تابع جبل الشيخ - جبل الرؤى - 1
16- جبل الرؤى
الرؤى جمع رؤيا ، والرؤيا : مثل يضربه الملك لروح النائم أو يُري روحه أشياء وهو نائم قد تكون دليلا على ما سيقع ، أما تعبير الرؤيا فهو علم ، والله جل وعلا يُعلِّم عباده تعبير الرؤيا . إما بقذف ؛ يقذف في قلوبهم الصواب ، وإما بالدلائل . ولهذا من عبر الرؤيا وهو ليس عالم بها فهو داخل في الوعيد ? وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »( ) والله سبحانه وتعالى سمّى التعبير علمًا ? وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ »( ) فتأويل الرؤى علم وليس خرصًا ، ولا يجوز للمرء أن يقدم على تفسير الرؤيا في غير علم بها ، العلم قد يكون بدليل من الكتاب والسنة ، عندك الفقه في الشرع ، الفقه في حال السائل ، في حال الرائي ، ومعرفة يستدل بالشيء على الشيء لأنها أمثال مضروبة ، والمثل قد يدركه صاحب الفِراسة ، ويستدل بآية بحديث هذا ظاهر، وقد يكون أن وقع في نفسه تفسير الرؤيا كذا بدون دليل ، لو تفكر لا دليل على ذلك أو شيء مستغرب جذا أن يفسره بهذا ، وهذا كثير جدًا في تعبير الرؤيا . إذن : فالمقصود أن تعبير الرؤى علم ، ومما ينبغي في آداب الرؤيا أن لا يتحدث المرء بالرؤى ؛ إذا رأى رؤيا تسوؤه فيستعيذ بالله - جل وعلا - من شرها ، ويتفل عن يساره ثلاثًا ، وينقلب إلى الجهة الثانية كما ثبت في الصحيح ، وإذا رأى رؤيا تسره يحمد الله - جل وعلا - عليها ويسال الله خيرها ، فإذا أراد أن يقصها فلا يقصها إلا على عالم مأمون ؛ لأن الرؤيا على رِجل طائر - وفي رواية على جناح طائر - إذا قٌصَّت وقعت ، يعني مثل الطائر الذي له جناح إذا قص الجناح وقع ، وكذالك الرؤيا على جناح طائر إذا أولت وقعت ، فلا ينبغي للمرء أن يعرِّض نفسه لمثل هذه المخالفات التي قد يكون في تأويل الرؤيا شر عليه ، فإذا أمضاها تُركت( ).
وقد جاء في قول أحد المؤرخين : ما يدهش في قصة جلجامِش وأرض الأحياء هو أن البطل رأى رؤيا عندما نام في سفح جبل الشيخ ، وكانت الرؤيا تصوّر مصيراً كونياً ، وليست خاصة به وحده . وقد درج تعريف جبل الشيخ على ألسنة الكثيرين من كتّاب التاريخ الديني بأنه « جبل الرؤى »( ). وقد كثرت الرؤى كثرة مدهشة حتى جاء في التوراة « وكلَّمْتُ الأنبياء ، وكثَّرْتُ الرؤى ، وبيد الأنبياء مثَّلْتُ أمثالًا . إنهم في جلعاد قد صاروا إثمًا بُطَّلًا لا غير ، في الجلجال ذبحوا ثيرانًا ، ومذابحهم كرجم في أتلام الحقل . وهرب يعقوب إلى صحراء آرام ، وخدم إسرائيل لأجل امرأة ، ولأجل امرأة رعى . وبنبي أصعد الرب إسرائيل من مصر ، وبنبي حفظ . أغاظه إسرائيل بمرارة فيترك دماءه عليه ، ويرد سيده عاره عليه »( ). وجاء أيضًا : « أما هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلًا في كل كتابة وحكمة ، وكان دانيال فهيمًا بكل الرؤى والأحلام . وعند نهاية الأيام التي قال الملك أن يدخلوهم بعدها أتى بهم رئيس الخصيان إلى أمام نبوخذ ناصر . وكلمهم الملك فلم يوجد بينهم كلهم مثل دانيال و حننيا و ميشائيل و عزريا ، فوقفوا أمام الملك . وفي كل أمر حكمة ، فهم الذي سأل عنهم الملك : وجدهم عشرة أضعاف ، فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته . وكان دانيال إلى السنة الأولى لكورش الملك »( ). والذي يتضح في كتب اليهود المقدَّسة وأهمها الكتاب المقدَّس أو التوراة ، والتي تُقسَّم إلى أسفار موسى الخمسة - وهي أهم أجزائه وأكثرها قداسة - ثم كتب الأنبياء - وهي أكثر الأسفار توحيدية - وأخيراً كتب الحكم والأمثال والأناشيد . وبعد انتهاء تدوين العهد القديم واعتماده من قبَل الحكماء اليهود ، ظهرت كتب الرؤى وغيرها من الأسفار التي استُبعد بعضها ، وأصبحت تُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية « أبو كريفا » أو غير القانونية ، وسُمِّي بعضها الآخر الكتب المنسوبة « سيود إبيجرفا »( ). وفي كتاب دانيال يُلاحَظ بدايةً اختفاء النبرة النبوية باهتمامها بالحاضر والإصلاح الأخلاقي ومواجهة الواقع . وتتضح بداية هيمنة الحلولية - وهو تيار استمر مع التلمود ووصل إلى قمته مع القبَّالاه - إذ تبدأ نبرة كتب الرؤى « أبوكاليبس » التي تركز على التغير الفجائي والتحولات الفجائية غير التاريخية ، والهروب من الواقع في الحلول محل النبرة النبوية . وتُعَد الإصحاحات الأخيرة في كتاب دانيال بداية كتب الرؤى . ويُفسَّر هذا التغير على أساس أن الروح النبوية عادت لبعض الوقت بعد العودة من بابل ، ولكن