تابع جبل الشيح - آثار جبل الشيخ -6
أجران المطابخيات :
تقع أجران المطابخيات فوق تل « الجراجمة » على الجانب اللبناني . وهي أجران رومانية متواجدة في مكان يدعى « المطابخيات » قرب تلة « الجراجمة » ، كان الرومان يشعلون فيه النار فتشاهد من مدينة قبرص ، على ما يذكر الدكتور فيليب حتّي( ). قال الأصفهاني : والجراجمة يقال لهم : بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره ، هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن ، وهم إلى الآن يسمون بني الأحرار بصنعاء ، ويسمون باليمن الأبناء ، وبالكوفة الأحامرة ، وبالبصرة الأساورة ، وبالجزيرة الخضارمة ، وبالشام الجراجمة( ). وهم حسب ما ذكره البلاذري فقال : حدثني مشايخ من أهل إنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل اللكام( ) عند معدن الزاج ، فيما بين بياس وبوقا يقال لها « الجرجومة » ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وإنطاكية إلى بطريرك إنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة إلى إنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم ، وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم ، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم ، ثم إن أهل إنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية ، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري ، فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها ، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام ، وألا يؤخذوا بالجزية . ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح( ). ولما استغل الروم فترة انشغال المسلمين بالحروب الداخلية في عهد الخليفة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – حرضوا الجراجمة على نقض العهد فاستجابوا لهم ونقضوا اتفاقهم هذا ، وصنعواً حاجزاً بين المسلمين والبيزنطيين واستطاعوا عرقلة سير الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى ، فكانوا متذبذبين مرّة مع المسلمين وأخرى مع الروم ، وقد بقوا شوكة في ظهر الجيوش الإسلامية ليس في عهد معاوية ، ولكن حتى عهد عبد الملك ، وقد حرص معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما - بعد أن استتب له أمر الخلافة على استعادة هيبة الدولة الإسلامية فقضى على حركات المردة أو الجراجمة الذين استخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها ، متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم( ) . ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط حتى أن بعض العمال في عهد الواثق العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم( ). كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون في سنة 89هـ مع « الجراجمة » المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين( ). وفي الواقع فإن الجزية في الإسلام فرضت على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بها لو كانوا مسلمين ، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تُعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي . وكانت الحال على هذا النحو مع قبيلة « الجراجمة » وهي مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية ، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونًا لهم ، وأن تقاتل معهم في مغازيهم ، على شريطة ألا تؤخذ بالجزية ، وأن تعطى نصيبها من الغنائم( ). وأورد ابن جرير في تفسير قوله تعالى : « انفروا خفافاً وثقالاً »( ) حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو - وكان واليًا على حمص قِبَل الأفسُوس - إلى الجراجمة ، فلقيت شيخًا كبيرًا همًا ، وقد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار. فأقبلت إليه فقلت : يا عم ، لقد أعذر الله إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ، استنفرنا الله خفافًا وثقالًا ، إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله ، عز وجل( ). وكان الروم قد استغلوا فترة الحروب الداخلية بين المسلمين في فترة انتقال الخلافة من عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه – إلى الأمويين من جديد فعادوا مع أنصارهم الجراجمة إلى المنطقة . ويوضح محمد الصلابي ذلك في حديثه عن تلك الفترة فيقول : نظرًا للاضطرابات الداخلية في دولة عبد الملك اضطر إلى مصالحة الروم على أن يدفع لهم 365 ألف قطعة ذهبية , و360 عبدًا و330 