تابع جبل الشيح - آثار جبل الشيخ - 3
وفي عام 597هـ تهدمت بانياس وهونين وتبنين مع ما تهدم من بلاد الإسلام وغيرها بسبب الزلازل المدمرة التي ضربت المنطقة( ). ثم أعاد الأيوبيون تجديدها ، ثم أخربها الملك المعظم خوفًا من استيلاء الفرنج عليها( ). وأعيد بناءها في عهد الظاهر بيبرس( ). وقد أقام الاحتلال الاسرائيلي مستعمرة كفر شاريت « سنير» 1387هـ( ) شمال الهضبة قرب نبع بانياس بمساحة قدرها 5.500 كم2 + 20.000 كم2 للمراعي( ). وما ذاك إلا لمطامعهم المائية الوفيرة في المنطقة ، وحول تلك المطامع نسوق للقارئ مقال خالد محمد مسعود القحطاني : لتر الماء .. لتر النفط .. أيهما أغلى ؟ فيقول : إسرائيل ومشكلة المياه : تقع فلسطين في الطرف الشمالي من البحر المتوسط ، غرب الأردن وجنوب لبنان ، وتقع على أطراف المنطقة المطيرة في الشمال ، وتمتد حتى تصل إلى المناطق الجافة في الجنوب ، وتتراوح كميات الأمطار بين 900 و1000 ملليمتر في منطقة صفد وحتى 39 ملم سنوياً في منطقة إيلات العقبة . وقد أدرك اليهود منذ القدم أهمية السيطرة على مصادر المياه في فلسطين ، وتحدثنا المراجع التاريخية أن التعاون بين الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية تعاون كامل ، وحقائق التاريخ تؤكد أن الحكم الصهيوني مبنيٌ على حقائق مائية ؛ ومن ذلك كان سَعْيُ الآباء الأوائل لليهود : هرتزل ، ووايزمان ، وبن جوريون ؛ لتأمين هذا الجانب حتى قبل إنشاء ما يسمى بـ « إسرائيل » وشملت طموحاتهم ليس فلسطين فقط ؛ بل كل المصادر المائية في غرب آسيا والنيل . ففي رسالته المؤرخة في عام 1338هـ( ) والمرسلة إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا يطالب حاييم وايزمان بتحسين حدود الوطن القومي لليهود .. وكانت ذريعته الكبرى في ذلك : المياه ، ولقد رأى وايزمان أنه من الضروري أن يضم المشروع الصهيوني في ثناياه حوض الليطاني وجبل الشيخ « حرمون » الذي يحتوي على منابع أنهار : الأردن ، وبانياس ، واليرموك ؛ بحجة أن هذه المياه ضرورية للدولة اليهودية . وقضية بهذا الحجم شغلت بال السياسة اليهودية وصارت تمثل قضية حياة أو موت ؛ وبقراءة لتاريخ الحركة الصهيونية يتضح لنا وبجلاء مراحل السيطرة اليهودية على مصادر المياه في فلسطين ولبنان والأردن وسوريا « هضبة الجولان » : ففي عام 1321هـ( ) تقدم تيودور هرتزل إلى الحكومة البريطانية في عهد الملكة فيكتوريا واللورد سالبوري وجوزيف شميزلت وآرثر بلفور وإلى الحكومة المصرية في عهد الخديوي عباس الثاني ومصطفى باشا فهمي وبطرس باشا غالي والمعتمد البريطاني اللورد كرومر بهدف تحويل مياه النيل إلى سيناء ، وقد بذل هرتزل نشاطات كبيرة لتحقيق المشروع الهادف إلى توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء ، وقد لقي موافقة مبدئية من الحكومة البريطانية ، إلا أنه أخفق بسبب الظروف الدولية حينذاك التي فرضت على إنجلترا سياسة الوفاق الودي مع فرنسا عام 1322هـ( ) تأهباً لمواجهة ألمانيا واستعداداً للصدام مع تركيا وألمانيا عند الانتقال لتنفيذ سكة حديد الحجاز . وفي عام 1338هـ( ) وأثناء تقديم المذكرة الصهيونية المقدمة إلى مؤتمر الصلح في باريس كانت تنص على أن تبدأ حدود فلسطين عند نقطة على البحر المتوسط بالقرب من