تابع جبل الشيح - جبل الجليل - 4
وذكر القاسمي موقف نصارى عصره في اعتقادهم فقال : « أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد ، فطفق يرد على المسيحيين قوله بتثليث الآلهة ، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي ، وأخذ يسلم بحقية القرآن ، وكذا التوراة والإنجيل الموجودين وأنهما لم يحرفا تحريفاً جوهرياً ، واعتقد بصلب المسيح يقيناً ، وصار بناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة ، أعني آية الصلب ، زاعماً أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبة الفعل لهم توبيخاً لتهكمهم وازدرائهم ، وَرَدَّ فعل الصلب إليه تعالى . وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتاباً سماه « المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح » ولما كان مبحثه غريباً جداً ، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته ، وأعقبها بما فوِّق عليه من سهام ردود تهافته . قال في أول رسالته : إن التباس فهم آية الصلب هو غالباً في تقدير نائب الفاعل لفعل « شُبّهَ لَهُمْ »( ) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدراً مأخوذاً من الفعل السابق المذكور في الآية : « وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ »( ) وكان التقدير شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه ، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه ، والمعنى أنه مُثِّلَ أو خُيِّلَ لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريباً ، وزالت كل صعوبة تأويل ، حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلاً ، ولا صلب قهراً ، أو مات جبراً ، أو اضطراراً ، بل هو من نفسه - على زعمه - قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه ، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئاً بقدرتهم ومجرد إرادتهم ، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه ، وأما إن قدِّر المسيح نائب الفاعل لـ « « شُبّهَ »( ) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي ، لأنه لا وجه ، لغوياً ، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره ، إذ لم يذكر صريحاً ولا إشارة . ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى ، ولا مرة ، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته ، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين ، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح ، حال كونه نبههم مراراً على غير ضلالات عندهم . وذكر فيه أيضاً : لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - بنفي صلبه ، وفيه أيضاً : أن هذه الآية يصح تأويلها إيجابياً طبقاً لما في الإنجيل ، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي ، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك ، التي نسبت صريحاً لغيرها فاعلها الظاهر . وقال في الفصل العاشر : أما قولنا إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة ، فهو استناد على قوله : « فَلم تَقْتُلُوهُمْ ، وَلَكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ، وَمَا رَميتَ إِذْ رَميتَ ، وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى »( ) ، وقوله : « إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ، إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ ، يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ »( ) ، فهنا الفاعل الظاهر - حساً وفعلاً - إنما هو الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل . ثم قال : وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن « الله رمى » ، وإنه تعالى هو المبايع ، فنقول : كذلك في آي الصلب ، وإخباره مراراً عديدة ، صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله - جل جلاله - ثم قال : نقول أخيراً : إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماماً وكمالاً ، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن ، ولكل فَحْوى أسفار الميثاقين أو العهدين ، بكل بيان ، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطاً وضد الحقيقة والذوق اللغوي ، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن ، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة ، ولا سيما الإنجيل ، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات ، وقام وعرج إلى السماء ، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمداً مبلغ القرآن العظيم ، الحاوي روح الصدق والحق ، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف . ثم قال : إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين ، ولا هو محرِّم قطعاً الاختلاف في تفسير بعض آيات ، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس ذلك محرماً إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات ، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي ، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك ، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية . هذا خلاصة ما أورده في رسالته ، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر ، في تآليف بديعة ، منها كتاب « السيوف البتارة » اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها ، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم ، وأبعد من مظنة التشيّع في شهادتهم على أنفسهم ، في أمر دينهم . قال : « يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموماً ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصاً ، فإنهم كانوا غالباً يرفضون حصول الصلب رفضاً باتاً ، لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح ، ونقصاً فاضحاً ، والبعض الآخر كان يجحده ارتكاناً على الأدلة التاريخية ، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة ، منها : الساطرنيوسيون ، والمركيونيون ، والبارديسيانيون ، والتاتيانيسيون ، والكاربو كراتيون ، والمانيسيون ، والبارسكاليونيون ، والبوليسيون ، إذ كلهم اعتقدوا ، مع كثيرين غيرهم ، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع ، أن المسيح سمر فعلاً ، أو مات على الصليب حقيقة ، حتى استَخَفُّوا بالصليب والصلب ، وقال بعض المؤرخين الأفاضل : إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سبباً في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين ، ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلاً ونقلاً ، بخلاف أفكار مضطهديهم ، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى - عليه الصلاة والسلام – أنها لا يجوز أن يمتهن ، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعاً ، وأن ألفاظ التوجع والتضجر ، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين ، لم يتفوه بها ، ولا تصح نسبتها إليه . وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعاً ، وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم تسلط عليه أيدي مضطهديه ، بل رفع إلى السماء . ومن القائلين بهذه الأفكار : الدوسيتية ، والمرسيونية ، والفلنطانيائية . وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط ، لا يمكن عقلاً أن يتصور صلبه . ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو « إدوار سيوس » ، أحد أعضاء « الانستيتو دي فرنس » في باريس ، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه « عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية » صفحة « 49 » : إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه ، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره ، فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه ، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منهم الباسيليديون ، كانوا يعتقدون ، بغاية السخافة ، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماماً ، وألقي شبه سيمون عليه ، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين ، ومنهم السيرنتيون ، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى ، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين ، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين . وقد صرح « إنجيل القديس برنابا » باسم الذي صلب بدل عيسى قال : إنه يهوذا . ولم يردّ المؤرخ ، المترجم كلامه ، على هذا الإنجيل ، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه . وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف ، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جماً غفيراً من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية ، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذاً ، وتفندها تفنيداً وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجاً ، لإنكار القرآن ، وما أنكروه من الصلب وغيره . وبالجملة إن أغلب الشعوب الشرقية ، قبل الفتح الإسلامي ، رفضت القتل والصلب ، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة ، المدعى بها بعد الصلب الموهوم ، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب ، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم ، فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها ، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم ، لحصول الجواز وقرب المسافة ، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب ؟ وبذلك يتبين أن دعوى « صاحب جريدة شهادة الحق » الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة ، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب ، وقد صرح القرآن بأن رسول الله - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق ، وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود ، والنصارى مع بعضهم بعضاً ، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرز أقوالهم ، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ، ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم ، فكان من مبادئهم ، العاملين عليها في سياستهم العمومية ، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود ، لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية ، والضغط على شعائرهم الملية . يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير « أرنست رنان » العضو في « الأكاديمية الفرنساوية » المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893م ، معنونة بـ « اليهود تحت حكم الرومان » حيث قال : إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهرياً ، ويجعلون شعائرهم الملية شيناً ، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية ، فكان من ضغط الرومان ، ومن تزلف اليهود إليهم ، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب ، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخاف الاختتان بعملية شاقة جداً « ذكرها سلسل المؤرخ الروماني الشهير » ثم يتزيى بزي الرومان ، ويسحب ذيوله تيهاً وإعجاباً بنفسه وبعوائد الرومان ، وازدراء واحتقاراً لبني جلدته وذوي ملته ، فرحاً بلقمة يلتقمها ، أو مرتبة يتربع في دستها ، وما زالت اليهود تَتَرَوْمَنُ حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع ، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية ، وأخيراً آل الأمر ، قبل وجود عيسى - عليه السلام - إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه ، بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه ، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود ، ووقع ذلك سيء الوقع ، وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها . ويعلق القاسمي على ذلك قائلاً : وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود ، فليس من المعقول أن الحكومة ، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود ، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب ، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية ، خصوصاً والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت ، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار ، وهم يكرهونه أشد من ذلك . دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى « حياة المسيح » حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة ، وكان ذلك - على زعمهم - ليستوجب قتله ، حيث قال : إن حاكم فلسطين المسمى « بونسيوس » الملقب « بيلاطس » أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم ، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة ، وبالإجمال ، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم ، لأنهم كانوا يجدونه قاسياً ذا أنفة وكبر ، غير مكترث بهم ، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل ، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا ، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقاً ومحوها محواً ، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم ، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية ، التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين ، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية ، لأنه اهتم بجلب النافع العام ، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية ، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير . فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية ، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم ، فانشغب الأمر ودام الفشل ، وأخيراً اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه . ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق ، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى - عليه الصلاة والسلام - حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه ، وعيسى ضد اليهود ، ويعيب التوراة كما يقولون . فكان ذلك عن رغبة الحاكم ، وجل ما يتمنى ، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله ؟ مع أنه كان قادراً على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم ، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالاً كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة ، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة ، فَرَاقه ذلك ، زيادة عن كراهته لليهود ، فعمل على خلاصه من الصلب ، كما يتضح من إنجيل متى « 24 : 27 » ، ولوقا « 12: 23» ، ويوحنا « 13 : 23 » . وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة كما هو مذكور في إنجيل متى « 19: 27 » : « إياك وهذا البارّ ، لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله » ، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة ، والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل سليمان - عليه السلام - فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور . وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد ، أن بيلاطس كان محباً لعيسى - عليه السلام - حباَ شديداً ، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته . فيؤخذ من كلام « رنان » أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ ، كان مضاداً للصلب ، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح - عليه السلام - وتبديله بآخر ، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح ، حتى إن « ترتوليانوس » ، أحد آباء الكنيسة النصرانية ، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانياً في الباطن . وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه « ملمن » : إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام . فيستنتج من ذلك أيضاً إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس ، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم ، كما اعتقد بعض الطوائف ، وصدقهم القرآن . ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين « كالمسيو شارل بيكار » و « أرنست دي بونس » وغيرهما ، فإن الأول قال : إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير ، لتوافق اعتقادات قديمة ، مآلها : أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم ، وكانت اليهود تقدم أولادها قرباناً للذبح استجلاباً لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه . ويقول : إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه . ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء ، بدل ذبح الآدمي قرباناً بذبح الحيوان . وأطال المسيو « بيكار » في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - مع هذه العوائد القديمة ، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملاً رمزًا عن شيء عندهم اسمه « اللنجام » وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما . وأما المسيو « أرنست دي بونس الألماني » فإنه قال في كتابه المسمى بـ « النصرانية الحقة » « صفحة 142» ما معناه : إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء ، هو من مبتكرات ومخترعات « بولس » ومن شابهه ، من الذين لم يروا المسيح - عليه الصلاة والسلام - لا من أصول النصرانية الأصلية .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