جوادًا أصيلاً سنويًا , وأن تقتسم الدولة البيزنطية والدولة الأموية خراج قبرص وأرمينيا , وارتهن منهم رهائن وضعهم في بعلبك . في مقابل ذلك يسحب ملك الروم الجراجمة إلى وسط الإمبراطورية البيزنطية , ولم يمتنع عبد الملك عن مصالحة الجراجمة في جبل اللكام , ووافق على أن يدفع لهم ألف دينار كل جمعة , ولكن سرعان ما سنحت الفرصة لعبد الملك للتخلص من الجراجمة , فبعد أن عقد الصلح معهم أرسل أحد قادته الثقات - سحيم بن المهاجر - إلى القائد البيزنطي الذي كان على رأس الجراجمة , ونجح في كسب ثقته , ثم كاده بقوات دبرها لهذا الشأن , فقتل القائد البيزنطي وهرب أصحابه وأمن الباقين , فرجع العبيد إلى أسيادهم , والأنباط إلى قراهم , ، ثم ما لبثوا أن تفرقوا في بلاد الشام وآسيا الصغرى ، فخفَّ خطرهم . كما أن الاتفاقية مع الدولة البيزنطية لم تدم طويلاً , لأن الروم نقضوا العهد , كما أن عبد الملك استطاع القضاء على ابن الزبير وتوحيد الدولة تحت زعامته ؛ مما جعله يفكر بالرد على تحديات البيزنطيين المتكررة , فعين أخاه محمد بن مروان سنة 73هـ , فشرع في غزوهم سنة 74 هـ( ). وبيَّن ابن عساكر تفاصيل القضاء عليهم فقال ، قال الوليد : وأخبرني غير واحد أن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين منعة مدائن الساحل ، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام ، فخرجوا جراجمة فعسكروا بالجبل ، ووجه طاغية الروم فلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر فسار بهم حتى أرساهم بوجه الحجر ، وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان ، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ أنطاكية وغيرها من الجبل الأسود ، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يقدر يخرج في ناحية من رحا ولا غيرها إلا بالسلاح . قال الوليد : فأخبرنا غير واحد من شيوخنا أن الجراجمة غلبت على الجبال كلها من لبنان وسنير وجبل الثلج وجبال الجولان ، فكانت بإسبل( ) مسلحة لنا ، في الرقاد وعقربا الجولان مسلحة ، حتى جعلوا ينادون عبد الملك بن مروان من جبل دير المران من الليل حتى بعث إليهم عبد الملك بالأموال ليكفوا حتى يفرغ لهم ، وكان مشغولًا بقتال أهل العراق ومصعب بن الزبير وغيره . قال : ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر في مدينة أطرابلس يتواعده ويأمره بالخروج إليهم ، فأعلن قائده على لسان الخليفة للقضاء على تمردهم في لبنان : من أتانا من العبيد فهو حر ويثبت في الديوان ، فانفض إليه خلق كثير( ) . ولم يزل سحيم ينتظر الفرصة منهم ويسأل عن خبرهم وأمورهم ، حتى بلغه أن فلقط في جماعة من أصحابه في قرية من قرى الجبل ، فخرج سحيم في عشرين رجلًا من جلداء أصحابه ، وقد تهيأ بهيئة الروم في لباسه وهيئته وشعره وسلاحه ، متشبهًا ببطريق من بطارقة الروم قد بعثه ملك الروم إلى جبل اللكام في جماعة من الروم ، فغلب على ما هنالك ، فلما دنا من القرية خلف أصحابه وقال : انتظروني إلى مطلع كوكب الصبح . فدخل على فلقط وأصحابه وهم في كنيسة يأكلون ويشربون ، فمضى إلى مقدم الكنيسة فصنع ما يصنعه النصارى من الصلاة ، والقول عند دخول كنائسها ، ثم جلس إلى فلقط فقال له : من أنت ؟ فانتمى إلى الرجل الذي يتشبه به ، فصدقه . وقال له : إني إنما جئتك لما بلغني من جهاز سحيم ، وما اجتمع به من الخروج إليك لأخبرك به وأكفيك أمره إن أتاك . ثم تناول من طعامهم ثم قال لفلقط وأصحابه : إنكم لم تأتوا ها هنا للطعام والشراب ، ثم قال لفلقط : ابعث معي عشرة من هؤلاء من أهل النجدة والبأس حتى نحرسك الليلة ، فإني لست آمن أن يأتيك ليلًا . فبعث معه عشرة وأمرهم بطاعته فخرج بهم إلى أقصى القرية ، وقام بهم على الطريق الذي يتخوفون أن يدخل عليهم منه ، فأقام حارسًا منهم ، وأمر أصحابه فناموا ، وأمر الحارس إذا هو أراد النوم أن يوقظ حارسًا منهم وينام هو ، فحرس الأول ثم أقام الثاني ثم قام سحيم الثالث ، ثم قال : أنا أحرس فنم ، فلما استثقلوا نومًا قتلهم بذبابة سيفه رجلًا رجلًا ، فاضطرب التاسع فأصاب العاشر برجله ، فوثب إلى سحيم ، فاتخذا وصرعه الرومي ، وجلس على صدره ، واستخرج سحيم سكينًا في خفة فقتله بها ، ثم أتى الكنيسة فقتل فلقط وأصحابه رجلًا رجلًا ، ثم خرج إلى أصحابه العشرين ، فجاء بهم فأراهم قتله من قتل من الحرس وفلقط ومن في الكنيسة ، ووضعوا سيوفهم فيمن بقي ، فندر بهم من بقي منهم وخرجوا هرابًا حتى أتوا سفنهم بوجه الحجر فركبوها ولحقوا بأرض الروم ، ورجع أنباط جبل لبنان إلى قراهم( ).