صيدا وتتبع منابع المياه النابعة من سلسلة جبال لبنان حتى جسر فرعون ، ثم إلى البير ، ثم تتبع الخط الفاصل بين حوض وادي القرن ووادي تيم ، ويتجه جنوباً لتتبع الخط الفاصل بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ . وفي عام 1361هـ( ) قُدِّم اقتراح للرئيس اللبناني الفريد نقاش لاستثمار المصادر المائية في لبنان على يد المؤسسات الصهيونية ، ولكن انكشفت أبعاد هذا المشروع ومراميه فأوقفته بعض الأصوات الوطنية في حينه . وفي عام 1368هـ( ) اندفع اليهود ومنذ الأشهر الأولى لقيام ما يسمى « إسرائيل » لاستغلال ما تحت أيديهم ، وشكلوا لهذا الغرض لجنة من سبعة عشر خبيراً ، ووضعت خططاً وأهدافاً وهي التي عرفت بالخطة السبعية ؛ وبدئ في تنفيذها عام 1373هـ( ) بالعمل على زيادة استثمار الموارد المائية في فلسطين من 810 ملايين متر مكعب « إنتاج عام1373هـ( ) » إلى 1730 مليون متر مكعب في نهاية الخطة عام 1380هـ( ) ، ويحتاج تدبير الكمية اللازمة وحجمها 920 مليون متر مكعب إلى : مشاريع زيادة استغلال الينابيع والمياه الجوفية والسطحية داخل فلسطين لتوفير 380 مليون متر مكعب . واستغلال نهر الأردن وروافده التي توفر نحو 540 مليون متر مكعب . وفي عام 1384هـ( ) أعلن اليهود أنهم على وشك الانتهاء من المراحل الأولى من مشروعهم لإيصال مياه الأردن إلى النقب ، ولأجل ذلك اجتمع مجلس الجامعة العربية في القاهرة في عام 1384هـ( ) وأقر تشكيل هيئة لاستغلال مياه نهر الأردن وروافده ، وتشكيل قيادة عربية مشتركة مهمتها إعداد ما يلزم لحماية المشروع العربي الطموح !!! وتكفل المجتمعون بتغطية نفقات المشروع .. ولكن المشروع انتهى بنهاية مضحكة مبكية عندما استولى اليهود عام 1387هـ( ) على مواقعه في الجولان واستولوا على آلياته ومنذ ذلك الحين ونهر الأردن وروافده في أيدي اليهود . وفي عام 1387هـ( ) تفاقمت أزمة المياه في إسرائيل نتيجة الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين ؛ وقد حلت المشكلة بعد حرب1387هـ( ) ، وحصلوا على 500 مليون متر مكعب دفعة واحدة كأكبر المكاسب التي حققها اليهود . والجدير ذكره أن هضبة الجولان قد احتلها اليهود في هذه الحرب وهي في غاية الأهمية ؛ إذ إنها تعتبر المصدر الأول للمياه في فلسطين ، وتتلقى سنوياً أكثر من 500 ملم من الأمطار ، ويصل ارتفاع الثلج إلى 30 سم ويوجد بها حوالي 100 نبع توفر سنوياً ما بين 50 و 60 مليون متر مكعب . كما تمكن الغاصبون من إحكام السيطرة على نهر اليرموك ، وأتيح لهم أيضاً السيطرة على منابع نهر بانياس . ويستغل اليهود حالياً 31 . 5 مليون متر مكعب من المياه في جنوب الهضبة ، و6 مليون متر مكعب في المنطقة الوسطى ، وما بين 7 و 8 مليون متر مكعب في المنطقة الشمالية منها . وفي عام 1991هـ( ) بدأ الاستغلال المركّز من قِبَلِ السلطات الإسرائيلية لمياه الجولان في إطار الخطة الخمسية لتلك الفترة ، وقامت شركة يهودية بحفر مجموعة من الآبار الارتوازية لصالح المستوطنات اليهودية هناك ، كما أقيمت محطة لضخ المياه من بركة رام التي تقع على أقدام جبل الشيخ ومساحتها 900 متر مربع ويتراوح عمقها ما بين 8 و 9 أمتار وطاقتها 500.000 .1 متر مكعب ؛ وذلك لنقلها إلى المستوطنات اليهودية . وفي عام 1398هـ( ) قامت