الهيكل الثاني لم يحقق أياً من أمنيات اليهود وآمالهم المشيحانية ، إذ أنهم لم يسودوا العالم . وقد حلت الإمبراطورية اليونانية محل الإمبراطورية الفارسية ، فأدَّى تحطُّم الأمال إلى تصاعُد الحمى ، وتكاثر كتب الرؤى بنهجها التعويضي ونزوعها الحلولي . ورغم أن الحاخامات قد نادوا بأن روح النبوة انتهت بالنبي زكريا آخر الأنبياء الصغار - أي ظهر مفهوم يشبه مفهوم خاتم المرسلين الإسلامي - إلا أن ارتباط بنية اليهودية نفسها بالطبقة الحلولية الكامنة فيها تقف ضد هذا المفهوم . ولذا نجد أن تقاليد النبوة نفسها تم تحويلها من الداخل بحيث استولت عليها النزعة الحلولية ، فيُقال إن موسى ـ حسب الرواية التوراتية ـ تمنى على الإله أن يكون كل أفراد شعبه من الأنبياء ، وهذا ما يمكن تسميته « تقاليد النبوة المنفتحة » والمتاحة لكل فرد في كل زمان ومكان ، وهو مفهوم ينطوي على فكرة حلول إلهي مستمر في التاريخ وفي بعض البشر، بل في الشعب اليهودي بأسره . وبطبيعة الحال ومع ظهور مفهوم الشريعة الشفوية التي تَجبُّ الشريعة المكتوبة ، يعود الحلول بكامل قوته ويصبح حامل الرسالة « الحاخام » أكثر أهمية من الرسالة المكتوبة( ). وأشهر أنبياء الرؤى في العهد القديم :
1- دانيال « حوالي 1266- 1196 ق.هـ »( ) : « دانيال » كلمة عبرية معناها « الإله قضى ». ودانيال أحد الأنبياء الأربعة الكبار . كان دانيال من عائلة شريفة ، ويُظن أنه وُلد في القدس . والسفر المسمَّى باسمه ينقسم إلى قسمين ، يضم القسم الأول والمعروف باسم دانيال « الإصحاحات من 1 إلى 6» ، وتضم ست قصص عن محن دانيال وانتصاراته هو ورفاقه الثلاثة . وقد جاء في هذا القسم أن دانيال ورفاقه جاءوا إلى بابل بأمر من نبوختنصر ، فتعلموا الكلدانية ، وأبوا أن يأكلوا من طعام الملك أو أن يشربوا من خمره حتى لا يتنجسوا . ومع هذا ، وجدهم الملك عند نهاية فترة التعليم أكثر ذكاء وبهاء من الآخرين . وقد فسر دانيال حلماً لنبوختنصر ، وسُرَّ الملك بتفسيره ، وعينه ورفاقه مديرين لكل مقاطعة بابل . وكان الملك قد طلب إليهم أن يسجدوا للتمثال الذي نصبه ، وحينما رفضوا ألقى برفاق دانيال الثلاثة في النار ، ولكنهم لم يلحق بهم أي أذى ، فعبَّر الملك عن إعجابه بإله اليهود . وقد فسر دانيال حُلْمَ الملك عن الشجرة العظيمة التي قطعت ، وأخيرًا فسر الكتابة على الحائط في الوليمة التي أقامها بيلشاصر ، والتي كان ينوي أن يستخدم فيها الأوعية التي أحضرها البابليون من الهيكل ، وأخبره دانيال بأن نهايته قد دنت . وبعد ذلك رفعه دارا الميدي إلى أسمى المناصب فأثار هذا حسد أعدائه فكادوا له ، وأُلقي به في جُب الأسود ولكن الإله نجاه . أما القسم الثاني « دانيال B » ، فيضم « الإصحاحات من 7 إلى 12» . وهنا تتغيَّر شخصية دانيال ، ويتحول من حكيم يفسر الأحلام ، والإشارات للملوك ، ومن وزير يقع ضحية دس منافسيه إلى صاحب رؤى « أبوكاليبس » . فدانيال هو نفسه الذي يرى الأحلام المفزعة هذه المرة ، ويقوم ملاك بتفسيرها له . أما الرؤيا الأولى ، فهي تمثل قوى العالم الأربع العظمى الطاغية « بابل ميديا وفارس واليونان » على شكل أربعة حيوانات ، ثم تزول هذه القوى وتسود من بعدها « مملكة شعب قديس العلا » ، أي اليهود . أما الرؤيا الثانية ، فيرى فيها القوة التي يمثلها تيس المعز الذي له قرن كبير ينكسر وينبت بدلاً منه أربعة قرون أخرى « الإمبراطورية اليونانية تحت حكم الإسكندر ثم خلفائه من بعده » ، وينبت قرن أصغر « وهو أنطيوخوس إبيفانيس » ، ويحارب تيس المعز ضد كبش له قرنان أحدهما أطول من الآخر « الأسرة المالكة الإيرانية : الميديون والفرس » . أما الرؤيا الثالثة ، فهي رسالة حملها إلى دانيال الملك جبرائيل تتعلق بالمملكة المشيحانية التي ستأتي بعد تسعة وأربعين عامًا ، بعد أن يكفِّر اليهود عن خطاياهم . أما الرؤيا الرابعة ، وهي أطول الرؤى ، فتأخذ شكل رسائل من الإله تؤكد محبته للمؤمنين الأمناء في شعبه ، وهي تخبره عما سيحدث من وقت السفر الافتراضي « ثالث عام من حكم قورش » حتى خلاص جماعة يسرائيل . فسيأتي بعد قورش ثلاثة ملوك فرس ، ولكن اليونان سيحلون مكانهم ، أولهم ملك عظيم « الإسكندر الأكبر » . ثم يستمر السفر في سرد تفاصيل الحروب والزيجات الملكية المختلفة بين ملوك الممالك اليونانية ، إلى أن يصل إلى التدخل الروماني الذي اضطر أنطيوخوس الرابع « إبيفانيس » إلى الانسحاب من مصر عام 815ق.