وحين نقرأ دائرة المعارف الإسلاميَّة في المقال حول الجراجمة ، نرى الكاتب يضع بين قوسين « المردة » ، فيتعبر أنَّ الجراجمة هم المردة ، ويواصل مقالُ دائرة المعارف : أقام الجراجمة على الحدود العربيَّة البيزنطيَّة ، ولعبوا في بداية الإسلام دورًا هامٌّا في الحرب الدائرة بين العرب والبيزنطيّين ، فدعاهم المؤرِّخون البيزنطيّون : المردة . وفيما يلي نورد هنا بعض النصوص القديمة . الأوَّل لميخائيل السريانيّ : وفي السنة التاسعة لقونسطينوس ، أتى الروميّون إلى جبل لبنان . تسمّوا مردة أو ليفوريّين . دعاهم أبناء سورية جراجمة . أقاموا في الأرض من جبال الجليل إلى الجبل الأسود . كانوا يخرجون على الدوام فيقومون بالسلب والنهب ، لأنَّ الروميّين بعثوا بهم لأجل ذلك . وفي النهاية تقوّى عليهم الطيئيّون فمنهم من قتلوا ، ومنهم من فقأوا لهم عيونهم . « شابو 2: 455 الفرنسيّ ، 4: 437 السريانيّ » . ونقرأ في « شابو 2 : 469 الفرنسيّ ، 4: 445-446 سريانيّ » ما يلي : وحين رأى عبد الملك هذه التي كانت كلّها ، أنَّ الحرب تحيط به من كلِّ جانب ، وبالأخصّ لأنَّه يتعذَّب بسبب المردة الذين في لبنان ، طلب أن يصنع صلحًا مع الروميّين . قَبِلَ يوستينيانوس أن يعمل صلحًا عشرَ سنوات . وتمَّ الاتِّفاق بينهما بأن يخرج المردة من لبنان ، ويمنع لصوصه عن أرض الطيئيّين . ومقابل هذه ، يعطي عبد الملك للروميّين كلَّ يوم ألف درهم وجوادًا واحدًا وعبدًا واحدًا... وأخرج الملك مردة لبنان وأدخلهم إلى بيت الروميّين . وكانوا اثني عشر ألفًا . وما لاحظه كاتب المقال في النصِّ السريانيّ اختلاف كتابة اسم « المردة » ، فاعتبر شابو الشكل الأخير خطأ . والأسماء : مردة ، ليفوريّون ، جراجمة ، لصوص .. هو الغموض يلفُّ بهذه المجموعة فلا نعرف المعنى الأصليّ للفظ « م ر د » . الثاني ، تيوفان في الكرونوغرافيا . سنة 6362 هـ( ) للخليقة . عام 57 - 58هـ( ) » . أمّا العنوان فهو : السنة التاسعة لقسطنطين امبراطور الرومان : ... في تلك السنة ، دخل المردة إلى لبنان واحتلّوا مناطقه من الجبل الأسود إلى المدينة المقدَّسة « أورشليم » . واحتلّوا أرفع المواقع في لبنان . فهرب إليهم عدد كبير من العبيد وأسرى الحرب وأهل البلاد ، بحيث كوَّنوا في مدَّة قصيرة من الزمن آلافًا وآلافًا... وحين علم معاوية ومستشاروه بذلك ، ارتعدوا واستنتجوا أنَّ مملكة الرومان هي في حماية ا؟. فأرسل معاوية موفدين إلى الامبراطور قسطنطين ليطلب الصلح واعدًا إيّاه بجزية سنويَّة . استقبل الامبراطور هؤلاء الموفدين وبعد أن استمع إلى مطلبهم أرسلهم إلى سورية... ويكون على العرب أن يقدِّموا للرومان 3000 قطعة ذهب ، وخمسين أسير حرب ، وخمسين جوادًا مؤصَّلاً . هذا الاتِّفاق الذي عُقد بين الجانبين لمدَّة ثلاثين سنة ، أمَّن السلام بين الرومان والعرب ... ويتواصل الكلام بالنسبة إلى « سنة 6371 هـ( ) للخليقة ، أي : 66- 67 هـ »( ) :... في تلك السنة ، أرسل عبد الملك وفدًا إلى يوستنيان ليثبت الصلح . فتقرَّر الصلح بحسب الشروط التالية : يُبعد الامبراطور طغمة المردة عن لبنان ويمنع هجماتهم . فيعطي عبد الملك للرومان كلَّ يوم ألف درهم ، وجوادًا واحدًا وعبدًا واحدًا ، ويتقاسم الاثنان جزية قبرص وأرمينيا وإيبيريا . فأرسل الامبراطور الحاكم بولس لدى عبد الملك ليثبت معاهدة السلام ، ودوَّن المحضر أمام الشهود . وحين رجع الحاكم الموقَّر ، أرسل الإمبراطور فأخذ المردة وكان عددهم اثني عشر ألفًا ، بحيث قطع قوَّة الرومان ، لأنَّ جميع الأمم الحدوديَّة التي يقيم فيها العرب اليوم ، من المصِّيصة إلى أرمينيا الرابعة ، كانت مقفرة وغير آمنة بسبب هجمات المردة ، وحين تراجع هؤلاء قاست بلاد الروم كثرة الشقاوة من كلِّ نوع ، من قبل العرب . ثم أورد الكاتب النص الثالث وهو للبلاذري بعنوان : أمر الجراجمة ، والذي أوردناه سابقًا ، ثم استأنف قوله : أوردت بعض النصوص وما أردتُ التوسُّع فيها ولا مناقشتها . فجلّ ما أبتغيه أن أبرز ما يتراءى من اختلاف ممّا جعل الدارسين يتحدَّثُون عن « مشكلة المردة – الجراجمة » . هناك قول أوَّل : لا نعرف أصل الجراجمة والمردة بالتحديد . والقول الثاني : وجود هؤلاء الذين يدعونهم المردة في المصادر اليونانيَّة ، والذين يدعونهم جراجمة في المصادر العربيَّة . فكيف نربط التمرُّد - كما في اللغات الساميَّة - باللفظ اليونانيّ ؟ قال المؤرِّخون السريان : شعب واحد بتسميتين . وألصقت التهم بأنَّهم لصوص وقطّاع طرق . أمَّا ما يجمع الموارنة بهم فنزر يسير. كلّ ما في الأمر ، هو أنَّ ما قامت به فئة قامت به الفئة الثانية ، خلال الحرب بين الأمويّين والبيزنطيّين . ثمَّ إنَّ بداية تكوين المارونيَّة حصلت في ذلك الوقت . أمّا منطقة العمل فضاقت أو اتَّسعت بحيث امتدَّت من جبال الجليل وصولاً إلى الأمانوس أو جبل اللكام ، ممّا يتعدّى كثيرًا مساحة لبنان حيث أقام الموارنة ، على جزء صغير منه . في هذا المناخ كان الحوار بين المطران يوسف الدبس والأب اليسوعيّ هنري لامنس . ثم انطلق الكاتب في كلامه من ردِّ المطران الدبس كما نقرأه في مجلَّة المشرق ، السنة السادسة 1321هـ( ) » . وتلك هي البداية : قد أتحفنا « المشرق » الأغرّ بمقالتين إحداهما للأب هنري لامنس اليسوعيّ نُشرت في العدد 24 من السنة الخامسة 58 « ص1122» في الجراجمة . والثانية للأب أنستاس الكرمليّ في العدد 7 من سنته السادسة « ص 301» عنوانها المردة أو الجراجمة » قال الدبس : إنَّ واقع الحال هو أنَّ حضرة الأب لامنس كتب مقالة أولى أنكر فيها أنَّ المردة من الموارنة ، فأجبناه على هذه المقالة ، وأيَّدنا كلامنا بثمانية أدلَّة تثبت رأينا في أنَّ المردة اسم الموارنة في القرن الأول الهجري( ). غير أنَّ الأب الموما إليه عوضًا أن ينقض تلك الأدلَّة كما تقتضي طريقة الجدال الحقَّة ويأتي بما يزيده ، أتى بالمقالة الثانية يُثبت رأيه بما لا نراه يؤيِّده ، زاعمًا أنَّ الجراجمة أشبه بالمردة في أحوالهم . فهم المردة أنفسهم . ثمَّ رأينا في المشرق مقالة الأب أنستاس أشبه بمقالة الأب لامنس فتحتَّم علينا أن ندوِّن هذا الردَّ انتصارًا لما نراه حقٌّا . وعقب كاتب المقال بقوله : ما الذي توخّاه المطران الدبس ؟ البحث العلميّ الصرف. ولكن لا شكَّ وراء هذا « البحث » هناك محاولة إسناد بداية الموارنة في لبنان . من أجل هذا ، استند الكاتب إلى الكتَّاب الموارنة ليدلّ على التماهي بين الموارنة والمردة . ولكن وجب عليه قبل ذلك أن يفصل المردة عن الجراجمة . فاستند في دراسته إلى ابن القلاعيّ والدويهيّ ومرهج بن نمرون البانيّ في كتابه عن أصل الموارنة والسمعانيّ والبطريرك يوسف العاقوريّ . ونذكر بعض ما ورد في الجامع المفصَّل « ص 21 » : في سطوة المردة أي الموارنة في هذا القرن . وفي « ص 25 » : في أنَّ هؤلاء المردة كانوا موارنة. وأنهى الكلام بقوله : وسندًا إلى كلِّ ما مرَّ نقول : إنَّ المردة هم الموارنة حقيقة « ص 29» . فلماذا هذا التشديد من قبل المطران الدبس ؟ نجد الجواب في مقالة ثانية في تاريخ الموارنة في القرن الأول الهجري( ). فالمطران يقدِّم « درسًا » لأبناء رعيَّته وأمثولة تدعوهم إلى العمل المشترك : ذكر الكاتب في تاريخ الموارنة في القرنين الثاني والأول قبل الهجرة( ) أن : القدّيس مارون وتلامذته تكاثر رهبانهم وأديارهم وتوافر الجمهور المنتمي إليهم والمسمّى باسمهم . وذكر في هذا العدد دورهم الدنيويّ في هذا القرن ، وذلك درس يلقيه إلى أبناء ملَّته وجميع مواطنيه يحذِّرهم به من التهوُّر في مهواة المناوأة للسلطة السائدة فيهم بوسوسة أصحاب الأغراض البعيدين عنهم . فمن المعلوم أنَّ الخلفاء الراشدين صرفوا اهتمامهم عند أخذهم سورية وطرْدهم ملوك الروم منها إلى فتح مدنها ، ولم يكترثوا لسكّان جبالها لقلَّة أهمّيَّتها ولتعسُّر مسالكها ، وأنَّ ملوك الروم