تابع جبل الشيح - جبل الجليل - 3
وفي كتاب « الفاصل بين الحق والباطل » ما نصه : « وفي الذي اتخذتموه شهيدًا على صلبه من كلام عاموص النبي ، أن الله تعالى قال على لسانه : « ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل ، والرابعة لا أقبلها : بيعهم الرجل الصالح » حجة عليكم لا لكم ، لأنه لم يقل بيعهم إياي ، ولا قال بيعهم إلهًا متساوياً معي . ويجري تأويل ذلك على وجهين : إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى - كما تزعمون - فقولوا حينئذ إنه « الرجل الصالح » كما قال عاموص ، وليس بالإله المعبود ، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه ، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى - عليه السلام - كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى - عليه السلام - ووقوع الشبه على غيره ، وذلك من وجوه . أحدها : يوجد في الإنجيل أن عيسى - عليه السلام - « صعد إلى جبل الجليل ، ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا ، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه ، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق ، وإذا بموسى بن عِمْرَان وإيليا قد ظهرا له ، وجاءت سحابة فأظلتهم ، فوقع النوم على الذين معه » . فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود ، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك ، وغيرتم الكلم عن مواضعه ، وظهور الأنبياء - عليهم السلام - وتظليل السحابة ، ووقوع النوم على التلاميذ ، يكون حينئذ دليلاً ظاهراً على الرفع إلى السماء وعدم الصلب ، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات . وثانيها : ما في الإنجيل أيضاً : « أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلاً مضافاً بمر ، فذاقه ولم يشربه ، فنادى : إلهي إلهي لم خذلتني ؟ » والأناجيل كلها مصرحة بأنه - عليه السلام - كان يطوي أربعين يومًا وأربعين ليلة ، ويقول للتلاميذ : « إن لي طعاماً لستم تعرفونه » . ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يومًا وليلة ، كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد ؟ هذا لا يفعله أدنى الناس ، فكيف بخواص الأنبياء ؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه ؟ فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره ، وهو الذي شبه لكم . وثالثها : قوله : « إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني ؟ » هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء ، وعدم التسليم لأمر الله تعالى ، وعيسى - عليه السلام - منزه عن ذلك ، فيكون المصلوب غيره ، لا سيما وأنتم تقولون : إن المسيح - عليه السلام - إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه ، ويخلّصه من الشيطان ورجسه ، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك ؟ مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون - عليهم السلام - لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم ، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم ، لم يجزعوا من الموت ، ولم يستقيلوا منه ، ولم يهابوا مذاقه ، مع أنهم عبيده . والمسيح بزعمكم وَلَدٌ وَرَبٌّ ، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم ، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره ، وهو الذي شبه لكم . ثم تابع القاسمي نقوله وأقواله فقال : فصل فيما روي عن سلفنا الكرام - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية : « قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره هنا ما نصه : « وَكَانَ مِنْ خَبَر الْيَهُود ... أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّه عِيسَى اِبْن مَرْيَم بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ النُّبُوَّة وَالْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات ، الَّتِي كَانَ يُبْرِئ بِهَا الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه ، وَيُصَوِّر مِنْ الطِّين طَائِراً ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِراً يُشَاهِد طَيَرَانه بِإِذْنِ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّه بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ حَتَّى جَعَلَ نَبِيّ اللَّه عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - لَا يُسَاكِنهُمْ فِي بَلْدَة بَلْ يُكْثِر السِّيَاحَة هُوَ وَأُمّه - عَلَيْهِمَا السَّلَام - ثُمَّ لَمْ يُقْنِعهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِك دِمَشْق فِي ذَلِكَ الزَّمَان ، وَكَانَ رَجُلاً مُشْرِكاً مِنْ عَبَدَة الْكَوَاكِب ، وَكَانَ يُقَال لِأَهْلِ مِلَّته الْيُونَان ، وَأَنْهَوْا إِلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْت الْمَقْدِس رَجُلاً يَفْتِن النَّاس وَيُضِلّهُمْ ، وَيُفْسِد عَلَى الْمَلِك رَعَايَاهُ . فَغَضِبَ الْمَلِك مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إِلَى نَائِبه بِالْقُدْسِ أَنْ يَحْتَاط عَلَى هَذَا الْمَذْكُور ، وَأَنْ يَصْلُبهُ وَيَضَع الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس . فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَاب اِمْتَثَلَ وَالِي بَيْت الْمَقْدِس ذَلِكَ ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَة مِنْ الْيَهُود إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ فِي جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه اِثْنَيْ عَشَر أَوْ ثَلَاثَة عَشَر وَقَيلَ سَبْعَة عَشَر نَفَراً . وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة بَعْد الْعَصْر لَيْلَة السَّبْت فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ . فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَة مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْهِ ، أَوْ خُرُوجه