إسرائيل بتركيب مضخات بطول 10 كم من مجرى نهر الليطاني مجاورة لبلدة سوريان وحتى خزانات مشروع الطيبة ، كما قامت بتركيب خط آخر بطول 25 كم من خزانات الطيبة وحتى بلدة عنيا الشام حيث شيدت خزانات ضخمة قرب البلدة تستقبل مياه الليطاني وتوزعها على الجبل . وفي عام 1402هـ( ) وبعد غزو لبنان عمدت إسرائيل إلى تقديم الأسلاك الشائكة مسافة تتراوح بين 3 و5 كلم داخل الحدود اللبنانية حول نهر وبلدة الوزاني جنوب شرق الحدود مسيطرة بذلك على سبعة كيلومترات مربعة من الأراضي . كما شقت نفقاً من قرية كفر كلا حتى وادي ميماس في مرج عيون لسحب مياه الليطاني إلى فلسطين « إسرائيل » ، ويبلغ طوله 17كلم وقد أدى إلى تعريض 250 قرية لبنانية للعطش في الوقت الذي سمح فيه لليهود باستغلال مياه الليطاني بسبب انخفاض مستوى الأرض في فلسطين . وتجدر الإشارة إلى أن كميات المياه التي حصل عليها اليهود جراء اجتياح لبنان عام 1402هـ( ) هي 800 مليون متر مكعب من المياه . وفي عام 1407هـ( ) أتم اليهود تحويل مياه الحاصباني ونبع الوزاني ومياه الليطاني ، وبتمام هذا العام يكون اليهود قد استولوا على : 65 مليون متر مكعب في السنة من ينابيع الوزاني ، و110 مليون متر مكعب في السنة من نهر الحاصباني ، و400 مليون متر مكعب في السنة من نهر الليطاني ! نرى من جميع ما سبق أن اليهود يأخذون عنوة : من سوريا 200 مليون متر مكعب « عدا الاحتياطي الكبير من المياه في هضبة الجولان » و 575 مليون متر مكعب من لبنان ، إضافة إلى 600 مليون متر مكعب سنوياً من الضفة الغربية . إن مشكلة نقص الموارد المائية الأصلية في إسرائيل تتزايد بتزايد ضغوط النمو السكاني والهجرة المكثفة ؛ وبذلك أصبحت مشكلة المياه هاجس إسرائيل الدائم ، بل إنها حلت في المرتبة الثانية بعد أمنها . وينبغي أن نشير هنا إلى بعض التقارير الخاصة التي صدرت عن بعض الجهات الحكومية الإسرائيلية التي ألمحت بشكل أو بآخر إلى تفاقم أزمة المياه هناك . فقد أوردت صحيفة « هاآرتس » اليهودية عام 1411هـ( ) أن الدكتورة « جوليس ستار » الباحثة في معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن أوضحت في مؤتمر صحفي عقد في تل أبيب خلال زيارة عمل أن مسألة المياه ومصادرها ستطرح في أية تسوية محتملة بين الفلسطينيين واليهود كمسألة من الدرجة الأولى ، وحذرت في الوقت نفسه من أن العجز المائي في فلسطين سيصل إلى 30% . وفي التقرير الصادر في عام 1411( ) حذر بنك إسرائيل من تدني مخزون المياه في أعقاب السحب الزائد والمستمر من هذه المياه وزيادة حدة المشكلة إذا لم يتوفر تقليل استهلاك المياه . وبشكل عام فإن نقص المياه الذي يزداد سوءاً بعامل التغيرات المناخية التي وسّعت من القحط الدوري ، وبعامل الإدارة غير الكفء للمياه ساهمت في جعل المياه مسألة مصيرية تشغل بال حكومات المنطقة كاملة ، كما تساهم الأوضاع السياسية والإقليمية أيضاً في تفاقم مشكلة المياه حيث كانت الدول التي تشارك في شبكات الأنهار الرئيسة في المنطقة عاجزة عن الارتفاع فوق الصراعات التاريخية من أجل التعاون في تنمية موارد المياه الثمينة . وبالنسبة للمستقبل المنظور يحذر الخبراء من عدم وجود أي علاج شامل في التعامل مع نقص المياه الوشيك . وفي الجانب الآخر يتميز الوضع