هـ( ) ، ثم اضطهاده لليهودية . ويتناول بقية السفر ما سيحدث بعد ذلك . والجزء الثاني من سفر دانيال يُعَد من كتب الرؤى « أبوكاليبس » والتي تختلف اختلافاً جوهرياً عن كتب الأنبياء . فبينما تركز كتب الرؤى على تفسير التاريخ تفسيراً عجائبياً غير أخلاقي ، حيث يأتي الخلاص ويصبح كل ما يحدث في التاريخ الإنساني مصيراً محتومًا ، تركز كتب الأنبياء على الخلاص التدريجي ، ومن خلال الإرادة الإنسانية . وقد أصبح السفر أساساً لكثير من التأملات الرؤياوية والصوفية ، وخصوصاً تلك المتعلقة بحسابات مقدم الماشيَّح . والواقع أن هذا السفر في عداد القسم المسمَّى بالكتب في العهد القديم ، وقد كُتب بعضه بالعبرية وبعضه بالآرامية . وكان بعض الباحثين يرى أن هذا السفر كتبه علماء المجمع الكبير . ولكن معظم العلماء يرون الآن أن الجزء الأكبر كُتب عام951 ق.هـ( ) ، أما الثاني ، فكُتب في عهد أنطيوخوس الرابع في وقت كانت اليهودية تتعرض فيه للاضطهاد الشديد على يد هذا الحاكم السلوقي ، ولذا فإن رسالة الأمل التي يحملها السفر مناسبة للعصر . وسفر دانيال أول سفر ترد فيه إشارة صريحة وواضحة إلى حياة ما بعد الموت والبعث ، وهي حياة مقصورة على كلٍّ من الأخيار والموغلين في الشر « 12/2» . وترد في السفر أيضاً إشارات عديدة إلى الملائكة ، وأن لكل أمة ملاكها ، وميخائيل هو ملاك جماعة يسرائيل . ويُقال إن شخصية دانيال رُسمت على طراز « دانيال » الذي أشير إليه في حزقيال « 14/13ـ 14» ، وهو شخص معروف بحكمته ، يظهر في بعض النصوص الأوجاريتية . ويثير سفر دانيال كثيراً من الجدل ، فهو أولاً لا يرد ضمن كتب الأنبياء في النسخة العبرية من العهد القديم ، وإنما يرد ضمن كتب الحكمة . أما الترجمة السبعينية ، فتورده في القسم الخاص بالأنبياء ، ولعل هذا يعود إلى أن نص السفر كُتب متأخراً كما أنه كُتب بالعبرية والآرامية . وقد اقتبس كتاب « رؤيا يوحنا اللاهوتي » كثيراً من أفكار وتصويرات ورؤى سفر دانيال عن الممالك الكونية وسقوطها . ويمثل سفر دانيال المعين الذي لا ينضب لتفسيرات كنائس السبتيين المسيحية « الأدفنتست » الذين يتبنون رؤيته للتاريخ الكوني( ).
2- حزقيال « حوالي 1253- 1230 ق.هـ »( ) : « حزقيال » أو « يحزقئيل » كلمة عبرية معناها « الإله يقوِّي ». وحزقيال نبي من أسرة صادوق الكهنوتية ومن قبيلة إفرايم ، وهو معاصر لإرميا ، وقد كان على دراية تامة بتعاليمه وصوره المجازية الإيضاحية . أطلق حزقيال نبوءاته في القدس ، ثم في بابل حيث هُجِّر مع اليهود الذين هُجِّروا إلى هناك ، واستمر في التنبؤ لسنوات طويلة « 1253- 1230 ق.هـ » . ويبدو أنه نُفي قبل التدمير النهائي للقدس « 1246 ق.هـ »( ) ، فقد تنبأ بدمارها ، وألقى باللوم على اليهود الذين بقوا في المملكة الجنوبية لاتباعهم طرق الشر ، ولثقتهم البالغة في نجاتهم من التهجير البابلي . وقد استخدم حزقيال « الزنى » كصورة مجازية ، وهي الصورة التي استخدمها هوشع من قبل ، ولكنه طورها . كما أنه كان يرى أن تاريخ الشعب كله ، منذ الخروج ، تاريخ عصيان « 20/1 ـ 38 » . ولكنه ، بعد تحطيم القدس ، أدخل العزاء على قلب المتقين برؤى الخلاص ونبوءات الخراب التي ستلحق بالأغيار . وقد فسَّر حزقيال الغرض الإلهي من شتات اليهود بأنه نشر العدالة في العالم ، وبشر بفكرة أورشليم المستقبل حينما يغفر الإله للشعب . وبين لهم أن خطايا الجيل السابق لا تمنع الجيل الحالي من أن يقرر ، إن شاء العودة إلى الإله . وثمة أمل في أن يعود الشعب إلى أرضه ، ليعيش في سلام وطمأنينة يسوس أموره حكامه ، ويكون الإله هو راعيه الصالح . وسيقوم الشعب ببناء الهيكل الجديد . ويبشر حزقيال كذلك بطبيعة الشعب التي ستُخلَق من جديد ، فجماعة الإله الجديدة هي موضوع رجاء شعبه « 36/24 ـ 30 » . ويتميَّز حزقيال بتأكيده المسئولية الفردية بشكل أوضح « 18، 33/1 ـ 20 » . وسفر حزقيال ثالث الأسفار في كتب الأنبياء العظام ، وهو مكتوب بضمير المتكلم ، وأسلوبه شعري ويحوي صوراً مجازية ورموزاً عديدة( ).
3- زكريا « حوالي 1178 ق.هـ »( ) : « زكريا » « زخارياه » اسم عبري معناه « يهوه قد ذكر » . وزكريا أحد الأنبياء الصغار . وقد كتب زكريا سفره أثناء حكم دارا الأول وبعد العودة من بابل ، وكان زكريا من الكهنة . وتتعلق نبوءاته بتجميع المنفيين ، والتحرر من النير الأجنبي ، وتوسيع القدس . وهو يصف رؤاه وتفسيرها من خلال ملاك . وينسب بعض العلماء « الإصحاحات 9 - 14 » إلى مؤلف آخرعاصر فترة الهيكل الأول ، وذلك على أساس لغتها ومضمونها( ).