ما انقطعت مطامعهم في استردادها ، وظلّوا يوسوسون لسكّانها ليلبّكوا أمرها ، ولا تستقيم حالها ليتيسَّر لهم العَود إليها ، كما حاولوا مرّات فلم يظفروا . فمن ذلك أنَّهم وسوسوا للموارنة وكانت مساكنهم حينئذٍ في الجبال من جبال الجليل إلى جبال أنطاكية فلبّكوا حكومتهم ، وتوافرت غزواتهم في السهول ، حتّى اضطرّوا بعض الخلفاء أن يعقد صلحًا مع ملوك الروم على شرائط سيأتي ذكرها ، ومنها أن يبكّتوا الموارنة الذين تلقَّبوا عندئذٍ مردة ويصدُّوهم عن غزواتهم . وكانت النتيجة أنَّ هؤلاء الملوك البيزنطيّين أنفسهم الذين وسوسوا للموارنة وهيَّجوهم على مخالفة رضى حكومتهم انقلبوا على المردة وأذاقوهم الأمرَّين ، ومكروا بهم فسبوا اثني عشر ألفًا من نخبة شبّانهم وأبعدوهم عن أوطانهم ، وجيَّشوا عليهم وأخربوا أكثر بلادهم وحرقوا أديارهم ، وعمدوا إلى القبض على بطريركهم ، واتَّصلوا إلى طرابلس على مقربة منه . ولو لم يتدارك أمرهم بالنصر على الجيش البيزنطيّ لأبادوهم عن آخرهم . فهذه هي الأمثولة التي يريد الكاتب أن يتمثَّل بها أبناء ملَّته ومواطنوه ليخلصوا في الطاعة للحكومة السائدة عليهم .
هو موقف مبدأيّ يقفه المطران الدبس . أمّا الأب لامنس ، فبدا ذاك الباحث المتجرِّد الذي لا يجعل عاطفته تميل فتسيطر على براهينه . وإليك ما كتب : في بهرة القرن الأول الهجري أعني سنة 60هـ( ) ، يذكر مؤرِّخو اليونان لأوَّل مرَّة قومًا يجعلون سكناهم في جبال الشام من جبال اللكام شمالاً إلى حدود فلسطين جنوبًا وهم يدعونهم مردائيّين ويعرفهم المحدثون باسم المردة . ومن غريب أمر هذا الشعب أنَّه لم يبدُ في بادئ ذي بدء ضعيفًا ، ضئيلاً ، بل نراه جاثمًا فوق مشارف لبنان ، ضابطًا مضايقه ، شاغلاً كلَّ نُقَطه الحصينة على مدى طوله من الشمال إلى الجنوب ، وليس من يقوم في وجهه ، بل كثيرًا ما ينقضّ من مراكزه الحريزة فيغزو المعاملات القريبة منه دون أن يَردّ أحد هجماته . ولم يزل أمر هؤلاء المردة في اشتداد حتّى صار كلُّ الملهوفين والمطرودين من أهل الوطن وأصحاب الفاقة يلتجئون إليهم ، ويلوذون بحمايتهم ويزيدونهم عددًا وقوَّة . ولا غرو أنَّهم لو ثبتوا مدَّة على ذلك لأتوا بالأعمال الخطيرة ، لولا أنَّ ملوك الروم الذين كان المردة يخضعون لهم أمروهم بالخروج من لبنان بعد ظهورهم فيه ببضع سنين ، فاندثر أمرهم على فورٍ كما ظهروا بغتة دون أن يُبقوا في لبنان أثرًا من مرورهم « تسريح ، ص 41 » . هي صفحة جديرة بأن تكون بداية ملحمة لدى العارفين بالأديب « الأب لامنس » ، لا فقط بالعالم الباحث . وطرح السؤال : فمن ترى هذا الشعب ؟ كيف ظهر على فجأة دون أن يذكر أحد وجوده في بلاد الشام ولبنان سابقًا ؟ أنّى خرج ؟ هذه أسئلة... واستند الأب لامنس إلى المراجع فأعطى الفرضيّات التالية : - لبنان لم يكن مركزهم الأوَّل ، بل دخلوا إليه . - هم فرقة من الجند لا شعب من الشعوب . - يخدمون تحت حكم ملوك الروم . وواصل الأب لامنس متحدِّثًا عن علاقة هؤلاء المردة بالموارنة : ولكن هنا مسألة أخرى لا يتَّفق فيها أرباب العلم تريد أصل المردة وجنسيَّتهم . فقد ارتأى بعض الأئمَّة ومنهم العلاَّمة السمعانيّ والحاقلانيّ ومرهج بن نمرون والدويهيّ ومن تبعهم من علماء الموارنة... أنَّ المردة هم الموارنة . وأقوى حججهم لبيان ذلك أنَّ المردة كانوا قومًا من النصارى يسكنون لبنان ولا نعرف في القرن السابع شعبًا يدين بالنصرانيَّة ويسكن لبنان غير الموارنة « ص 43» . ولكنَّ المردة كانوا فرقة جنديَّة . فيجيب هؤلاء العلماء : ولكنَّهم لم يكفّوا عن غاراتهم بعد انعقاد الصلح . فقال لامنس في ذلك : فهذا الاحتجاج لا يخلو من القوَّة وهو يبيِّن ما في هذا البحث من المعضلات . هنا قد يقف لامنس مع أصحاب الرأي الآخر الذين ينكرون توحيد المردة والموارنة . ويعلن في النهاية : هذا ومن المقرَّر الثابت أنَّ ظهور الموارنة كأمَّة مستقلَّة قد اتَّفق مع