الاستراتيجي لحوضي دجلة والفرات بموقع متأزم وخطير لوجود طرف غير عربي عضو في حلف شمال الأطلسي « الناتو » وإن كان يرتبط بكل من العراق وسوريا بكونه دولة إسلامية ، ولا شك أن ارتباط تركيا السياسي والعسكري يفوق ارتباطها الديني وذلك بالنسبة لقيادتها السياسية . ولعل إسرائيل قد استطاعت وبسياسة متعمدة توثيق علاقاتها مع تركيا ، وكذلك مع أثيوبيا وكينيا وكلها من دول المنبع لأهم المصادر المائية العربية ، وتستخدمها إسرائيل في تزويدها بما تحتاجه من المياه مقابل خدمات فنية وتمويلية ، وتستخدمها في الوقت نفسه ورقة ضغط سياسية على دول مصب هذه الأنهار مثل مصر والعراق والسودان وسوريا . وتجدر الإشارة هنا إلى ما أعلنته تركيا عن مشروع خط السلام التركي وهو خط يتكون من أنبوبين : الأنبوب الشرقي ويبلغ طوله 2800 كلم ، والآخر يصل طوله 4000 كلم ، وهذا المشروع من شأنه تحويل مياه نهري دجلة والفرات إلى بحيرات وأنابيب تتحكم تركيا في مفاتيحها ؛ وقد بدأ الإعداد لهذا المشروع منذ عام 1407هـ( ) على يد شركة بروان أندرت الأمريكية ، التي أعلنت أن دراسة الجدوى لهذا المشروع انتهت عام 1412هـ( ) ، وأن تكاليفه تقدر بواحد وعشرين مليار من الدولارات ، وإذا كان العرب قد عارضوا بشدة مثل هذا المشروع فإن تركيا قد بدأت بتنفيذ المراحل الأولية منه بالتعاون مع إسرائيل ؛ وذلك بمد خط أنابيب لنقل 000. 300 .2 مليون متر مكعب من المياه إلى إسرائيل . وإذا كانت الحرب المائية قد بدأت بالفعل ضد العرب عند الفرات بعد التعاون التركي الإسرائيلي ، فإن فصول هذه الحرب يتم إعدادها دون يأس عند منابع النيل بالتعاون مع أثيوبيا وكينيا لسرقة المياه على حساب مصر والسودان . وبالعودة إلى نهر الفرات فإن هناك أربعة محاور رئيسة ينبغي مراعاتها : الأول : المياه بتركيبتها الاستراتيجية المعروفة ثلاثية الاستخدام : « الشرب ، الري ، توليد الكهرباء » ولذلك فإن تأثيرها اليوم في حياة البشر تأثير مباشر سريع ، ومن ثَمّ يمكننا فهم حساسية الموقف وصعوبته بالنسبة لسوريا التي يجري فيها نهر الفرات ، ومن مياهه تقوم الحياة عليها ؛ وخاصة في شمال وشرق سوريا ، وكذلك الوضع بالنسبة للعراق الذي يخترقه هذا النهر . الثاني : الأقليات العربية : فعند التقاء الحدود السورية التركية ، والعراقية التركية ؛ تشتعل أزمة الأقليات خاصة الأكراد الذين يعيشون على الحدود العراقية والسورية والإيرانية والروسية مكونين واحدة من أعقد المشاكل العرقية في المنطقة . الثالث : وهو دخول إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر في مسلسل الصراعات في المنطقة المحيطة بها لإشغالها بأي وسيلة . فمن مصلحة إسرائيل إشغال المنطقة بالصراعات بعيدة عن الحدود الإسرائيلية ، وشد الانتباه العربي بعيداً عن القضية الفلسطينية . الرابع : محور التوترات السياسية والعسكرية السائدة ، فإسرائيل ترى في سوريا أخطر أعدائها ، وإيران ما زالت متحفزة لاستئناف حربها مع العراق ، كما أن ثورة الأكراد قائمة على أشدها في تركيا والعراق . الخاتمة : فهذه نتف من أخبار مشكلة المياه في المنطقة العربية من العالم الإسلامي وإني أرجو أن أكون قد وفقت في إيضاح الصورة أمام القارئ الكريم حتى تتضح معالم وأبعاد هذه القضية الحساسة( ).