وبعد رفع الله المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – آخر رسل الله إلى بني إسرائيل تتكاثر الرؤى لدى النصارى ، وخير ما يمثل هذه المرحلة التاريخية رؤيا يوحنا في « الإنجيل » المسمى بالعهد الجديد . وهي الرؤيا التي يعتمد عليها النصارى في تبديل ما أنزل الله على المسيح . قال الإمام القرطبي : « فإن معظم معتمدهم في أمور دياناتهم إنما هو الإنجيل ، ونقله غير متواتر ، لا سيما والأحداث عندهم في أكثر الأحيان بمنامات يدعونها ، يجعلونها أصولاً يعولون عليها » . وقد مر معنا العديد من الرؤى في حديثنا عن تسمية جبل الشيخ بجبل الجليل ، حول نهاية المسيح على الأرض ، فلا نعيدها تلافيًا للتكرار . يقول د. محمد ضياء الأعظمي : « كتب هذا السفر صاحب الإنجيل يوحنا في عهد إمبراطور الدولة الرومانية الغربية عام 558- 543 ق.هـ( ). وهو رؤيا منامية ادعاها يوحنا ، وادعى أنه أوحى إليه فيها كثير من حقائق الديانة المسيحية ، وأحداث المستقبل ، وهي مشتملة على الأمور الآتية : تقرير ألوهية المسيح . وتقرير سلطان المسيح في السماء ، وإشرافه في عليائه على شؤون الكنيسة والقوّامين عليها ، وبيان أعمال الملائكة في السماء ، وخضوعهم للمسيح . وتقرير بأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويعرضون على المسيح ، وأنه هو الذي سيتولى حسابهم على أعمالهم فيجزي المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته . وذكر طائفة من الأحداث التي ستحصل في العالم الإنساني على العموم ، وفي العالم المسيحي بالخصوص في صورة رمزية مبهمة . ولم تعتمد الكنيسة هذه الرسائل إلا في حدود عام 267 ق.هـ »( ) . والآن لنلق بعض النظرات على أسفار الرؤى « أبوكاليبس » : و « الرؤيا » ترجمة لكلمة « أبوكاليبس » اليونانية الأصل والتي تعني الكشف عن الغيب ، وخصوصاً عن آخر الأيام « إسكاتولوجي » ويوم الحساب . ويتم الكشف عن طريق الأحلام والرؤى والغيب ، وفي الدراسات العربية يُطلَق على الكتب التي تتناول هذه الأشياء مصطلح « أسفار الرؤى » ، وذلك لاعتمادها على الرؤى في سرد الأحداث وفي شرح الأفكار المُتضمَنة فيها . وتُستخدَم الكلمة للإشارة إلى الكتب الدينية اليهودية والمسيحية التي تحتوي على مثل هذه الرؤى ، مثل سفري حنوخ وسفر صعود موسى وسفر باروخ وكتاب اليوبيل ، وتُعَدُّ ضمن الكتب الخارجية أو الخفية « أبوكريفا » . وتُعَدُّ الإصحاحات الأخيرة من سفر دانيال « 8/17 ـ 12/13» ضمن أسفار الرؤى ، ويُشار إلى بعض إصحاحات كتاب أشعياء بوصفها أبوكاليبس أشعياء « 24/1 ـ 27/13» . كما أن مخطوطات البحر الميت ، هي الأخرى تدخل ضمن كتب الرؤى وتضم الكثير من الأسرار التي تقع خارج نطاق المعرفة الإنسانية كأسرار السماء والأرض والملائكة والشياطين . وتأخذ كتب الرؤى شكل نبوءة على لسان بطل تاريخي قديم « ذائع الصيت مات منذ زمن بعيد » يدَّعي أنه يرى أحداث ذلك التاريخ كله منذ بدايته حتى نهايته ، وأن هذه المعرفة قد أُخفيت - باليونانية « أبوكريفون » - طيلة هذه السنين حتى الوقت الحاضر، وهو عادةً زمن الأزمة « ومن هنا نجد أن معظم كتب الرؤى من الكتب الخفية » . ولا تُعنَى كتب الرؤى بالحاضر، كما أنها تورد إشارات سريعة إلى الماضي ، أما المستقبل والنهاية فقد وُجه إليهما اهتمام بالغ فتم وصفهما بالتفصيل . وتنقل هذه الكتب رؤاها من خلال نسق مركب من الرؤى الرمزية والصور الخيالية الباهرة تلعب فيه الحيوانات والطيور والزواحف والوحوش ذات الرؤوس البشرية دوراً أساسياً . والواقع أن أدب الرؤى غامض للغاية ، يحتمل العديد من التفسيرات بحيث يمكن توظيفه لأي غرض ولإثبات أي شيء ، وهي سمة سيتصف بها الماشيَّح فيما بعد . ويرى مؤرخو اليهودية أن جذور الصوفية اليهودية والقبَّالاه ترجع إلى هذه الكتب . ولأن الرؤية الواردة في هذه الكتب لم تكن تساندها شرعية الرؤية الإلهية ، فمؤلفوها كانوا ينسبونها إلى شخصيات توراتية . كما أن الخوف من الاضطهاد السياسي كان سبباً أساسياً لإخفاء شخصية المؤلف . وقد استخدم مؤلفو كتب الرؤى موضوعات كتب الأنبياء بعد تطويرها وتغيير معناها بما يتناسب مع ظروف وشخوص تاريخية معاصرة لهم . وكتب الرؤى تعبير عن الطبقة الحلولية في اليهودية تنبع من الإيمان بأن أعضاء الشعب المختار الراهن أمة من الأنبياء والقديسين والكهنة يمتلكون إمكانيات نبوية خارقة خاصة ، وأن تقاليد النبوة عندهم لا تزال ممكنة ومفتوحة ومتاحة . ومما يزيد من حدة التأملات الرؤياوية « الأبوكاليبسية » عندهم أنهم ، وهم الشعب المختار، كانوا دائماً يذوقون صنوف الويل والعذاب الأرضيين ، فتجربتهم التاريخية هزيمة تلو هزيمة ، وانكسار إثر انكسار ، على أيدي الآشوريين والبابليين ، ثم زادت الأمور سوءاً بعد العودة من بابل ، وتوقُّف سلسلة أنبياء اليهودية ، وبعد إعادة بناء الهيكل . وقد عاد اليهود من المنفى تحدوهم تطلعات مشيحانية ، وأمل في أن تسود جماعة يسرائيل مرة أخرى . ولكن الماشيَّح لم يأت بل تدهور حالهم وأصبح الحاضر تحفه المشاكل ، وبدأت نذر الشر تظهر في الأفق ، فقد ظهرت الإمبراطورية الرومانية بقوتها الضخمة لتهيمن على الشرق الأدنى القديم ، وفلسطين ، ثم دمرت الهيكل تماماً على يد تيتوس ، ثم القدس على يد هادريان . وفي هذه المرحلة الأخيرة الخطرة - من القرن التاسع قبل الهجرة إلى القرن