عهد حروب المردة في لبنان . وإن لم يسلِّم القرّاء بأنَّ الموارنة هم المردة ، فإنَّه لا سبيل إلى النكران بأنَّه وُجدت بين الفئتين علاقات ودّيَّة . وممّا يتَّضح أيضًا من تاريخ ذلك العصر أنَّ الموارنة عند خروج المردة من لبنان لم يتبعوهم في مهاجرتهم آسية الصغرى بل ثبت معظمهم في جبلهم . في هذا الخطِّ راح الدكتور إلياس القطّار مع الذين خافوا من النعوت التي لصقت بالمردة فما أرادها أن تصل إلى الموارنة . ونسيَ أنَّ الذين كتبوا عن المردة كانوا من الخصوم . سواء تيوفان أو أغابيوس « محبوب » المنبجيّ . وحكم بقساوة على المطران الدبس الذي اعتبره قليل الاطِّلاع مع أنَّه ذكر من المراجع ما لم يذكره غيره ، بل ظنَّ أنَّه لم يلجأ إلى المراجع الأولى . قال : ولا يتَّضح ما إذا كان أخذ عن هؤلاء مباشرة أو نقل عنهم بالواسطة من مرجع آخر. واتَّضح أنَّه أهمل مصدرين مهمَّين هما ابن عساكر في « تاريخ دمشق » وميشال السوريّ ، المؤرِّخ السرياني « الحكمة ، ص 360 » . لست أدري من يمكنه أن يقرأ المراجع السريانيَّة أن يقول « ميشال السوريّ » . هذا يعني عودة صاحب المقال إلى النسخة الفرنسيَّة . أمّا الكاتب فهو ميخائيل الكبير أو ميخائيل السريانيّ . وابن عساكر المولود في بداية القرن الثاني عشر والذي يعلن : وأخبرني غير واحد... فأخبرنا غير واحد من شيوخنا... « حاشية 50 ، ص 164 » ، وأودُّ أن أذكِّر القارئ طول باع المطران الدبس في اللاتينيَّة والسريانيَّة ، ممّا أتاح له أن يعود إلى مصادر لا يستطيع جلّ أساتذتنا اليوم إن لم نقل كلَّهم أن يعودوا إليها . وجاء الحكم الأخير للدكتور قطّار أقسى من حكم الأب لامنس . قال : لقد أحاط الدبس بمصادر مسألة المردة ، الجراجمة ومراجعها إلى حدٍّ كبير، دون أن يكون قد اطَّلع على المصادر كافَّة . ولكن يبدو أنَّه كان مسحورًا بإيديولوجيَّة ربط الموارنة بالمردة ، لذلك لم يقرأ المصادر بتأنٍّ كبير فاشتطَّ في ربط الموارنة بجماعات من قطّاع الطرق لا تشرِّف تصرُّفاتهم الموارنة ، كما أنَّ الإعاشات التي قدَّمتها الدول الإسلاميَّة الأمويَّة للجراجمة لا تنطبق على الموارنة . لقد رحل المردة كقوَّة عسكريَّة ، وربَّما بقيت جاليات منهم امتزجت مع الموارنة ، وشتّان بين مدرسة القدّيس مارون النسكيَّة ، وبين المردة الذين يعتبرهم ابن العبريّ وميشال السوريّ ، الذي نسيَ الدبس أن يأخذ عنه ، شعبًا واحدًا مع الجراجمة ، ويعيشون كلصوص « الحكمة ، ص 361 ». ولكن تهرَّب الدكتور قطّار من إيديولوجيَّة فوقع في إيديولوجيَّة لا تقلُّ عنها خطورة فاعتبر أنَّ المطران الدبس « اشتط » وكأنَّ الأمر واضح لدى مؤرِّخين نقلوا مرارًا بعضهم عن بعض ، وما استطاعوا حتّى الآن أن يعرفوا معنى الكلمة اليونانيَّة « مردايتاي » . ونعود إلى المطران الدبس فنقرأ بعض ما أرسله إلى حضرة الأب الجليل هنري لامنس اليسوعيِّ الجزيل الاحترام : أستهلُّ رسالتي إليك بالشكر والثناء عليك لما تجهد نفسك بتدوينه بمجلَّة المشرق الغرّاء... وأسألك أن لا يشقَّ عليك أن أورد بعض أدلَّة تخالف ما كتبته أخيرًا في هذه المجلَّة في شأن المردة ، لأنّي لم أضع ذلك في سبيل المباراة بل على سبيل البحث العلميّ التاريخيّ وبيان الحقيقة ، ولم أتفرَّغ للتنقيب في كتب المؤرِّخين لإيجاد الأدلَّة الآتي ذكرها التي انتقيتها من معلوماتي السابقة ، وممّا كتبتُ إلى الآن في تاريخ سورية وغيره « ص 915 » . قالت أبوَّتك الجليلة في مسألة المردة وظهورهم بغتة بلبنان وخروجهم منه ، ذهب العلماء فيها إلى مذاهب شتّى ، وأنَّك لا تبدي فيها رأيًا، بل تترك لقرّائك أن يصوِّبوا الرأي الذي يرونه أصحّ وأثبت . وظهر من أساليب كلامك ومجموعه أنَّك تجنح إلى الرأي المخالف لرأي الموارنة بهذه المسألة . ويقرأ القارئ من خلال أسطرك أنَّك ترجِّح رأي المخالفين ، ولا ألومك على ذلك ، ولا يخطر في بالي أنَّك تعمَّدت إجحافًا بحقّ الموارنة