إِلَيْهِمْ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ شَابّ مِنْهُمْ ، فَكَأَنَّهُ اِسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَة وَثَالِثَة ، وَكُلّ ذَلِكَ لَا يُنْتَدَب إِلَّا ذَلِكَ الشَّابّ ، فَقَالَ : أَنْتَ هُوَ ، وَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَة مِنْ سَقْف الْبَيْت ، وَأَخَذَتْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - سِنَةٌ مِنْ النَّوْم فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاء ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : « إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ »( ) الْآيَة . فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَر ، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابّ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْل وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَأَظْهَرَ الْيَهُود أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبه وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِف مِنْ النَّصَارَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّة عَقْلهمْ ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَعَ الْمَسِيح فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعه . وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَّ الْيَهُود أَنَّ الْمَصْلُوب هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَم جَلَسَتْ تَحْت ذَلِكَ الْمَصْلُوب وَبَكَتْ ، وَيُقَال إِنَّهُ خَاطَبَهَا - وَاَللَّه أَعْلَم - وَهَذَا كُلّه مِنْ اِمْتِحَان اللَّه عِبَاده لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّه الْأَمْر وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُوله الْكَرِيم ، الْمُؤَيَّد بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَات ، وَالدَّلَائِل الْوَاضِحَات ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ ، وَرَبّ الْعَالَمِينَ الْمُطَّلِع عَلَى السَّرَائِر وَالضَّمَائِر ، الَّذِي يَعْلَم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ، الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْف يَكُون : « وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ »( ) أي : رَأَوْا شَبَهه فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ . وَلِهَذَا قَالَ : « وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ ، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلَّا اِتِّبَاع الظَّنّ »( ) يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ مِنْ الْيَهُود وَمَنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ جُهَّال النَّصَارَى ، كُلّهمْ فِي شَكّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَة وَضَلَال وَسُعُر . وَلِهَذَا قَالَ : « وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً »( ) أي : وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ . « بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزاً »( ) أي : مَنِيع الْجَنَاب لَا يُرَام جَنَابه ، وَلَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ « حَكِيماً »( ) أي : فِي جَمِيع مَا يُقَدِّرهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْأُمُور الَّتِي يَخْلُقهَا ، وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة الدَّامِغَة وَالسُّلْطَان الْعَظِيم وَالْأَمْر الْقَدِيم .
وقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : فيما رواه بسنده عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَرْفَع عِيسَى إِلَى السَّمَاء خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه ، وَفِي الْبَيْت اِثْنَا عَشَر رَجُلاً مِنْ الْحَوَارِيِّينَ ، يَعْنِي : فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْن فِي الْبَيْت وَرَأْسه يَقْطُر مَاء ، فَقَالَ : إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُر بِي اِثْنَيْ عَشْر مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِي . قَالَ : ثُمَّ قَالَ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَيَكُون مَعِي فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابّ مِنْ أَحْدَثهمْ سِنّاً فَقَالَ لَهُ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابّ فَقَالَ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ : أَنَا . فَقَالَ : هُوَ أَنْتَ ذَاكَ ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى ، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَة فِي الْبَيْت إِلَى السَّمَاء . قَالَ : وَجَاءَ الطَّلَب مِنْ الْيَهُود فَأَخَذُوا الشَّبَه فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضهمْ اِثْنَتَيْ عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِهِ ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاث فِرَق : فَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ اللَّه فِينَا مَا شَاءَ ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاء وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّة . وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا اِبْن اللَّه مَا شَاء ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّة . وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا عَبْد اللَّه وَرَسُوله مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ . فَتَظَاهَرَتْ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوهَا ، فَلَمْ يَزَلْ الْإِسْلَام طَامِساً حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى اِبْن عَبَّاس ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة ِنَحْوِهِ . وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ .
وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا يَعْقُوب الْقُمِّيّ عَنْ هَارُون بْن عَنْتَرَة عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ : أُتِيَ عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَة عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْت ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ صَوَّرَهُمْ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كُلّهمْ عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَقَالُوا لَهُمْ : سَحَرْتُمُونَا ، لَتَبْرُزَن لَنَا عِيسَى أَوْ لنقْتُلَنكُمْ جَمِيعاً ، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَشْرِي نَفْسه مِنْكُمْ الْيَوْم بِالْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ : أَنَا . فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ : أَنَا عِيسَى . وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّه عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى ، وَظَنَّتْ النَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى ، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ يَوْمه ذَلِكَ . قال ابن كثير : وَهَذَا سِيَاق غَرِيب جِدّاً . ثَم قَالَ اِبْن جَرِير : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْب نَحْو هَذَا الْقَوْل وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حدثنا إسحاق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ عَبْد الْكَرِيم حَدَّثَنِي عَبْد الصَّمَد بْن مَعْقِل أَنَّهُ سَمِعَ وَهْباً يَقُول : إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ خَارِج مِنْ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنْ الْمَوْت ، وَشَقَّ عَلَيْهِ ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ : احْضُرُونِي اللَّيْلَة فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَة ، فَلَمَّا اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ اللَّيْل عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدُمهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الطَّعَام أَخَذَ يَغْسِل أَيْدِيهمْ وَيُوَضِّئهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَح أَيْدِيهمْ بِثِيَابِهِ فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ . فَقَالَ : أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ اللَّيْلَة شَيْئاً مِمَّا أَصْنَع فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَا أَنَا مِنْهُ . فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : أَمَّا مَا صَنَعْت بِكُمْ اللَّيْلَة مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَام وَغَسَلْت أَيْدِيكُمْ بِيَدِي ، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَة ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْركُمْ فَلَا يَتَعَاظَم بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسه كَمَا بَذَلْت نَفْسِي لَكُمْ ، وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَة الَّتِي اِسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا ، فَتَدْعُونَ اللَّه لِي ، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاء أَنْ يُؤَخِّر أَجَلِي ، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسهمْ لِلدُّعَاءِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا ، أَخَذَهُمْ النَّوْم حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاء ، فَجَعَلَ يُوقِظهُمْ وَيَقُول : سُبْحَان اللَّه ! أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَة وَاحِدَة تُعِينُونَي فِيهَا ، فَقَالُوا : وَاَللَّه ! مَا نَدْرِي مَا لَنَا ؟ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُر فَنُكْثِر السَّمَر ، وَمَا نُطِيق اللَّيْلَة سَمَراً ، وَمَا نُرِيد دُعَاء إِلَّا حِيلَ بَيْننَا وَبَيْنه . فَقَالَ : يَذْهَب الرَّاعِي وَتتُفَرَّق الْغَنَم . وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْو هَذَا يَنْعِي بِهِ نَفْسه . ثُمَّ قَالَ : الْحَقّ ، لَيَكْفُرَن بِي أَحَدكُمْ قَبْل أَنْ يَصِيح الدِّيك ثَلَاث مَرَّات ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدكُمْ بِدَرَاهِم يَسِيرَة وَلَيَأْكُلَن ثَمَنِي ، فَخَرَجُوا فَتَفَرَّقُوا ، وَكَانَتْ الْيَهُود تَطْلُبهُ ، وَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَد الْحَوَارِيِّينَ وَقَالُوا : هَذَا مِنْ أَصْحَابه فَجَحَدَ وَقَالَ : مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ ، فَتَرَكُوهُ . ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْت دِيك فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَد الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُود ، فَقَالَ : مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيح ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً ، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْل ذَلِكَ ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ ، وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ كُنْت تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتهَر الشَّيْطَان ، وَتُبْرِئ الْمَجْنُون ، أَفَلَا تُنْجِي نَفْسك مِنْ هَذَا الْحَبْل ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْك ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَة الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا ، فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعاً ، ثُمَّ إِنَّ أُمّه وَالْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فَأَبْرَأهَا اللَّه مِنْ الْجُنُون ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ الْمَصْلُوب فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ : عَلامَ تَبْكِيَانِ ؟ فَقَالَتَا عَلَيْك . فَقَالَ : إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّه إِلَيْهِ ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْراً ، وَإِنَّ هَذَا شَيء شُبِّهَ لَهُمْ . فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أن يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا ، فَلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَان أَحَد عَشَر ، وَفَقَدُوا الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُود فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابه ، فَقَالَوَا : إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسه ، فَقَالَ : لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّه عَلَيْهِ . ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَام يتَبِعَهُمْ يُقَال لَهُ يُحَنَّى ، فَقَالَ : هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ َيُصْبِحُ كُلّ إِنْسَان يُحَدِّث بِلُغَةِ قَوْمه ، فَلْيُنْذِرهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ . قال ابن كثير : سِيَاق غَرِيب جِدّاً . وقال ابن جريج عن مجاهد : صلبوا رجلاً شبه بعيسى ، ورفع الله - عز وجل - عيسى إلى السماء حياً .