الخامس قبل الهجرة( )- ظهرت أسفار الرؤى . وقد ساعد كل ذلك على انصراف اليهود عن الحاضر إلى التأمل الأخروي في آخر الأيام ، إذ كان من غير المنطقي ، من وجهة نظرهم ، أن يتركهم الإله في عذابهم الدنيوي دون نهاية سعيدة . وقد تَرسَّخ لديهم الإيمان ، تحت تأثير الأفكار الفارسية ، بالفكرة الثنوية التي ترى أن الوجود يتكون من عالمين : العالم الحاضر ويحكمه الشيطان ومصيره الزوال ، والعالم القادم ويحكمه إله الخير والنور ؛ وهو عالم حر تنتشر فيه السعادة الأبدية ، يأتي بعد انتصار إله النور على إله الظلام . ولذا ، فقد آمنوا بأن الإله سيرسل حتماً من يرفع عنهم العذاب . بل إنهم يؤمنون بأنه كلما تأخر يوم الخلاص ، زادت شدة العذاب الذي سيحيق بأعدائهم ، علماً بأن زيادة الآلام علامة اقتراب الخلاص والنصر - وهذا هو النمط الأساسي في كتب الرؤى - وستأخذ النهاية الرؤياوية للبؤس اليهودي صورة عودة الماشيَّح أو انتصار داود أو تنصيب سليمان معلماً للأمم ، أو عودة اليهود إلى أرض الميعاد . وقد تبنَّى مؤلفو كتب الرؤى فلسفة للتاريخ ذات أصل فارسي ، فقد كان الفرس يُقسِّمون تاريخ العالم إلى ممالك ثلاث : الآشورية والميدية والفارسية ، ثم أضافوا إليها فيما بعد المملكة اليونانية. وقد تبنَّى مؤلفو كتب الرؤى هذا التقسيم ، وأحلوا محل آشور بابل التي كانت لا تزال عالقة بذاكرتهم التاريخية ، وأضافوا مملكة خامسة هي مملكة اليهود الأزلية . وهناك بعض رؤى الأبوكاليبس المسيحية التي ترى أن الخلاص النهائي مرتبط بعودة اليهود إلى فلسطين وتَنصُّرهم ، وتُسمَّى « الرؤى الاسترجاعية » نسبة إلى استرجاع اليهود إلى فلسطين ، أو « الرؤى الألفية » نسبة إلى الألف عام التي سيحكم فيها الماشيَّح الأرض . وتجب التفرقة بين كتب الرؤى « أبوكاليبس » وكتب النبوة ، فكلتاهما وسيلة لمعرفة الإرادة الإلهية . ولكن ، بينما تدور كتب الأنبياء داخل نطاق رؤية توحيدية ، تدور أسفار الرؤى داخل رؤية حلولية ، وتمكن التفرقة بينهما على النحو التالي :
1- من نقط الاختلاف الأساسية ، موقف كتب الأنبياء والرؤى من التاريخ والمجتمع . فالأنبياء توجهوا برسالاتهم مباشرة إلى مجتمعاتهم وركزوا على الحاضر ، وأشاروا إلى الخيارات الفلسفية والأخلاقية المطروحة مطالبين جماعة يسرائيل باتخاذ موقف محدَّد واستجابة مباشرة . وقد كان المستقبل بالنسبة إلى الأنبياء لا يزال عملية مستمرة تستطيع الإرادة الإنسانية أن تلعب فيها دوراً . أما مؤلفو كتب الرؤى ، فكانوا يركزون على البدايات والنهايات ، وعلى النهايات أكثر من البدايات . فكانوا يرون التاريخ عملية موصدة مغلقة ، وما العصر الذي يعيش فيه الكاتب سوى حلقة من سلسلة متكاملة قررها الإله من قبل ، وهي عادةً الحلقة الأخيرة . ويُقال إن هذه الرؤية متأثرة بالرؤية الإغريقية الهيلينية للتاريخ والتي تنظر إليه باعتباره دائرة هندسية مغلقة . ولكن يمكننا أن نقول إن انغلاق كتب الرؤى تعبير عن الحلولية الكامنة فيها .
2- لا تنشغل كتب الرؤى بالتاريخ انشغال كتب الأنبياء به ، فهي قد تتعامل معه ومع أحداثه ولكنها لا تحترم تفاصيله . فالعقلية الرؤياوية تتوقع وتؤيد التغيير في المجتمع ، لكنه تغيير غير تاريخي لأنه غير مرتبط بمسار التاريخ ، كما أنه يأخذ شكل انفجارأو تحوُّل فجائي جوهري في كل شيء إذ يتم التحول عن طريق التدخل - أو الحلول - المباشر والفجائي للإله في شئون البشر وفي التاريخ . هذا على عكس رؤية معظم الأنبياء التي كانت تبشر بأن إرادة الإله تتحقق داخل التاريخ من خلال أحداثه لا من خلال تَدخُّل مباشر، فتصبح آشور مثلاً أداة العقاب الإلهي .
3- لكل هذا ، نجد أن كتب الأنبياء منشغلة بالمضمون الأخلاقي لرسالاتهم وبإبلاغها ، وبكيفية تحقيق الخلاص داخل التاريخ أو تعديل مساره عن طريق التوبة والعودة . ويُحجم الأنبياء عن ذكر ما رأوه في لحظة الوحي ، أما كُتَّاب الرؤى فيعطون وصفاً تفصيلياً لكل شيء ؛ السماء أو البلاط المقدَّس أو الملائكة . وعيون كُتَّاب الرؤى مركزة دائماً على النهاية - لحظة التدخل الفجائي - حين ينتهي التاريخ كليةً ، فالنهاية دائماً وشيكة الوقوع ، هذا على عكس النهاية الأخروية عند الأنبياء ، فقد كانت هذه النهاية عند معظمهم في المستقبل البعيد . ويُلاحَظ أن رؤية النهاية عند كُتَّاب كتب الرؤى كانت شخصية وتاريخية في آن واحد ، إذ يرد في الإصحاح 12 من سفر دانيال أول ذكر واضح لبعث الموتى ولعملية العقاب والثواب « دانيال 12/13» . ومن الواضح أن كتب الرؤى تشكل عودة لرؤية الحلولية اليهودية ، كما مهدت للقضاء على تأثير رؤى الأنبياء التي وجدت تطورها الحقيقي في المسيحية . والتفكير الصهيوني تفكير رؤياوي علماني يؤمن بأنه لا حل للمسألة اليهودية عن طريق التدرج التاريخي - الاستنارة أو الاندماج أو الثورة الاجتماعية - أو عن طريق التعامل مع الواقع التاريخي المتعين ، وإنما يجب أن يتم « الآن وهنا » على الفور « الدولة الصهيونية ـ العودة ـ تكوين جيش من اليهود يغزو فلسطين ويطرد العرب » ، أي أن الصهيونية تتعجل وتعمل من أجل « نهاية التاريخ » ، وذلك بطرح رؤى مثالية فاشية يتم فرضها على الواقع التاريخي لا عن طريق الحلول الإلهي لصالح الشعب اليهودي وإنما عن طريق العنف والتحالف مع الإمبريالية مثلاً ، ومن هنا فإن الصهيونية تعبير عن الحلولية بدون إله( ).
