئت فأجِزْ عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك . وتراءى له ملاك من السماء يشدّده . ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة ، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض . ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن . فقال لهم : ما بالكم نائمين ؟ قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . وفيما هو يتكلم إذ بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا - أحد الاثني عشر - فدنا من يسوع ليقبله . فقال له يسوع : يا يهوذا ! أبقبلةٍ تُسلم ابن البشر ؟ فما رأى حوله ما سيحدث . قالوا له : أنضرب بالسيف . وضرب أحدهم عبدَ رئيس الكهنة فقط أذنه اليمنى . فأجاب يسوع وقال : قفوا لا تزيدوا ، ثم لمس أذنه فأبرأه . ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ : كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي . إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا عليّ أيديكم ، ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة . حينئذ تركه تلاميذه وهربوا . فارتموا على يسوع ، قبضوا عليه ، وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة . وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين ، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهماً التي أخذها رشوة على تسليم المسيح . وكان بطرس يتبعه من بعيد .. وأضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم . فرأته جارية جالساً عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت : إن هذا أيضاً كان معه . فكفر أمام الجميع وأنكره قائلاً : إني لست أعرفه . وبعد قليل رآه آخر فقال : أنت أيضاً منهم ، فأخذ بطرس يحلف : لا أعرف هذا الرجل ولست منهم . وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلاً : في الحقيقة هذا أيضاً كان معه فإني جليلي . فقال بطرس : يا رجل ! لا أدري ما تقول . قال مفسروهم : إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلاً : لأن المسيح قال : « من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات . وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك . فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال : إنك قبل أن يصيح الديك ، تنكرني ثلاث مرات . فخرج بطرس وبكى بكاءً مراً . وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزؤون به ويضربونه . وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين : تنبأ من الذي ضربك . وأشياء أخر كانوا يقولونها عليه مجدفين . ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروا إلى محفلهم . وقالوا : إن كنت أنت المسيح فقل لنا ، فقال لهم : إن قلت لكم لا تؤمنون . وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني . ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله . فقال الجميع : أفأنت ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم تقولون : إني أنا هو . فقالوا : ما حاجتنا إلى شهادة ، إنا قد سمعنا من فمه . فأوثقوه ، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع ، لما رأى يسوع قد دِينَ ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلاً : لقد أخطأت بتسليم دمٍ زكيٍّ ، فقالوا له : ما علينا أنت أخبر ، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه ، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم . ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطُسَ . وطفقوا يشكونه قائلين : إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر ويدعي أنه هو المسيح الملك . فسأله بيلاطُس قائلاً : هل أنت ملك اليهود ؟ فأجابه قائلاً : أنت قلت . فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع : إني لم أجد على هذا الرجل علة . فلجّوا وقالوا : إنه يهيج الشعب ، إذ يعلم في اليهودية كلها ، مبتدئاً من الجليل إلى هنا . فلما سمع ببلاطس ذكر الجليل سأل : هل الرجل جليلي . ولما علم أنه من إيالة هيرودس أرسله إلى هيرودس وكان في تلك الأيام في أورشليم . فلما رأى هيرودس يسوع فرح جداً ، لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ، ويرجو أن يعاين آية يصنعها . فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء . وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة . فازدراه هيرودس مع جنوده ، وهزأ به وألبسه ثوباً لامعاً ، وردّه إلى بيلاطس . وتصادق هيرودس وبيلاطُس في ذلك اليوم ، وقد كانا من قبل متعاديين . فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب . وقال لهم : قد قدمتم إليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب ، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به . ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلته إليه ، وهو ذا لم يُصنع به شيء من حكم الموت . فأنا أؤدبه وأطلقه . وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً . فصاحوا كلهم جملة قائلين : ارفع هذا وأطلق لنا بَرْأبّا . كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتلٍ . فنادى بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع . فصرخوا قائلين : اصلبه ، اصلبه . فقال لهم مرة ثالثة : وأي شر صنع هذا ؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه . فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم . فحكم بيلاطس أن يُجْرَي مطلبهم . فأطلق لهم الذي طلبوه ، ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة ، وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب . قال مفسروهم : ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضاً ، والجلادون كانوا ستين نفراً ، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ، ونزعوا ثيابه وألبسوه لباسًا قرمزيًا ، وضفروا إكليلاً من شوك العوسج ، ووضعوه على رأسه ، وأنشبوا في رأسه عنفًا أشواكه الحادة - ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليل من شعر في رأس الكهنة تذكارًا لإكليل المسيح الشوكي - ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين : السلام يا ملك اليهود ، وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه ، ولما هزؤا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستاقوه ليصلب ، وكان يتقدمه مُبَوّق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود ، وخشبة الصلب على منكبيه . وانطلق معه بآخرين مجرمين ليُقتلا . ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار .. وناولوه خلّاً بمرارة أو خمرًا ممزوجًا بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب . ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها ، وكانت المسامير في راحة اليدين والرجلين ، ضربوا جنبه بالحربة فنفذت من صدره ، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه ، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة : القميص والرداء والجبة ، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد ، وجلسوا هناك يحرسون لئلا يسرقه أحد . وكان الشعب واقفين ينظرون ، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين : قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار . وكان الجند أيضاً يهزؤون به . وقائلين : إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك . وكان عنوان فوقه مكتوباً بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية : هذا هو ملك اليهود . ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة . وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه . ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً : إيل إيل لِمَ شبقتني ؟ أي : إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ فكان أناس من القائمين يقولون : دعوا ننظر هل يأتي إيليا فيخلصه ، ثم صرخ أيضاً بصوت عالٍ وأسلم الروح . فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلاً : في الحقيقة كان هذا الرجل صديقاً . وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر ، لما عاينوا ما حدث ، رجعوا وهم يقرعون صدروهم . وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك . وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق . ولم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم . فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه . فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قبر منحوت لم يكن وضع فيه أحد . وكان يوم التهيئة أي : الجمعة وقد أخذ السبت يلوح .. وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له : قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حيّ : إني أقوم بعد ثلاثة أيام ، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث ، لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلاً ويقولوا للشعب : إنه قام من بين الأموات ، فتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى ، فأمر لهم بجنود يحرسونه وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود ، وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر » . قال مفسروهم : إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها ، والتوفيق بين أجزائها ، وبين أقوال باقي الإنجيلين . « وإذا بزلزلة عظيمة قد صارت لأن ملك الرب انحدر من السماء ، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب ، وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه ، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج ، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات . فقال للنسوة : لا تخفن ، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب ، إنه ليس ههنا ، فإنه قد قام . وقال لوقا : « كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل ، يتبعن ، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده . ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً ، وفي السبت قررن على حسب الوصية . وفي أول الأسبوع باكراً جداً أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه . فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر . فدخلن فلم يجدن جسد يسوع . وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق . وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن : لماذا تطلبن الحي بين الأموات . إنه ليس ههنا لكنه قام ، اذكرن كيف كلمكن ؟! وهو في الجليل . إذ قال : إنه ينبغي لابن البشر أن يُسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث . فذكرن كلامه . ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله . وقلن لهم : قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه . ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا . فكان عندهم عند الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن . فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة ، فانصرف متعجباً في نفسه مما كان . وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عِمّاوْسُ بعيدة عن أورشليم ستين غلوة . وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها . وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما . ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته . فقال لهما : ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه ، وأنتما سائران مكتئبان ؟ . فأجاب أحدهما : أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام ؟. فقال لهما : وما هو ؟ قالا له : ما يخص يسوع الناصري ، الذي كان رجلاً نبياً ، ذا قوة في العمل والقول ، أمام الله والشعب كله . وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه . واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك . إلا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر . فلم يجدن جسده فأتين وقلن : إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا : إنه حي . فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه . فقال لهما : يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء . أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده ؟ . ثم أخذ يفسر لهما ، من موسى ومن جميع الأنبياء ، ما يختص به في الأسفار كلها . فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد . فألزماه قائلين : امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار ، فدخل ليمكث معهما . ولما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما . فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما . فقال أحدهما للآخر : أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب . وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين . وهم يقولون : لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسِمعان . فأخذا يخبران بما حدث في الطريق ، وكيف عرفاه عند كسر الخبز . وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو لا تخافوا . فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً . فقال لهم : ما بالكم مرتعدين ، ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم ؟. انظروا يديّ ورجليّ ! إني أنا هو ، جسُّوني وانظروا ! فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي . ثم أراهم يديه ورجليه . وإذ كانوا غير مصدقين بعدُ من الفرح ومتعجبين قال : أعندكم ههنا طعام . فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل . فأخذ وأكل أمامهم . ثم أخذ الباقي وأعطاهم . وبعد مفاوضته معهم . خرج بهم إلى بيت عَنْيَا ورفع يديه وباركهم . وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء .
هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجاً ببعض تفاسيرهم ، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح ، وأشد انسجاماً من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد ، كما في « ذخيرة الألباب » من كتبهم . ثم شرع القاسمي في بيان بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة فقال : « اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ، ويبرهن على عدم الوثوق بها ، كما قال تعالى : « مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ »( ). قال البرهان البقاعي في « تفسيره » بعد - أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم ، وقال : أحسن ما رُدّ على الإِنسَاْن بما يعتقده - ما نصه : فقد بان لك أن أناجيلهم كلها أتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وإنه إنما وضع يده عليه ، ولم يقل بلسانه إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا ، فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وأن بطرس إنما تبعه من بعيد ، وأن الذي دل عليه خنق نفسه ، وأن الناقل لأن الملك قال : إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره ، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن ، وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها .. وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب ، إن صح أنهم صلبوه ، من ظنوه إياه ، هو الذي دل عليه . قال بعض العلماء : إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه ، فجزموا به » . وقال العلامة خير الدين الآلوسي في « الجواب الفسيح » : « اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح - عليه السلام - مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن ، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد ، ثم انبعث حياً بلاهوته ، وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات ، وظهر بعد لحوارييه .. إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى ، ويرد ذلك العقل والنقل ، وإن صدقتهم اليهود في قتله ، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية ، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية ، على أن المقتول هو الشبه ، وأن الحال عند صالبيه اشتبه ، وأن المسيح رفعه الله تعالى قبل القتل إليه ، لشرفه عنده ومكانته لديه ، قال الله تعالى في بيان حال اليهود : « وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ »( ) الآية ، وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله : أأنت المسيح ابن الله ؟ فقال له : أنت قلت ، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له : نعم ، ولم يُوَرّ ولم يتلعثم ، وهو محلف بالله ، لا سيما وهو بزعمهم الإله ، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه . وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله : « إن المسيح صعد قبل الصليب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا . فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه ، وابيضت ثيابه ، وصارت تلمع كالبرق . وإذا موسى بن عِمْرَان وإيليا . قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم . وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا » . وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه ، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه - عليه السلام - أن إيليا يأتي ، فلما رفعوه على الخشبة ، كما في الأناجيل ، قالوا : دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه ، فصاروا في شك يريدون تحقيقه ، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح ، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم ، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره . ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم ، يجوز أن يكون طوراً من أطوار روحه ، لأنه - عليه السلام - لا يبعد أن يكون له قوة التطور ، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن ، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك ، كإحياء الموتى ، وكثرة الخبز ، والحيتان ، وإبراء الأكمه والأبرص . وقال يوحنا التلميذ : « كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه . فخرج إليهم يسوع وقال لهم : من تريدون ؟ قالوا : يسوع - وقد خفي شخصه عنهم - قال : أنا يسوع ، وفعل ذلك مرتين ، وقد أنكروا صورته » . فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم ، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء ، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه ، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضاً على ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق . ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها ، كدعواهم الألوهية مع قوله - عليه الصلاة والسلام - عند صلبه - بزعمهم - : « إلهي ! إلهي ! لم تركتني ؟ » ، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى : « يا أبتاه ! إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس - أي : الموت - ولا بد لي أن أشربها ، فلتكن مشيئتك ، وقام يصلي » ، وقوله لرئيس الكهنة : « إنكم من الآن لا ترون ابن الإِنسَاْن حتى ترونه جالساً عن يمين القوة ، وآتياً في سحاب السماء » ، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه . وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : « إن المريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شُرُطاً ليقبضوا على المسيح - يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم - قال : « أنا ماكث أيضاً معكم زماناً ، ثم انطلق إلى من أرسلني ، وتطلبوني فلا تجدونني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلاً » . قال اليهود في ذواتهم : فإلى أين ؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن - قال مفسروهم أي : يصعد إلى السماء ، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث . ثم نقل خير الدين نحواً مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك : « فَأجِل في تناقضها قداح فكرك ، وفي تهافتها خيول ذهنك ، لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلاً ونقلاً ، كما قال تعالى : « وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ » وليتبين لك عبوديته ورسالته - عليه السلام - فإن ذلك ظاهر من العبارات ، ولنزدك في البيان وضوحاً بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحاً ومشروحاً . منها : قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها ، ولما جاءت النسوة عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد ، وجدنه فارغاً ، وقد قام منه المدفون ، مع أن النصارى يزعمون كما في أناجيلهم ، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام ، كما بقي يونان - أي : يونس - في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها ، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر . ومنها : سؤاله اليهود مرتين : « من تطلبون ؟ وهم يقولون : يسوع الناصري . فلم يعرفوه وهو يقول لهم : أنا . ومنها : أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه ، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده ، فلو كان معلوماً لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال ، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم . ومنها : أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له : أنا المسيح ، بل قال له : أنت قلت . ومنها : إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله ، وإنكاره كفر . ومنها : أنه لما سأله الوالي : أنت هو ؟ لم يردّ له جواباً ، فلو كان هو لاعترف وأقرّ . ومنها : أنه لما كان أخذه ليلاً ، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال ، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو ؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح - عليه السلام - قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة ، ويحتمل أن المسيح ذهب من الجماعة الذين أطلقهم الأعوان ، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه ، وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم ، وهذا فدى نفسه لإلهه ، بزعم النصارى . ومنها : أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه ، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح ، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح . ومنها : قوله - عليه السلام - الذي تقدم آنفاً : « أنا ماكث معكم زماناً ، ثم أنطلق إلى من أرسلني ، فتطلبوني فلا تجدوني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلاً » ، فهذا صريح في الثاني عشر من « إنجيل يوحنا » ما لفظه : « قال له الجموع : نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد ، فكيف تقول أنت : أن ابن البشر سوف يرتفع ؟ من هو هذا ابن البشر ؟ قال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً آخر يسيراً ، امشوا ما دام لكم النور ، لئلا يدرككم الظلام ، ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب ، آمنوا بالنور ما دام لكم النور ، قال يسوع هذا وذهب متوارياً عنهم » . ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى : « بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ »( ). منها : أن اليهود قالوا لعيسى : « إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد » . أي : فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان ، بل تبقى إلى قيام الساعة ، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك . والمسلمون يقولون : إنه رفع حياً إلى السماء وهو الآن حي فيها ، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة ، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية ، ويتوفى ويدفن عند النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - فهو حي إلى الأبد ، يعني إلى قرب قيام الساعة ، ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى . وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضاً على أنه ليس بإله : أحدها : أنه قال : « ابن البشر » ، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى ، لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يديه للإيمان بنبوته . ثانيها : لو كان إلهاً لما توارى منهم خائفاً من قتلهم له ، لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم ، وعالم بزمن قدرتهم عليه ، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته ؟ وهو خالق الموت والحياة ؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه ، ويرفعه إليه محفوظاً مكرماً ، كما أجرى على يديه إحياء الموتى ، وخلقه من غير أب ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، لا سيما - وهو بزعمهم - إنه العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم ، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب ، على ما زعموا لرب الأرباب ، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب .
عجباً للمســــيح بين النصـــارى وإلى أي : والد نســــــبوه
أســـلموه إلى اليهـــود وقالوا : إنهـــم بعـــد ضـربه صلبوه
فإذا كان ما يقولـــون حقاً وصحيـــحاً ، فأين كان أبـــــوه ؟
حين خلى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه ؟
فلئن كان راضـــياً بأذاهــــم فاحمدوهـــــم لأنهــــم عذبـوه
ولئن كان ســـاخطاً فاتركـــوه واعبدوهــــم لأنهــــم غلبوه
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