ثم تابع القاسمي حديثه في فصل رد فيه زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة فقال : قال خير الدين في « الجواب الفسيح » قال النصارى : القول بإلقاء الشبه على عيسى - عليه السلام - قول يفضي إلى السفسطة ، والدخول في الجهالات ، وما لا يليق بالعقلاء ، لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإِنسَاْن ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته ، وكذلك سائر المعارف ، لا يثق الإِنسَاْن بأحد منهم ولا يسكن إليه ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإِنسَاْن يقطع بأن ولده هو ولده ، وإن كل واحد من معارفه هو ، من غير شك ولا ريبة ، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإِنسَاْن ووطنه إذا دخله ، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه ، بل إذا غمض الإِنسَاْن عينيه عن صديقه بين يديه لحظة ، ثم فتحها ، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه ، لجواز إلقاء الشبه على غيره ، وكل ذلك خلاف الضرورة ، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة ، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلاً ، فلا يسمع .
والجواب عنه من وجوه :
أحدهما :- أن هذا تهويل ليس عليه تعويل ، بل البراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإِنسَاْن وجملة أجزاء العالم ، وإن حكم الشيء حكم مثله : فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله ، لتعذر خلقه في نفسه ، فيلزم أن يكون خلق الإِنسَاْن مستحيلاً ، بل جملة العالم ، وهو محال بالضرورة ، وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم ، فجميع صفات جسد عيسى - عليه السلام - لها أمثال في حيز الإمكان في العدم ، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح ، فيحصل الشبه قطعاً ، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن ، لا بما هو خلاف الضرورة ، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى - عليه السلام - وهو أعظم من الشبه ، فإن جَعْلَ حيوان يشبه حيواناً ، وإنسان يشبه إنساناً - أقرب من جعل نبات يشبه حيواناً ، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى ، كما أجمعوا على قلب النار برداً وسلاماً ، وعلى قلب لون يد موسى - عليه السلام - وعلى انقلاب الماء خمراً وزيتاً للأنبياء - عليهم السلام - وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة ، على أن عيسى - عليه السلام - قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماءٍ واحدٍ ، ونفخ جبريل في جيب مريم ، فجعلُ شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة ، من خلقه ، على أن إحياءه للموتى ، وإبراءَه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره ، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ، ليس بأهون من ذلك ، على أن رد الشمس ليوشع بن نون ، ومشي عيسى وحواريّه على الماء ، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل ، ليس بأهون مما هنالك ، وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح ، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي ، لِمَ لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم ؟ كما لا يخفى .
وثانيها :- أن الإنجيل ناطق بأن المسيح - عليه السلام - نشأ بين ظهراني اليهود ، وحضر مراراً عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم ، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم ، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله ، حتى إنهم - كما في الإنجيل - يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا ؟ فمن أين له هذه الحكمة ؟ إذاً ، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم . وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه ، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهماً ليدلهم عليه ، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلاً من تلاميذه ليعرفهم شخصه ؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به .
وثالثها :- أنه كما تقدم في الأناجيل ، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شُوِّهت صورته وغُيّرت محاسنه وهيئته ، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال ، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه ، هل هو يسوع المسيح ابن الله ؟ فلم يجبه ، ولو كان هو لأجابه ، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى - عليه السلام - دون شبهه ؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين : « وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ »( ).