ويرى بعض المؤرخين أن أدب الرؤى كثر بظهور حركة الغيوريين . وهذه الكلمة ترجمة للفظة « قنَّائيم » ، وهي من الكلمة العبرية « قانَّا » بمعنى « غيور » أو « صاحب الحمية » . والغيورون : فرقة دينية يهودية ، ويُقال إنه جناح متطرف من الفريسيين وحزب سياسي وتنظيم عسكري . وقد جاء أول ذكر لهم باعتبارهم أتباعاً ليهودا الجليلي في العام « 648 ق.هـ»( ). ويبدو أن واحداً من العلماء الفريسيين ، ويُدعَى صادوق ، قد أيده . ولكن يبدو أن أصولهم أقدم عهداً ، إذ أنها تعود إلى التمرد الحشموني « 834 ق.هـ »( ). ويذكر يوسيفوس شخصاً يُدعَى حزقيا باعتباره رئيس عصابة أعدمه هيرود ، وحزقيا هذا هو أبو يهودا الجليلي الذي ترك من بعده شمعون ويعقوب ومناحم - لعله أخوه - وقد تولَّى مناحم الجليلي ، وهو زعيم عصبة الخناجر قيادة التمرد اليهودي الأول ضد الرومان « 574- 570 ق.هـ »( ) ، وذلك بعد أن استولى على ماسادا وذبح حاميتها واستولى على الأسلحة ، ثم عاد إلى القدس حيث تولَّى قيادة التمرد هو وعصبته الصغيرة ، فأحرقوا مبنى سجلات الديون ، وأحرقوا أيضاً قصور الأثرياء وقصر الكاهن الأعظم آنانياس ثم قاموا بقتله ، بل يبدو أنهم حاولوا إقامة نظام شيوعي . ويبدو كذلك أن عصابة مناحم كانت متطرفة ومستبدة في تعاملها مع الجماهير اليهودية . وقد كانت لدى مناحم ادعاءات مشيحانية عن نفسه ، كما أنه جمع في يديه السلطات الدينية والدنيوية . ولذا ، قامت ثورة ضده انتهت بقتله ، هو وأعوانه ، وهروب البقية إلى ماسادا . وقد استمر نشاط الغيورين حتى سقوط القدس وهدم الهيكل عام « 570 ق.هـ »( ) ، ولكن هناك من يرى أنهم اشتركوا أيضاً في التمرد اليهودي الثاني ضد هادريان « 506- 503 ق.هـ »( ) . وكان الغيورون منقسمين فيما بينهم إلى فرق متطاحنة متصارعة . ومن قياداتهم الأخرى ، يوحنان بن لاوي وشمعون برجيورا . ويُعَدُّ ظهور حزب الغيورين تعبيراً عن الانهيار الكامل الذي أصاب الحكومة الدينية وحكم الكهنة . وقد قام الغيورون ، تحت زعامة يهودا الجليلي ، بحَثّ اليهود على رفض الخضوع لسلطان روما ، وخصوصاً أن السلطات الرومانية كانت قد قررت إجراء إحصاء في فلسطين لتقدير الملكية وتحديد الضرائب . وقد تبعت حزب الغيورين ، في ثورته ، الجماهير اليهودية التي أفقرها حكم أثرياء اليهود بالتعاون مع اليونانيين والرومان . ويتسم فكر الغيورين بأنه فكر شعبي مفعم بالأساطير الشعبية ، ولذا نجد أن أسطورة الماشيَّح أساسية في فكرهم ، بل إن كثيراً من زعمائهم ادعوا أنهم الماشيَّح المخلص ، وقد قدموا رؤية للتاريخ قوامها أن هزيمة روما شرط أساسي للخلاص ، وأن ثمة حرباً مستعرة بين جيوش يسرائيل وجيوش يأجوج ومأجوج « روما » ، وأن اليهود مكتوب لهم النصر في الجولة الأخيرة . وعلى هذا ، فإن فكرهم يتسم بالنزعة الأخروية التي انتشرت في فلسطين آنذاك ، ويُقال إن معظم أدب الرؤى « أبوكاليبس » من أدب الغيورين . ونظراً لجهل الغيورين بحقائق القوى الدولية وموازينها ، وبمدى سلطان روما في ذلك الوقت ، قاموا بثورة ضارية ضد الرومان واستولوا على القدس . وقد تعاونوا مع الفريسيين في هذه الثورة ، ولكن الفريسيين كانوا مترددين بسبب انتماءاتهم . وحينما بدأت المقاومة المسلحة ، استخدم الغيورون أسلوب حرب العصابات ضد روما ، كما قاموا بخطف وقتل كل من تعاون مع روما ، حتى أن الجماهير اليهودية ثارت ذات مرة ضدهم . وقد قضى الرومان على ثورة الغيورين ، واستسلمت القوات اليهودية ، وكان آخرها القوات اليهودية في ماسادا بقيادة القائد الغيوري إليعازر بن جاير ، وهي القوات التي آثرت الانتحار على الاستسلام نظراً لأنها كانت قد ذبحت الحامية الرومانية بعد استسلامها لهم وخشي قائد الغيورين أن يذبحهم القائد الروماني ، على عكس القلاع الأخرى « مثل ماخايروس وهيروديام » التي استسلمت للرومان( ).