أو إنقاصًا بكرامتهم ... ويعلن المطران فكرته الثابتة : نحن الموارنة نعلم أنَّ المردة اسم للموارنة لقَّبهم به أعداؤهم في القرن السابع ، وأنَّ المردة والموارنة أمَّة واحدة . ثمَّ يقدِّم ثمانية أدلَّة لا مجال لذكرها هنا ويُنهي بالخلاصة التالية : لعمر الحقّ إنَّ هذه بيِّنة لا تردّ على أنَّ المردة لم يكونوا جنودًا لأحد ملوك الروم ، ولا جالية أحلّوها في لبنان ثمَّ أخرجوها منه بعد مدَّة وجيزة . ومن المعلوم أنَّ أولئك الجنود وتلك الجالية لم يكونوا إلاّ من مملكتهم ، فعند عودهم إليها ينضمّون إلى باقيها ولا يبقون منفصلين قرونًا ... فهذا ما أردت أن أورده لأبوَّتك سائلاً إيّاك أن تُحلَّه في صفحات مجلَّة « المشرق » الغرّاء علَّه يكون من الأبحاث العلميَّة التي تتفضَّل هذه المجلَّة بنشرها ، علاوة على فضلها بنشر ما يعود بالنفع على الدين والفضيلة . وأختم رسالتي هذه بالشكر لك ولأصحابك الآباء المحترمين بنشر هذه المجلَّة التي أجلُّها وأجلُّهم وأدعو بالتوفيق لكم جميعًا « ص 923» . وفي الردّ على الأب لامنس ، قال المطران الدبس : لم أتفرَّغ للتنقيب . نحن لا ننسى انهيار صحَّته وضعف بنيته ، بحيث لا يستطيع بعد أن يقوم بأبحاث جديدة . ولكنَّه لبث متشبِّثًا برأيه . وسوف يقول في آخر كتاب كتبه سنة 1323هـ( ) ، أي قبل موته بسنتين : هذا ما سطَّرته في تاريخ سورية ، ولكن ظهر في إحدى المجلاّت العلميَّة سنة 1320هـ( ) فصل لأحد العلماء اهتمَّ كاتبه أن يجعل هذه المسألة محلاٌّ للريب ، وجلَّ ما قاله أنَّه يتعجَّب من ظهور المردة من أوَّل أمرهم جاثمين فوق مشارف لبنان ضابطين مضائقه ثمَّ خرجوا منه بغتة « الجامع ، ص 26 » . يشير المطران هنا إلى الأب لامنس . ويضيف سيادته : فأجبته على ذلك في المجلَّة المذكورة مبيِّنًا بطلان ما أدعم عليه في بحثه ومثبتًا أن ليس المردة إلاّ اسم للموارنة في القرن الأول الهجري( ) وصفوا به لتمرُّدهم « الصفحة عينها » . وقال في « ص 27» : إنَّ العالم المذكور بعد اطّلاعه على ردِّنا الذي لخَّصناه عاد إلى البحث دون أن يرد دليلاً واحدًا من أدلَّتنا ، بل زعم أنَّ المردة هم الجراجمة في جبل اللكام . واستند إلى أقوال أدّاها البلاذريّ فيها ما يشبه ما ذكره توافان عن المردة ، وانتصر له عالم آخر باسطًا رأيه فأجبناهما بمقالة أثبتتها المجلَّة المذكورة منكرين عليهما أنَّ ما ذكراه من فقر البلاذريّ مطابق لما ذكره توافان عن المردة ، وبيَّنا كثيرًا من الفرق بين أقوال المؤرِّخَين العربيّ والروميّ ، وأبنّا أنَّ التشابه بين أمرين ليس حجَّة للحكم بأنَّ الأمرين واحد . وهكذا عاد الدبس إلى مجلَّة المشرق وإلى الأبوين لامنس وأنستاس بعد أن انتظر منهما أن يسندا رأيه في وقت حرج كانت تعيشه الأمَّة المارونيَّة خلال النظر إلى تأسيس لبنان الكبير الذي سوف يعلن سنة 1339هـ( ). وسوف يقول المطران : وقد جزمنا أن لا نعود إلى الكلام فيها - في هذه المسألة - إلاّ أن يرد من يخالفنا فيها كلَّ أدلَّتنا بموجب قوانين الجدال ، ولا يبقى عندنا ما يخالف هذه القوانين إلاّ عدم الاكتراث . هدانا الله جميعًا إلى الصواب « المشرق 1321هـ( ) ، ص 413» . ونشرت مجلَّة المشرق في نهاية هذه المقالة حاشيتين . الأولى للأب هنري لامنس والثانية لإدارة المجلَّة . في الأولى قال لامنس : إن سمح لنا السيِّد الجليل كاتب المقالة ، أوردنا هنا بعض ملاحظات نسأل سيادته أن يرمقها بنظره السامي :
1- إنَّنا في مقالنا عن المردة لم ننكر أنَّ المردة من الموارنة ، وإنَّما اكتفينا بذكر آراء العلماء في هذا الشأن تاركين للقرّاء أن يختاروا ما يرونه أقرب إلى الحقّ « المشرق 5: 828» . أمّا مقالتنا الثانية عن الجراجمة ، فقد سعينا بأن نثبت فيها استنادًا إلى الكتبة الأقدمين من يونان وعرب أنَّ اسم المردة والجراجمة أطلق على أمَّة واحدة أو بالحريّ أنَّ الجراجمة كانوا أقرب فرق المردة إلى الشام .