رابعها :- قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال : من تريدون ؟ قالوا : يسوع - وقد خفي شخصه عليهم - ففعل ذلك مرتين ، وهم ينكرون صورته ، وهذا دليل الشبه ، ورفع عيسى - عليه السلام - ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح - عليه السلام - كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة .
خامسها : قول متى في « الفصل الخامس والعشرين » من « إنجيله » ما لفظه : « حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية ، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل . فأجاب بطرس وقال له : وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً . قال له يسوع : الحق أقول لك ، إنك هذه الليلة ، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات » . فقد شهد عليهم بالشك ، بل خَيِّرُهم بطرس الذي هو خليفة عليهم شك ، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم ، وصح قوله تعالى : « وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ »( ).
سادسها : إن في « الفصل السابع والعشرين » من « إنجيل متى » ما لفظه : « حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ ، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ، قائلاً : قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً . فقالوا : ما علمنا ، أنت أبصر ، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ، ثم مضى وخنق نفسه » . فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه ، بل فيها اختلافات ، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله « هو هذا » ويدل على وقوع ذلك ، ويقربه ظهور ندمه بعد هذا ، ولا سيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية ، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم ، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه ، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة ، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة ، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح - عليه السلام - وادعى أنه هو ، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء ، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه ، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه ، وأخذوا بدله ، كما أن يهوذا ، مع أنه صديقه ورسوله ، أخذ رشوة ودلهم عليه ، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطاناً على صورته وصلبوه ، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه ، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم ، صار فداء له ، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه ، لأنه لو كان نازلاً لتقويته لقواه ، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء ، أو فدى نفسه له . وقال بعض الأفاضل : ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في « الفصل التاسع » من « إنجيل لوقا » ما لفظه : « أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي ، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه ، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة ، ولباسه مضيئاً لامعاً ... » إلخ . فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء ، ووقوع النوم على أصحابه ، وتغير وجهه وإضاءة لباسه ، إلا رفعه ... ورؤيتهم له بعد ذلك ، إنما هو من تطور روحه ، لأنه - عليه السلام - كان له قوة التطور : وهذا من أحكام الروح والنفس . ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام ، غير أنا نتنزل ونقول : ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه ، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت ، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياساً ، ومبدأ لتقويته وإيناساً ، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح ، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك ، ويهوذا قوله قول فرد ، وغير صالح للاحتجاج ، للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك ، فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح - عليه السلام - لا شبهه ، وأناجيلهم حالها معلوم لديك ، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن ، لا يخفى عليك .
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو : أن عيسى - عليه السلام - إذا كان لم يصلب حقيقة ، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه ، ورفع هو إلى السماء ، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده ؟ والجواب : أن عيسى - عليه السلام - لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناساً سيفترون عليه ، ويقولون بألوهيته ، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبداً من عبيد الله ، لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر ، بخلاف ما لو أخبر بأنه لا يصلب ، أو لم يصلب ، وأن المصلوب شبهه ، فإنه ربما كان ذلك مقوياً لشبهة أولئك الجماعة . ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل ، إذ لو اعتقد أحدٌ ، قبل إرسال نبينا - عليه الصلاة والسلام - بصلب عيسى ، لم يضره ذلك ، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى ، أَبَان خطأ النصارى في الوجهين : أحدهما : اعتقاد أن عيسى إله . والآخر : اعتقاد أنه قد قتل وصلب . وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة ، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه ، كذا في « منية الأذكياء في قصص الأنبياء » .
ثم استطرد القاسمي في حديثه في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب فقال : قال القرافي : اعلم أن النصارى قالوا : إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها ، وكلهم يخبر أن المسيح - عليه السلام -صلب - وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب . والإنجيل أيضاً مخبر عن الصلب ، فإن جوزتم كذبهم ، وكذب ما يدعى أنه الإنجيل ، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه : أحدها : أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون ، جعل القرآن متواتراً . وثانيها : أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية . فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا . وثالثها : أن إنكار الأمور المتواترة ، جحد للضرورة فلا يسمع ، فلو قال إنسان : الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب ، لم يسمع ذلك منه ، وعدّ خارجاً عن دائرة العقلاء ، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق ، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك ، مشكل . والجواب من وجوه :
أحدها : أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه ، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها ، دون غيرها ، كما هو مسلم عند كل دريّ - صاحب دراية - مصنف ، وها نحن نوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - فنقول : إن التواتر له شروط :
الشرط الأول : أن يكون المخبر عنه أمراً محسوساً ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة : كإخبار المعطلة عن عدم الصانع ، والفلاسفة عن قدم العالم ، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة ، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ ، فلا يثق الإِنسَاْن بالخبر عن العقليات ، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر ، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر . أما الأمور المحسوسة ، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد عن الخطأ ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب ، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر .
الشرط الثاني : استواء الطرفين والواسطة ، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا ، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس ، المخبر عنه ، حصل العلم بخبرهم ، وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمور المحسوس ، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك ، فلا بد أن يكون الغير المباشر عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه إن جاز الكذب عليه ، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا ، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه ، فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم ، لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه ، فيتعين أن يكون الأصل عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فهذا معنى قولنا : « استواء الطرفين » في كونهما عدداً يستحيل تواطؤهما على يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك ، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس ، بل ينقل عن غيره أيضاً ، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضاً ، لما تقدم ، وفي هذه الصورة حمل طرفان وواسطة ، فالطرفان المخبر لنا ، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما ، فيجب استواء الطرفين والواسطة ، والوسائط تكثرت في كونهم عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فينقسم ، بهذا التحرير ، التواتر إلى طرف فقط ، وإلى طرفين بلا وساطة ، وإلى طرفين وواسطة ، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط ، فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول : الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة ، وأما أنه عيسى - عليه السلام - نفسه أو غيره ، فهذا لا يفيده الحس البتة ، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت ، أو بأخبار الأنبياء -عليهم السلام - عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات ، أنا لو وضعنا في إناء رطلاً من الماء مثلاً ، وأريناه لإنسان ، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلاً آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإِنسَاْن ، وقلنا له : هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله ؟ فإنه إذا أنصف يقول : الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة ، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلاً له ، فلا أعلم ، لكون الحس لا يحيط بذلك ، هذا في المائعات ، وكذلك كف من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب ، كالحنطة مثلاً ، إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك ، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس ، إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها . وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري ، والحيوان الإنسي يختلف ذلك فيه ، بحسب مقتنيه اختلافاً كثيراً ، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق ، وإيثار نوع من العلف على غيره ، ومكان مخصوص على غيره ، وإلزام الحيوان أنواعاً من الأعمال والرياضة دون غيرها ، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك ، ثم يتصل ذلك بالنُّطف في التوليد ، مضافاً إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف ، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك ، فتشابهت أفراد نوعه ، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة ، فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين ، ولا التمييز بين الشيئين ، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى - عليه السلام - دون شبهه أو مثله - ليس مدركاً بالحس ، وإذا لم يكن مدركاً بالحس ، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى - عليه السلام - شبهه في غيره ، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها ، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه ، وهو اللائق بكريم آلائه ، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه ، وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك ، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالماً عن المعارض ، مؤيداً بكل حجة ، وسقط السؤال بالكلية .
وثانيها : سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين ، والتمييز بين الشبهين ، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، ويدل على أنهم ليسوا كذلك ، أن الحواريين فروا عنه ، لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود ، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم ، لا يفيد علماً بل هو ظن وتخمين لا عبرة به ، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين : « وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ » أي : هم لا يتيقنون ذلك ، بل يحزرون بالظن والتخمين ، وأما من جهة الملة اليهودية ، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة ، وذلك في مجرى العادة يكون نفراً قليلاً ، كالاثنين أو الثلاثة ونحوها ، يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة ، وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر ، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد ، سقط اعتبارها في إفادة العلم ، لجواز كذب الناقل ، فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر ، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل ، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل ، عدلاً عن عدل ، إلى موسى وعيسى - عليهما السلام - وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل ، فأولى أن يتعذر التواتر ، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جداً ، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها ، لقرب عهدها ، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ ، فضلاً عن أصول الأديان ، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد ، في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف ، لأن الفرع لا يزيد على الأصل .
