تابع جبل الشيح - جبل الجليل - 5
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ ، فضلاً عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل ، يرجح نفي حصوله رجحاناً لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي ، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى ، لأنهم أبناء جلدتها ، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية ، فيؤخذ من كل ذلك :
أولاً : أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح - عليه الصلاة والسلام - وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية ، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها .
ثانياً : وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم .
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيداً لا مزيد عليه ، ومن ضمنها ، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام - حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة . ومن المعلوم أن الحكم في ذلك الموضوع ، الرجم لا الصلب ، فهذا مما يرتكن عليه مثل المسيو « شارل بيكار » في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزاً لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة وهي مسألة الفداء . انتهى كلام صاحب السيوف البتارة . ولما اطلع على الردود ذلك النصراني المذبذب المردود عليه ، أعياه الرد من الطريقة التاريخية ، فأخذ يرد عليها تشبثاً بأسباب واهية فعدّ ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول ، هرطوقياً ، أي : مارقاً من الدين ، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج ، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال : أنه لا يمكنه أن يزيف شيئاً منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة ، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق . فعاد صاحب « السيوف البتارة » وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه ، تكملة للأول ، فتوسع - جزاه الله خيراً - في هذا الموضوع ثم قال « في الكلام على الإنجيل » ما لفظه : أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير ، إذ لا يفهم أحد للآن : كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة ؟ ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل ؟ مختلفة كل الاختلاف ، متضاربة كل التضارب . ولا يدري لماذا عدلوا عن « إنجيل برنابا » مثلاً الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية ؟ فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبي ، عبد ، مخلوق ، ليس بإله ، وأنه لم يصلب ، وفيه البشارة بسيدنا محمد - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - مذكوراً بلفظه « كذا » . وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور : « وإني وإن كنت بريئاً ، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي : إنه الله وابن الله ، كره الله هذا القول ، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزؤون ، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا ، ويظن كل شخص أني صلبت ، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله ، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط ، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس » . وقد استشهد العلامة « سيل » الإنكليزي ، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف ، بهذه الآية الإنجيلية ، تفسيراً لقوله تعالى : « وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ »( ). وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة ، حتى أن العالم الإنكليزي « تولاند » قال : وعلى النصرانية السلام ، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل ، ثم قال : قال العلامة « هيردر » وجماعة آخرون : إن الإنجيل الأصلي كان واحداً ، إلا أنه لم يكتب ، بل قال المسيح مشافهة ، ورواه الحواريون عنه للناس شفاهياً أيضاً ، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص ، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم ، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر ، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت ، وكتب أخيراً منها أناجيل شتى ، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية . ثم قال مؤلف « السيوف البتارة » : فوضح وضوحاً تاماً لذي بصيرة ، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطاً لا تقوم بعده أبداً ، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان ، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم ، لذهاب أصلها أدراج الرياح ، بثبوت التحريف والتغيير لها . ثم قال : وأما قوله « يعني المذبذب » ، بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب « هراقطة » فغريب ، لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح ، وهل الاقتصار ، في الرد من باحث ، على قوله « كفرة » يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة ؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح ؟ وإذا جاز إطلاق « كفرة » على هؤلاء - وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني ، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم ، وتكون في ردك بكلمة « هراقطة ، كفرة » أشبه لمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة « لا » فقط ، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها . ثم قال : فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن ، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبأ ، وذهبوا فيه كل مذهب ، فلا تكاد تجد قولاً لأحدهم في أي : عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم ، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات ، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه ، ولا اجتمع فيه رأيان ، كان ذلك من باب التقليد والتسليم ، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال : إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصورٍ ، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم « كما يقولون » وأساس معتقدهم ، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين ، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى علها ديننا في شيء ، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين ، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى - مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - صلب أو قتل ، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحدٌ منهم في كل عصر ومكان ، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته . ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسالة ، ونظر لأهميتها عند النصارى ، مع عدم قدرتهم على إثباتها ، ولفرعيتها عند المسلمين ، مع إجماعهم على نفيها إجماعاً لا مثيل له في العالم - لانبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم ، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره ، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم ، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له ، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف ، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم ، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين ، من غير استناد على دليل نقلي صحيح ، أو عقلي مسلم ، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد ، ناشدين الحقيقة ، فانجلت ، لكثير منهم ، عن تدمير هذا البناء التقليدي ، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم ، ومما هو جدير بالتنبه له أن « بولس » الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم ، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء ، وألوهية عيسى إلى غير ذلك - قد أَبَان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين ، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية ، حيث قال : أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً ، وقال في رسالته لأهل رومية : نحن نقوم بشبه موته ، إلى أن قال : فدفنا معه بالمعمودية ، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته ، نصير أيضاً بارتفاعه ، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ ، فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة ، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب ، كما جاء في إنجيل برنابا ، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق ، وأنت لاهٍ عن أنه : متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال ، وإنما أتينا بكلامه تنزلاً معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية ، فنقول : حتى على فرض صحة ما روي عن بولس نفسه ، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل ، لا لحصولهما حقيقة ، هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها « الشرير فدية الصِّدِّيق » لكان معناه ، على مقتضى زعمك ، أن عيسى شرّ بالإضافة لكل أحد ، وهذا لا يجوز لا عقلاً ولا شرعاً . فوجب ، أخذاً من عبارة التوراة ، أن يكون المصلوب شريراً فداءً لصدِّيق ، هو عيسى - عليه الصلاة والسلام - كما جاء في إنجيل برنابا . انتهى ملخصاً . وعلق القاسمي على ذلك قائلًا : ولن يعدم الحق أنصاراً ، والباطل خزياً وانكساراً .