2- ليس بين رأيي ورأي حضرة الأب أنستاس اختلاف جوهريّ . وكذلك لا يختلف رأينا في رفيع مقام البلاذريّ بين المؤرِّخين . إلاّ أنَّ حضرة الأب أنستاس بيَّن خصوصًا عظم شأنه ودقَّة معارفه ، بينما أنا الفقير أبديتُ أسفي على أنَّ هذا الكاتب لم يوفِّق بين الروايات التي أثبتها « المشرق 5 : 1133» .
3- لسنا والأب أنستاس أوَّل من ارتأى أنَّ الجراجمة والمردة شعب واحد ، فإنَّ غيرنا ، وفضلهم بين العلماء شاهد ، قد سبقوا ورجَّحوا هذا الرأي . فإن كنّا أخطأنا فإنَّ هذا الخطأ يشمل قومًا مبرِّزين .
4- لم تكن نيَّتنا لمّا قادنا سياق كلامنا عن شعوب لبنان إلى البحث عن المردة أن نباشر جدالاً مع أحد . كما أنَّنا الآن لا نقصد ذلك . وغاية ما أردنا أن نوضح ما حسبناه الحقّ . وقد عرف كاتب الأرز في عدده 399 الصادر في 16 آذار المنصرم لنا ولحضرة الأب أنستاس حسن نيَّتنا . فنشكره على امتداحه اعتدال خطَّتنا « ص 412» .
ثم ختم حديثه بقوله : المردة ، الجراجمة ، الموارنة . موضوع كثرت حوله المراجع ، وبقيت الفئات عند مواقفها ، حيث يرى كلُّ واحد أنَّ الحقَّ بجانبه. هذا يفضِّل هذا المرجع وذاك مرجعًا آخر، ساعة يبدو أنَّ المرجع الأساسيّ يبقى المؤرِّخ تيوفان في الكرونوغرافيا . كان الأب لامنس ذاك الباحث العاقل فما تجرَّأ على اتِّخاذ موقف محدَّد منه . بل ترك الباب مفتوحًا . أمّا المطران الدبس فقد أخذ بإيديولوجيَّة الباحثين الموارنة القدماء بشكل عامّ ، حفاظًا على أمرين : دوام استقامة الإيمان عند الموارنة . ثمّ ربط المردة بالموارنة . ما يمكن ملاحظته هو أنَّ هذه الفئات الثلاث وُجدت تقريبًا في الزمن نفسه وتفاعلت ، وقيل عن الجراجمة ما قيل عن المردة . الجراجمة عادوا إلى جبل اللكام كما قالت المصادر. والمردة أو من تبقّى منهم امتزج باللبنانيّين عامَّة وبالموارنة خاصَّة ، على مثال بقايا الصليبيّين بعد أن تركوا الشرق نهائيٌّا . في كلِّ هذا يبقى الغموض حاضرًا بحيث لا يستطيع أحد أن يجزم في هذا الأمر، لا سيَّما وأنَّ الانفعالات قويَّة . والمراجع التاريخيَّة التي ذكرت عُرفت منذ زمان بعيد لدى الموارنة . ولا أظنُّ أنَّ المحدثين أضافوا الكثير على ما أورده هؤلاء وفي نهايتهم المطران الدبس . يبقى تفسير هذه المراجع . وقيل عن الدبس : لم يكن حياديٌّا . فهل من مؤرِّخ حياديّ ؟ لا أظنّ ، وإلاّ لماذا استعادة الماضي من أجل الحاضر ؟ أمّا المطران فأراد أن يعود إلى المراجع ليقدِّم درسًا للموارنة في أيّامه وهو من دعوه « من آخر المصلحين الكبار الذين عرفتهم المارونيَّة في القرن التاسع عشر »( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