ج. نهر بانياس : أحد فروع نهر بردى الذي يدخل مدينة دمشق ، وفي سنة 717هـ في صفر شُرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ، ظاهر باب النصر، على نهر بانياس بدمشق( ). قال ابن عابدين : أقول أصل مياه دمشق من بردى ، ويتشعب منه أنهار كقنوات بانياس وتورا ، ويتشعب منها لشرب البيوت طوالع ، وكل طالع قد يتشعب منه طوالع وهكذا . ومقتضى ما في النتف أن يعتبر أخص طالع ثم ما فوقه وهكذا إلى أن ينتهي إلى النهر العظيم وهو بردى الذي يسقي دمشق وقراها ، ومسافة ذلك أكثر من ثمان ساعات فلكية ، وعليه فلو بيعت أرض شربها من أصل بردى ولا شركة فيها نفسها فلجميع أهل تلك المسافة حق أخذها بالشفعة ، وفيه توسيع للدائرة جدًا فلا جرم كان الأصح الأشبه تفويضه لرأي المجتهد في كل زمان( ). وقال السبكي في فتواه عن أنهار دمشق كلامًا نفيسًا : إذَا عَرَفَ هَذَا فَأَنْهَارُ دِمَشْقَ : أمَّا بَرَدَى فَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ ، فَأَرْضُهُ وَالْعَيْنُ الَّتِي يَجْرِي الْمَاءُ فِيهَا مِنْهَا : إمَّا مُبَاحَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَانَ مَمْلُوكًا لِكُفَّارٍ وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَيْئًا بَاقِيًا عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ وَقْفًا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَأَرْضِ السَّوَادِ ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَنْهَارِ الَّتِي فِيهَا مِثْلُ يَزِيدَ وَثَوْرًا وَبَانَاسَ وَنَهْرُ الْمِزَّةِ وَنَهْرُ قُبَيْبَةَ الْمُسَمَّى نَهْرَ الْقَنَوَاتِ وَغَيْرِهَا فَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا كَذَلِكَ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ ؛ لِأَنَّ دِمَشْقَ مَذْكُورَةٌ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ وَأَنَّهَا ذَاتُ أَنْهَارٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِانْحِرَافٍ فِي مَوَاتٍ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا كَانَ بِحَفْرٍ ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ مَنْ حَفَرَهُ الْإِبَاحَةَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قَصَدَ نَفْسَهُ فَمِلْكٌ لَهُ ، لَكِنَّهُ الْآنَ لَا يَعْلَمُ هُوَ وَلَا وَرَثَتُهُ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَخْصِيصُ طَائِفَةٍ بِجَمِيعِهِ وَلَا بَيْعُهُ بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُنْتَقِلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي يُعْطِي مِنْهَا وَيَبِيعُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ نَفْعُهَا لِمَنْ هُوَ مَوْجُودٌ وَلِمَنْ يَأْتِي إلى يَوْم الْقِيَامَةِ ، وَتَشْتَدُّ ضَرُورَةُ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ إلَى الشُّرْبِ مِنْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا وَالسَّقْيِ مِنْهَا ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَعْطِيلُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ بِأَرْضٍ إنْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ لَا تَشْتَدُّ ضَرُورَةُ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ إلَى تِلْكَ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ... وَيَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ نَهْرَ يَزِيدَ إنَّمَا حَفَرَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مَكْحُولٍ : سَأَلَ عَنْ نَهْرِ يَزِيدَ فَقَالَ : أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ كَانَ نَهْرًا بِبَنَاطِيًّا يُسْقِي