وثالثها : أن نصوص الإنجيل مُشعرة بعدم صلب عيسى - عليه السلام -بخصوصه ، كما نقلنا بعضاً آنفاً . وقال في « تخجيل الأناجيل » : فيقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه ، أتنقلونه من تواتر أم آحاداً ؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة ، ولم يثبت العلم الضروري ، إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب ، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك ، فلا يحتج بهم في القطعيات ، وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط ، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به ، وهو المصلوب ، وعلموا أنه هو ضرورة ، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر ، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة ، أكذبتهم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم ، إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معولهم : إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه ، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم ، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد ، ولما دخل الدار اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته ، فقالت : هذا كان مع يسوع ، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله ، وخادعهم حتى تركوه ، وذهب ولم يكد يذهب ، وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به ، فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً ، فهؤلاء أصحابه وأتباعه ، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم ، وأما أعداؤه اليهود ، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر ، فلم يبلغوا عدد التواتر ، بل كانوا آحاداً وأفراداً ، لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصاً على خشبة ومعه لصان مصلوبان ، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم ، وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضاً ، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من « إنجيل لوقا » ما لفظه : « فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم ، وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقل لنا : فقال لهم : إن قلت لكم لم تؤمنوا لي ، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني » . وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته ، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم ، يمكن تواطؤهم على الكذب ، لأنهم لما لم يجدوه هو ، ولم يعلموا محل المسيح ، وكان ذلك من تلاميذه ، واستحلوا قتله أيضاً ، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته ، ولئلا يتخذوا المسيح نبياً ، وصمموا ، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضاً ، يعملون به كما عملوا بصاحبه ، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراساً لئلا ينبش القبر ويُرى أنه غير المسيح ، ومما يزيد الأمر وضوحاً قول « إنجيل متى » في « الإصحاح الثامن والعشرين » : « أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكاً قد نزل من السماء برّجة عظيمة ، فدحرج الحجر عن فم القبر ، وجلس عنده ، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته ، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة ، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة ، وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام » . فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود ، كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم ، صلبوا شخصاً من أتباعه ، وأوهموا الناس أنه المسيح . فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود ، والنصارى الآن على صلبه ، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية ، فأما العقل : فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده ، وهم اليهود !! ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة ، مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله : « أجز عني هذه الكأس » ، ويصرخ ويقول : « إلهي ! إلهي ! لم تركتني ؟ » ويسلم روحه ، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه ، فيعطوه خلاً بدله ، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة ، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة ، بل صار موقعاً لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به ، فكيف يكون مخلصاً بنفسه ؟ وأما النقل : فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها ، والدلالة على عدم المعرفة به ، وعدم وجوده في قبره ، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سَلَيم قوله تعالى : « وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ »( ). وأما قول متى في « الإصحاح السابع والعشرين » : « فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم ، وأسلم الروح . وإذا حجاب الهيكل قد انشقت إلى اثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت والقبور تفتحت ، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ، وخرجوا من القبور بعد قيامته ، ودخلوا المدينة المقدسة ، وظهروا للكثيرين » فهو قول بهت ومحال ، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال ، لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ، ولم يتفق إخفاء مثله ، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع ، فحيث داموا على الجحدد له والتكذيب ، دلّ على كذب ما نقله عَبَّاد الصليب ، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة - كما علمت سابقاً - لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع ، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه ، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة ؟ وتقوم الأموات من قبورها ؟ ويدخلون المدينة ؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك ؟ وأيضاً ، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم ؟ فهل كان استبشاراً بمصابه ؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه ، أو كان جزعاً على مماته ؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته ؟ فواعجباً لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات ، ولم يعينوه حتى قضى ومات ، وأحيى الرمم ، وصرخ عند تسليم الروح ، ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح ، وليت شعري ! ما عمل هؤلاء القديسون ؟ أبقوا في المدينة المقدسة ؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون ؟ وهل التأم الهيكل والصخور ؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور ؟ فإن قيل : إنما لم يشتهر ذلك ، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود ، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسداً وبغياً . قلنا : مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت ، علمها من حضر ومن غاب ، من الأعداء والأحباب ، لأنها آيات نهارية ، ومعجزات تشتهر في البرية ، ويتناقلها أهل البلدان ، وتبقى مؤرخة بكل لسان ، في سائر الملل بكل أرض وزمان . فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال ، مما اخترعها وحررها أئمة الضلال ، ليخدعوا بها ضعفاء العقول ، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