وكذلك رؤيا بولس الذي يصفه النصارى بـ « الرسول » لادعائه تلك الرؤيا بمكان يظن النصارى أنه « كوكب » - جنوب شرق بلدة عرطوز التابعة لمدينة قطنا ، وهو تل من التلال التي يشرف عليها جبل الشيخ من الغرب . وبنوا عليه منذ عهد قريب ديرًا سموه « دير رؤية القديس بولس الرسول البطريركي » ، وهو تابع لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس . قال الطبري : وإنما قال جل ثناؤه : « مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ »( ) لأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا ؛ ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وبما جاء به ، مثل الذي من ذلك في توراة موسى - عليه السلام - فلذلك قال جل ثناؤه لليهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى - صلوات الله عليه - من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه : إنه الحق مصدقاً للكتاب الذي معهم ، يعني أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون » . ثم قال : « وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان ، عناداً لله وخلافاً لأمره وبغياً على رسله - صلوات الله عليهم » ولم ترد آثار عن تحريف اليهود للإنجيل كما هو المشهور من فعل شاول اليهودي المتسمي بـ « بولس الرسول » الذي أدخل في النصرانية ما ليس منها كما فصل ذلك ابن حزم وغيره وينقل المفسرون هذه الرواية : أن أتباع عيسى - عليه السلام - كانوا على الحق بعد رفع عيسى ، حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعاً من أصحاب عيسى - عليه السلام - ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، وإني أحتال فأضلهم ، فعقر فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ، ووضع على رأسه التراب ، وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج ، وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ، ولكنه الله . وعلم رجلاً آخر يقال له يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى . ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني ، وإني غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى( ) . فمن هذه الشخصية ؟ يقول المؤرخون : إن الاسم الأصلي لبولس هو « شاؤل » وهو كما يبدو من سيرته شخصية تآمرية ذات عبقرية عقائدية ، ويظهر أنه كان ينفذ تعاليم المحكمة اليهودية العليا « سانهدرين » ، حيث كان أستاذه عمانوئيل أحد أعضائها . وقد اشتهر أول حياته باضطهاد المسيحيين ، ثم تحول فجأة ليصبح الشخصية المسيحية الأولى والقطب الكنسي الأعظم ، ومنذ ظهوره إلى الآن لم يحظ أحد في تاريخ الكنيسة بمثل ما حظي به من التقديس والإجلال ، إلا أن « أحرار المفكرين » الأوروبيين لم يخفوا عداوتهم له ، حتى أن الكاتب الإنجليزي « بنتام » ألف كتاباً أسماه « يسوع لا بولس » ، ومثله « غوستاف لوبون » في « حياة الحقائق » . أما المؤرخ « ويلز » وهو من المعتدلين - فقد عقد فصلاً بعنوان « مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع » قال فيه : « وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من النقاد العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية ، وهو شاؤل الطرسوسي ، أو بولس ، والراجح أنه كان يهودي المولد ، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك ! ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود ، بيد أنه كان متبحراً في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية ، وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهيلنستية ، وبأساليب الرواقيين ، كان صاحب نظرية دينية ومعلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل .. ومن الراجح جداً أنه تأثر بالمثرائية ، إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية ، ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم ، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قرباناً لله كفارة عن الخطيئة ، فما بشر به يسوع كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية ، أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة ، ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلباً لاسترضاء الإله » . وقال آخر : « ولم ير بولس يسوع قط ، ولا بد أنه استقى معرفته بيسوع وتعاليمه سماعاً من التلاميذ الأصليين ، ومن الجلي أنه أدرك الشيء الكثير من روح يسوع ومبدأه الخاص بالميلاد الجديد ، بيد أنه أدخل هذه الفكرة في صرح نظام لاهوتي ، ذلك بأنه وجد الناصريين ولهم روح ورجاء ، وتركهم مسيحيين لديهم بداية عقيدة » . ولندع الآن كل التأثيرات والثقافات التي عرفها بولس ، باستثناء واحدة منها هي « لاهوتيات الإسكندرية » التي كان متبحراً فيها ، ومعلوم أن هذه اللاهوتيات هي المدرسة الفلسفية المسماة « الأفلاطونية الحديثة » التي اشتهرت بعقيدتها الثالوثية ، وعنها نقل بولس فكرة التثليث « يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ »( ) والتعديل الذي أدخله بولس على الأفلاطونية شكلي فقط ، فالمنشئ الأزلي الأول فيها يقابله عنده الله « الأب » والعقل المتولد عن المنشئ الأول يقابله عنده يسوع « الابن » ، والروح الكلي يقابله « روح القدس » ، ثم إنه سار شوطاً أبعد من ذلك ، فاستعار من المثرائية فكرة الخلاص ، وجعل القربان الضحية هو الأقنوم الثاني « الابن » . ثم إن الكنيسة أكملت المسيرة فأضافت إلى فكرة الخلاص فكرة تقديس الخشبة التي صلب عليه المخلص ، وهكذا تتابعت البدع واحدة في إثر الأخرى ، وكان نتيجة ذلك أن دفنت التعاليم الأصلية بطريقة تكاد تكون غير محسوسة تحت تلك الإضافات المألوفة . بهذه الطريقة ، وبغض النظر عن الأهداف والدوافع الخفية ، هدم بولس عقيدة التوحيد ، وأوقع أتباع المسيح فيما كان قد حذرهم منه أبلغ تحذير ، واكتسبت تعاليم بولس الصفة الشرعية المطلقة بقيام أحد أتباعه بكتابة الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا الحواري ، والذي قال عنه جيبون : « أنه فسر نظرية الكون الأفلاطونية تفسيرًا مسيحيًا ، وأظهر أن يسوع المسيح هو الكيان الذي تجسد فيه الكلمة