ضَيْعَتَيْنِ لِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو قُوفَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِأَحَدٍ شَيْءٌ غَيْرُهَا ، فَمَاتُوا زَمَنَ مُعَاوِيَةَ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ ، فَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ ضِيَاعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ . فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ نَظَرَ إلَى أَرْضٍ وَاسِعَةٍ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَاءٌ ، وَكَانَ بِهَدْيِنَا فَنَظَرَ إلَى النَّهْرِ فَإِذَا هُوَ صَغِيرٌ ، فَأَمَرَ بِحُفْرَهِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْغُوطَةِ ، فَتَلَطَّفَ عَلَى أَنْ ضَمِنَ لَهُمْ خَرَاجَ سَنَتِهِمْ مِنْ مَالِهِ ، فَأَجَابُوهُ إلَى ذَلِكَ فَاحْتَفَرَهُ سِتَّةَ أَشْبَارٍ فِي عُمْقِ سِتَّةِ أَشْبَارٍ ، وَلَهُ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَهُ أَهْلُ حَرَسْتَا شِرْبَ شِفَاهِهِمْ وَمَاءً لِمَسْجِدِهِمْ ، فَكَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَاتِكَةَ ابْنَةَ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ فَأَجَابَتْهُ عَلَى أَنْ احْتَفِرْ سَاقِيَةً تَجْرِي إلَيْهِمْ لِلشُّرْبِ ، وَفَتَحَ لَهُمْ حَجَرًا فِتْرًا فِي فِتْرٍ مُسْتَدِيرٍ ، وَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَنْ يُجْرِيَ لَهُ شَيْئًا يَسْقِي ضَيْعَتَهُ فَأَجَابَهُ وَفَتَحَ لَهُ مَاصِيَةً ، ثُمَّ سَأَلَهُ خَالُهُ فَفَتَحَ لَهُ مَاصِيَةً قَالَ : وَقَلَّ الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ لِعدم كِرَائِهَا ، فَدَخَلُوا لِكِرَائِهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذَا هُمْ بِبَابٍ مِنْ حَدِيدٍ مُشَبَّكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ مِنْ كُوًى فِيهَا يَسْمَعُونَ دَاخِلَهَا خَرِيرَ مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَيَسْمَعُونَ صَوْتَ اضْطِرَابِ السَّمَكِ فِيهَا ، فَكَتَبُوا إلَى سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُخْرِجُوا شَيْئًا ، وَأَنْ يَكْرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَكْرَوْا ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إلَى وِلَايَةِ هِشَامٍ ، فَشَكَا أَهْلُ بَرَدَا إلَيْهِ قِلَّةَ الْمَاءِ فَأَمَرَ الْقَسَمَ بْنَ زِيَادٍ أَنْ يُمَيِّزَ لَهُمْ الْأَنْهَارَ فَمَازَهَا ، فَأَعْطَى أَهْلَ نَهْرِ يَزِيدَ سِتَّةَ عَشْرَ مِسْكَبَةً ، وَالْفَرْقَ الْكَبِيرَ وَهُوَ نَهْرُ الْمِزَّةِ خَمْسَ مَسَاكِبَ ، وَالْفَرْقَ الصَّغِيرَ وَهُوَ نَهْرُ الْقِيرَاطِ أَرْبَعَ مَسَاكِبَ ، وَنَهْرُ دَارَيَّا سِتَّ عَشْرَةَ مِسْكَبَةً ، وَنَهْرُ ثَوْرَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِسْكَبَةً وَفِيهِ يَوْمُئِذٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَاصِيَةً وَلَيْسَ عَلَيْهَا رَحًا ، وَنَهْرُ قِينِيَّةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِسْكَبَةً ، وَنَهْرُ بَانْيَاسَ ثَلَاثِينَ مِسْكَبَةً . وَجُعِلَتْ مِسْكَبَةٌ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، وَثَلَاثُ مَسَاكِبَ حَلَّتْ لِلْفَضْلِ بْنِ صَالِحٍ الْهَاشِمِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَنَهْرُ مَجْدُولَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِسْكَبَةً ، وَنَهْرُ دَاعِيَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَنَهْرُ حَيْوَةَ وَهُوَ الزَّلَفُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِسْكَبَةً ، وَنَهْرُ التَّوْمَةِ الْعُلْيَا خَمْسُ مَسَاكِبَ ، وَنَهْرُ التَّوْمَةِ السُّفْلِيِّ أَرْبَعُ مَسَاكِبَ ، وَنَهْرُ الزَّوَابُونَ أَرْبَعُ مَسَاكِبَ ، وَنَهْرُ الْمَلِكِ أَرْبَعُ مَسَاكِبَ فَالْجُمْلَةُ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مِسْكَبَةً . وَلَكِنْ يَنْضَمُّ مِنْ نَهْرِ ثُورَا وَغَيْرِهِ إلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْهَارِ مَاءٌ كَثِيرٌ ، وَالْقَنَاةُ لَمْ تُمَزْ يَوْمَئِذٍ تَأْخُذُ مِلْءَ جَنْبَتَيْهَا . وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا بَنَى الْجَامِعَ اشْتَرَى مَاءً مِنْ نَهْرِ السُّكُونِ يُقَالُ لَهُ : الْوَقِيَّةُ فَجَعَلَهُ فِي الْقَنَاةِ إلَى الْجَامِعِ ، وَالْحَجَرُ شِبْرٌ وَنِصْفٌ فِي شِبْرٍ وَنِصْفٍ ، وَبَيْتُ الثَّقْبِ شِبْرٌ فِي أَقَلَّ مِنْ شِبْرٍ ، عَلَى أَنَّهُ إذَا انْقَطَعَتْ الْقَنَاةُ وَاعْتَلَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْوَصِيَّةِ شَيْئًا ، وَلَا لِأَصْحَابِ الْقَسَاطِلِ فِيهَا حَقٌّ . فَإِذَا حُرِزَ يَأْخُذُ فُلَانٌ حَقَّهُ ، وَيَفْتَحُ الْقَسَاطِلَ عَلَى الْوَلَاءِ ، قَالَ يَزِيدُ : أَنَا أَدْرَكْت الْقَنَاةَ يَدْخُلُ فِيهَا الرَّجُلُ فَيَسِيرُ فِيهَا وَهِيَ مَسْقُوفَةٌ عَلَى يَدِهِ فَلَا يَنَالُ سَقْفَهَا ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَثْلُومٌ . وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ الْقُنَى الْمُسِيلَةَ بِنَفْقِ مِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ قَنَاةً . وَبِظَاهِرِ التَّوَسُّعِ غَيْرَ قَنَاةٍ( ). وقال عبد القادر بدران في أنهار دمشق : نهر يخرج من قرب الزبداني وآخر يخرج من صدع جبل الفيجة من نهاية أسفله ، وقد عقد على مخرج الماء منه عقد قديم يظهر أنه روماني ، ثم ترفده منابع في مجرى النهر ويسمى هذا الماء بنهر بردى ، ثم يقسم ذلك النهر على أربعة أنهر غربية وهي نهر داريا ونهر المزة ونهر القنوات ونهر بانياس ، واثنان شرقيان وهما نهر يزيد ونهر ثورا ونهر بردى ممتد بينهم ، فأما بانياس والقنوات فهما نهرا المدينة مسلطان على دورها يدخل نهر بانياس القلعة ثم ينقسم قسمين قسم للجامع الأموي وقسم للقلعة ، كل قسم منهما على أقسام كثيرة ويتفرق في المدينة بأصابع معدودة معلومة ، وكذلك ينقسم نهر القنوات في المدينة ولا مدخل له في الجامع ولا في القلعة ، ويمشي الماء في قني مدفونة تحت الأرض إلى أن يصل إلى مستحقيها بالدور والأماكن على حسب التقسيم( ). قال الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة :
يا صاحبي سقى منازل جلق ... غيث يروي محلات طساسها
فرواق جامعها فـباب بريدها ... فمشارب القنوات في باناسـها( )
وللشيخ عبد الغني النابلسي موشح في ذكر تلك الأنهار نجني منه :
في رياض الشام لطف وصـــفا ... وســــرور طــــارد للحــزن
وبصفـــو مـــن لها قـد وصـــفا ... صـــادق في وصــفه لم يمن
حبـذا المرجـــة ذات الشـــرفين ... صادت الناس بصــدر البـاز
حيث فيها النهر زاهي الطرفين ... وهو يجري بســـواها هازي
ناظـــرانا ليــس بالمنصـــرفين ... عن رباها بهجـــة المجـــتاز
قنـــوات مــــاؤها قــــد وكــــفا ... وعليـــها بانياس المحســــن
بردى الرائـــق حســــبي وكفى ... يا صفا سلساله العذب الهني
قـــم إلـــى الربـــوة والمنشـــار ... وتنشـــق طيـب ذاك الوادي
وميــــــاه الســـــبعة الأنـــــهار ... جاريات لارتـــواء الصادي
والبســـــاتين أولـــــو الأزهــار ... نفحها المســـكي فيــها بادي
روضها أزهـــر وجـــها وقـــفا ... كادت الأرض به لـــم تبـــن
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