وأخيرًا زيَّن القاسمي نقوله وأقواله بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه « الفرقان » وهو من آخر مصنفاته ، صنفه بقلعة دمشق : « فإن قيل : فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب ، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم ، وقال لهم : أنا المسيح ، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم ، وهذا أثر المسامير ، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله - عز وجل - فيه : « وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ »( ) ، وقال قبل هذا : « وَقَفّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ : مُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ ، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ، وَمُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لّلمتّقِينَ . وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ ، وَمَن لم يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »( ) ، وقال قبل هذا : « وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ، ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ، وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمؤْمِنِينَ . إِنّا أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلمواْ لِلّذِينَ هَادُواْ ، وَالرّبّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ ، وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء »( ) وقال أيضاً : « وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم »( ) ، وقال أيضاً : « قُلْ : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ! لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ، حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ ، وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ، فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »( ) ، وهذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لأهل الكتاب ، الذين بعث إليهم ، وهو من كان في وقتهم ، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة ، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم . وكذلك قوله : « وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ »( ) ، إخبار عن اليهود الموجودين ، وأن عندهم التوراة فيها حكم الله ، وكذلك قوله : « وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه »( ) ، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل ، ومن لا يؤمر على لسان محمد - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - قيل قبل هذا : إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل ، فإن التوراة انقطع تواترها ، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة ، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله ، ومنهم من قال : بل ذلك قليل ، وقيل : لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرَّفوا معانيها بالتأويل ، وهذان القولان ، قال كلاً منهما كثير من المسلمين . والصحيح القول الثالث ، وهو أن في الأرض نسخاً صحيحة ، وبقيت إلى عهد النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - ونسخاً كثيرة محرّفة ، ومن قال : إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه . ومن قال : جميع النسخ بعد النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه ، وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ ، وإذا كان كذلك فنقول : هو سبحانه قال : « وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه »( ) ، وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى - عليه السلام - ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل ، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه مع ذلك التعريف بحال توفيهما ، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما ، ليس هو مما أنزله الله عليهما ، ولا هو مما أمرا به في حياتهما ، ولا مما أخبرا به الناس ، وكذلك : « لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ »( ) ، وقوله : « وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم »( ) ، فإن إقامة الكتاب ، العمل بما أمر الله به في الكتاب ، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول . وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك ، ليس هو مما أنزله الله على الرسول ، ولا مما أمر به ، ولا أخبر به ، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة ، يصنف الشخص كتاباً فيذكر ناسخه ، في آخره ، عمر المصنف ونسبه وسنه ، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف ، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن ، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن ، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا « آمين » ، ولا غير ذلك . والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم ، على هذه الصفة ، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء ، وكتب في آخر المصحف تصديقه ، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك ، وليس هذا من القرآن ، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين ، ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده ، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله ، فإن قيل : فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب ، وأنه أتاهم بعد أيام ، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين ، فقد دخلت الشبهة . قيل : الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء ، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء ، فإن الحجة في كلام الأنبياء ، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة ، إن كان حقّاً قُبِلَ وإِلاَّ رُدّ ، ولهذا كان ما نقله الصحابةُ عن النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - من القرآن والحديث يجب قبوله ، لا سيما المتواتر ، كالقرآن وكثير من السنن . وأما ما قالوه ، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم ، وما تنازعوا فيه ، رُدَّ إلى الله والرسول ، وعُمَرُ قد كانَ أَوَّلاً أنكر موت النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - حتى ردَّ ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه ، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة ، وتنازعوا في قتال مانعيّ الزكاة ، فلم يكن هذا قادحاً فيما نقلوه عن النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه ، فإن الذي صُلِبَ إنما صلبه اليهود ، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضراً ، وأولئك اليهود الذين صلبوه ، قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح ، وقد قيل : إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس . والأول هو المشهور ، وعليه جمهور الناس ، وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب ، ولكن عمدتهم على ذلك ، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال ، أنا المسيح ، وذاك شيطان ، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيراً ما تجيء ، ويدّعي الشيطان : إنه نبي أو صالح ، ويقول : أنا فلان النبي والصالح ، ويكون شيطاناً . وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍ وقال : أنا المسيح ! جئت لأهديك ، فعرف أنه الشيطان ، فقال : أنت قد بلغت الرسالة ، ونحن نعمل بها ، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك . فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب ، كما قال تعالى : « وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ »( ) ، وأضاف الخبر عن قتله ، إلى اليهود بقوله : « وَقَوْلِهِمْ : إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ »( ) ، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة ، إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح . ومن جوز قتله فهو كمن قتله ، فهم في هذا القول كاذبون ، وهم آثمون . وإذا قالوه فخراً لم يحصل لهم الفخر ، لأنهم لم يقتلوه ، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه . وقد قال النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم -: « إذا التقى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ » ، قالوا : يا رسول الله ! فما بال المقتول ؟ قال : « إِنَّهُ كان حريصاً عَلى قَتْلَ صَاحِبِهِ »( ) . وقوله : « وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ » : قيل هم اليهود والنصارى ، والآية تعم الطائفتين . وقوله : « لَفِي شَكّ مّنْهُ » من قتله ، وقيل : منه ، أي : في شك منه ، هل صلب أم لا ؟ كما اختلفوا فيه ، فقالت اليهود : هو ساحر ، وقالت النصارى : إنه إله ، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا ؟ وهم في شك من ذلك ، ما لهم به من علم . فإذا كان هذا في الصلب ، فكيف في الذي جاء بعد الرفع ، وقال إنه هو المسيح ؟ فإن قيل : كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم : « وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ »( ) ، وقوله : « فَأَيّدْنَا الّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ »( ) ، قيل : ظنٌّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين ، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له ، وقتل النبي لا يقدح في نبوته ، وقد قتل بنو إسرائيل كثيراً من الأنبياء ، قال تعالى : « وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ »( ) الآية ، وقال تعالى : « وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ، أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ؟ »( ) . وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم ، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - جاءهم في اليقظة ، فإنهم لا يكفرون بذلك ، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعاً للسنة وأتباعاً لها ، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره ، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله ، فهذا غلط منه لا يوجب كفره . فكذلك ظنُّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح ، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه ، وعُمَرُ - لما كان يعتقد أن النبي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - لم يمت ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن هذا قادحاً في إيمانه ، وإنما كان غلطاً ورجع عنه ، وقوله تعالى : « مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم » هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم .
ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري قصيدة في هذا المقام ، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام :
جاء المســـيح مــن الإلــه رســــولاً فأبى أقل العالمين عقــولا
قوم رأوا بشـــراً كريماً فادعـــوا مـن جهلهـــم لله فيه حلــــولا
وعصابة ما صدقته وَأكثرت ، بالإفـــك والبهتان ، فيه القـيــلا
لـــم يأت فيه مُفْــــرِط ومُفَـــرِّط بالحـــق تجريحـاً ولا تعديــلا
فكأنما جـــاء المســـيح إليهـــم ليكذبـوا التـــوراة والإنجيـــــلا
فاعجـــب لأمته التي قد صيـــرت تنزيهـــها لإلهـها التنكيـــلا
وإذا أراد الله فتنة معشـــر وأضلهـــم ، رَأوُا القبيـــح جميــــلا
هــــم بجّلـــوه بباطـــل فابتـــزّه أعــداؤه بالباطـــل التبجيــــلا
وتقطعوا أمــر العقائد بينهم زمـراً ، ألَمْ تَــرَ عقــدها محلـــولا
هو آدم في الفضل إلا أنه لمـــن يُعْـــطَ حال النفخــة التكميــلا
أســمعتموا أنه الإله لحاجــة يتناول المشـــروب والمأكـــــولا ؟
وينــام من تعــب ويدعو ربه ويروم من حــر الهجيــر مقيــلا
ويمسُّـــه الألــم الذي لم يســـتطع صــرفاً له عنه ولا تحويــلا
يا ليت شعري حين مات بزعمهم من كان بالتدبير عنه كفيــلا ؟
هل كان هذا الكـون دبر نفســـه من بعـــده أم آثـــر التعطيـــلا ؟
زعموا الإله فــدى العبيد بنفســـه وأراه كان القاتــل المقتـــولا
أجْزُوا اليهود بصلبه خيراً ، ولا تجزوا يهوذا الآخذ البرطيــلا
أيكـــون قــوم في الجحيم ويصطفى منهم كليماً ربُّنا ، وخليــلا
وإذا فرضتـــم أن عيســـى ربكم ، أفلم يكـــن لفدائكـم مبــذولاً ؟
وأجـــل روحاً قامت الموتى به عــن أن يرى بيد اليهـود قتيـلا
فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم من كتبكم مــا وافـق التـزيلا
شـــهد الزبـــور بحفظــه ونجاتــه ، أفتجعلــون دليلــه مدخولاً ؟
أيكون من حفظ الإله مضيعاً أو من أشـــيد بنصـــره مخــذولاً ؟
أيجــــوز قـــول منـــزه لإلهه ســـبحان قاتـــل نفســـه مقتـــولا ؟
أو جل ّمن جعل اليهودُ بزعمكم شـــوك القتـــاد لرأسـه إكليــلا
ومضى لحبل صليبه مســـتســلماً للمـوت مكتوف اليدين ذليــلا
كم ذا أبكتكم ولم تســــتنكفوا أن تســـمعوا التبكيت والتخجيـــلا
ضل النصارى في المسيح وأقسموا لا يهتدون إلى الرشاد سبيلاً
وهي سابغة الذيل ، كلها من هذا النفس البديع .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