أو العقل (Logos) الذي تحدث عنه أفلاطون والذي كان مع الله منذ البدء »( ). يقول يوحنا الرسول : « أنه في البدء كان اللوغوس ، واللوغوس هو الله ، وهذا اللقاء بين الرسالة الإنجيلية والفكر الإغريقي ما حدث بالمصادفة . ففي رؤيا بولس الرسول بعد أن وجد طرق آسيا مسدودة ، أن إنسانًا مقدونيًّا أتاه في المنام وقال له : « تعال إلى مقدونيا وساعدنا »( )! ويرفض المحققون وسم النصارى لبولس بالرسول ، إذ ليس له شاهد على دعواه النبوة إلا شهادته لنفسه بأنه رأى المسيح فجعله رسولاً ، ومثل هذه الشهادة لا يعتد بها « يوحنا 5/ 31» كما قد رفض المحققون قصة تجلي المسيح له التي رواها عنه تلميذه لوقا في سفر أعمال الرسل لما فيها من تناقضات تبطل قدسيتها ووقوعها( ). وقال النصراني ماجد إبراهيم بطرس ككي : تحت عنوان « دير رؤية القديس بولس الرسول » : على تلّة تدعى بتلّة كوكب ، وفي منطقة داريّا على مشارف مدينة دمشق ، إلى الجنوب الغربي منها , في هذه المنطقة تغيّر كل شيء بالنسبة لشخص كان يدعى شاول . هذا الذي ولد حوالي عام 634 قبل الهجرة( ) في طرسوس بتركيا اليوم. منحدراً من عائلة يهوديّة من سبط بنيامين , فريّسيّة محافظة غيورة على شريعة الربّ ، ودعي باسم عبري « شاول » الذي معناه « مكّرس لله » ، انتمى مثل والده ومعلمه جمليئيل إلى حزب الفريّسيّين , وراح يتثقّف تثقيفاً دقيقاً , متعصبًا للّه ولشريعته , سائراً بكلّ وصايا الربّ وفرائضه سيرة مثاليّة , ومن غيرته الفريّسيّة المفرطة على شريعة موسى , اضطهد المسيحيّين وبعنف , بحيث ذاع صيته في أورشليم واليهوديّة كلها . وبدل أن تكون الشريعة دليل له يقوده الى المسيح راح يضطهد المسيحيّين باسم الشريعة وتحت لوائها . وورد أول ذكر لاسمه في العهد الجديد لدى رجم القديس أسطيفانوس بكر شهداء المسيحيّة « خلع الشهود ثيابهم لدى شاب اسمه شاول » حبس بولس بيده في السجون الكثير من المسيحيّين , وكان موافقاً لمّا اقترع على قتلهم , وكثيراً ما عذّبهم منتقلاً من مجمع إلى آخر ليحملهم على التجديف , وبلغ منه سخطه وكرهه لهم كثيراً حتى أخذ يطاردهم أينما ذكروا فيه . وهكذا ترأس فرقة واتجه من أورشليم وبتفويض وتوكيل من عظماء الكهنة , واتجه بها إلى دمشق حيث كان يزداد عدد المؤمنين بالمسيح الربّ فيها ، لكي يقوم هناك بمطاردتهم وثنيّهم عن هذا الدين ، وسوقهم موثقين ومقيديّين بالأصفاد والسلاسل إلى أورشليم .وكان ذلك في سنة 605 ق.هـ( ) حيث ظهر له المسيح - له المجد - وغمره بنعمة قلبت حياته رأساً على عقب ، وأصبح على أثرها أعظم مبشر بالمسيح لا في اليهودية فقط ولكن في كل أرجاء الأرض , ولذلك كانت رحلاته المشهورة والعديدة مبشرًا فيها بالمسيح . وهو صاحب القول المشهور : الويل لي إن لم أبشِّر . « فرأى على الطريق إلى دمشق , عند الظهر نورًا من السماء يفوق الشمس بإشعاعه قد سطع حوله . فسقط على الأرض , وسمع صوتاً يقول له : شاول ، شاول ! لماذا تضطهدني ؟ فقال : من أنت يا رب ؟ قال: أنا يسوع ، الذي أنت تضطهده , يصعب عليك أن ترفس المهماز. فانهض وقم على قدميك . وادخل المدينة , فيقال لك ما يجب عليك أن تفعل .وأمّا رفقاؤه فوقفوا مبهوتين يسمعون الصوت ولا يرون أحداً . فنهض بولس عن الأرض وهو لا يبصر شيئاً , مع أنّ عينيه كانتا منفتحتين , فأقتادوه بيده و دخلوا به دمشق . فلبث ثلاثة أيّام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب » . نعود للمكان الذي حدثت فيه هذه الحادثة حسب ما عرفنا وما قاله لنا أناس من المنطقة التقينا بهم هناك بأنه قد تكون سمّيت بـ « تلّة كوكب » أشارة ألى النور الساطع الذي ظهر للقديس بولس , وكذلك سميّت المنطقة بـ « داريّا » أي دار الرؤية إشارة إلى رؤيّة القديس بولس للمسيح - له المجد – هنا . لقد حفظ المكان في ذاكرة الموروث الشعبي فشادوا هنا ديراً على اسم القديس بولس . لم يبق منه سوى رسوم دارسة ومندثرة وبعض الحجارة المنحوتة وتيجان أعمدة كورنثسية وخرزة بئر لجمع المياه مع قساطل فخارية . وجود الدير في هذا المكان , كوكب , أثبتته شهادات من القرون الوسطى , من زمن الصليبيّين , مثل جاك فيتري في كتاب « تاريخ القدس » , وتيفينو في كتاب « رحلة الى بلاد الشرق » الجزء الثاني , وبوكوك في « وصف الشرق » , وبورتر في كتابه المشهور « خمس سنوات بدمشق » , وكيدان في « وصف فلسطين والجليل » الجزء الثاني , وجالابر الذي يذكر أن أكثر الأدلاء يؤكدون أن كوكب هي مكان رؤية القديس بولس.
وكذلك جاء ذكره في الجزء السادس لكتاب « خطط الشام » للعلاّمة محمد كرد علي , وجاء ذكره كذلك في الجزء الثاني من كتاب « الريف السوري » للمدقق السوري وصفي زكريا في حديثه عن « خربة كوكب » . أمّا اليوم فقد تم بناء كنيسة الدير وفق طراز معماري مميّز, حلزوني الشكل , مهيبة جميلة تحاكي عملية الرؤيا , صغيرة مزينة بالداخل بمجموعة رائعة من الإيقونات – « أي : الصور » - الرائعة التي تمثل أحداثاً وشخصيات من الرسل والقديسين . وهي ما تزال شاهدة على قدسيّة المكان وهيبته. بالإضافة إلى الكنيسة هناك مجموعة من الأبنية لإدارة وخدمة الموقع وساحات ممهدة وحدائق جميلة ، بالاضافة إلى مسرح جميل ورائع مفتوح . وتمثال رائع من البرونز يمثل القديس بولس ينتصب في مكان بارز قام بتصميمه وتنفيذه نحات روسي. كلّ هذا مسيج بسياج , وتدخل إلى الموقع من خلال بوابّة جميلة وأنيقة . بمناسبة سنة مار بولس الرسول احتضن هذا المكان قبل أشهر تجمعاً احتفالياً كبيرًا حضره أكثر القادة الروحيّين لمختلف الطوائف والأديان وعدد من السفراء والسادة المسؤوليين الرسميّين وجمهور كبير من الشعب . بلفتة كريمة من صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس هزيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثودكس , واهتماماً منه بهذا المكان المقدّس ، وبأهمية إحياء هذا الدير من جديد شكّل وكلف لجنة لتدبير أعمال الدير وتطويره . وبمشيئة اللّه ومساعدة المؤمنين الروحية والمعنوية والمادية , وتستمر هذه اللجنة بأعمالها من أجل بث الروح في هذا المكان المقدّس , وإحياء هذا الدير . الذي يحتضن العديد من النشاطات الروحية والدينية والترفيهية( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