تابع جبل الشيح - آثار جبل الشيخ -5
والآن دعونا نبقى لحظات مع أشهر غارين في تاريخنا الإسلامي ، وهما غار حراء وغار ثور اللذان تذكرهما كتب السيرة والحديث والتاريخ الإسلامي ، ولا شك أن غار حراء نال شهرة واسعة لسببين :
الأول : اتخاذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – له مكانًا للخلوة والتأمل والتحنث قبل بعثته .
والثاني : نزول جبريل – عليه السلام - بالقرآن عليه فيه لأول مرة . وفي ذلك تقول عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ – رضي الله عنها - : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ : وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ . قَالَ : « مَا أَنَا بِقَارِئٍ » . قَالَ : « فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ . قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ » . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ : « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ! فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا ، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا : إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ ، وَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي ! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا !! لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ » قَالَ : نَعَمْ ! لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ( ). وأما غار ثور فقد كان الغار الذي اختفى فيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مع صاحبه أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – عن أعين كفار لما شرع في الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز : « إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : لَا تَحْزَنْ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »( )
وبعد هذه الجولة القصيرة نعود إلى مغاور جبل الشيخ المشهورة في التاريخ القديم والحديث فمنها :
1. مغارة الإله إل أو إليا أو إيليا : تقع المغارة في أعلى قمة شارة الحرمون التي تم بيان أهميتها الجغرافية ، وتسمى هذه المغارة بمغارة إيليا ، أحد والمعتقد أن إيليا هو « إيل » كبير معبودات الكنعانيين والفينيقيين( ) والسومريين والآراميين وغيرهم من الشعوب السامية . فما معنى « إيل » ؟ إن معناها على أصح الأقوال : رب أو إله ، وتطلق أيضًا على لفظ الجلالة الله . ولما كانت المغاور والكهوف أماكن سكن الإنسان القديم ، فمن الطبيعي أن يجعل مكانًا لمعبوده يماثله ، ولكنه يتميز بعلوه وارتفاعه عن موضع سكنه ، يناسب عظمة وعلو ذلك المعبود . ثم بعد ذلك شيدت له المعابد والهياكل التي تعتبر بيوت الله ، لأنها أقيمت لعبادته ، ولما دخل الشرك على الناس بدأوا يضعون فيها رموزًا تذكرهم بالله ، ثم عبدت تلك الرموز من دون الله ، وصارت تدعى آلهة !!؟ وما هي إلا أصنام من صنع البشر ، أُضْفِيَ عليها صفات الألوهية بدهاء الشيطان وأتباعه .
هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يحتمل أن تكون المغارة المذكورة سابقًا باسم « مغارة إيليا » في جبل الشيخ تشير إلى رسول الله : « إيليا » المذكور بهذا الاسم في العهد القديم ، وهو المذكور في القرآن الكريم باسم إلياس – عليه السلام – وتعبده فيها ، أو التجائه إليها ليختفي عن أنظار قومه الذين عادوه ووقفوا حائلاً بينه وبين تبليغ رسالته التوحيدية ، لقربها الواضح من مكان دعوته لتوحيد الله - عز وجل - والأحداث التي تتالت عليه ، والجبل - كما ألمحنا - يعتبر ملجأ آمنًا حصينًا لمن لجأ إليه ، لطبيعة تضاريسه ، ووعورة مسالكه ، وسهولة الاختفاء فيه عن أعين الأعداء ، وسهولة الدفاع عن النفس فيه ، كما كان يفضله كثير من الزهاد والنساك والرهبان في خلواتهم وعبادتهم . وقد تكون المغارة نفسها معبدًا لـ « إيل = الله » في صورته التوحيدية ، ثم استمرت بعد ملابستها للشرك والوثنية كما ذكر أحد الباحثين( ).
2. مغارة بانوين : تقع هذه المغارة في لحف جبل الشـيخ ، في عطفه ، عند منابع نهر الأردن الشمالية ، وتعرف باسم « بانوين » : أي مغارة الإله « بان » ، لاختصـاصها بعبادة هذا المعبود من قديم الزمان ، والتي عرفت فيما بعد بـ « قيسارية فيليونس » ، وفوق بقاياها تقوم اليوم بانياس الحديثة . وتقرأ هناك نقوش باليونانية معناها : بانياس مدينة الملجأ( ). وقد ذكر ول . ديورانت في كتابه « قصة الحضارة » أن « بان » من معبودات اليونانيين ، ويمثل صنم الغابات ، وذلك في النص التالي : « ففي رأي الإنسان البدائي - وفي رأي الشعراء في كل العصور- أن الجبال والأنهار والصخور والأشجار والنجوم والشمس والقمر والسماء ، كلها أشياء مقدسة ، لأنها العلامات الخارجية المرئية للنفوس الباطنية الخفية ؛ وكذلك الحال مع اليونان الأقدمين إذ جعلوا السماء هي الإله « أورانوس » ، والقمر هو الإله « سلين » ، والأرض هي الإلهة « جي » والبحر هو الإله « بوزيدن » ، وأما الإله « بان » ففي كل أرجاء الغابات في وقت واحد ؛ والغابات في رأي الجرمان الأقدمين كانت في أول أمرها عامرة بالجن والشياطين والسحرة والمَرَدة والأقزام وعرائس الجن »( ) . كما كان اليونانيون القدماء يعتقدون : أن الإله « بان » يجول في هذه الغابات ذات الأشجار العمودية في وقت من الأوقات ، وفي غيرها من الجبال التي يعبده سكانها في أوروبا( ).
3- مغارة الشيخ الفاضل محمد أبو هلال « مغارة رخصة » : يقول الدروز بأن دعوتهم التوحيدية لاقت في الأرض الجبلية لجبل الشيخ مكانًا آمنًا لتستمر وتبقى ، وذلك مع انكفاء الدعوة وانغلاقها نتيجة أحداث مأساوية واضطهاد من آمن بها . فكان الدروز وعلى مدار ألف عام محافظين على إسلامهم الذي عرفوه في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ولم يغيروه . وكان الشيخ الفاضل الذي سميت عدة مغاور باسمه كما يصفه أتباعه بعد إنجازه عمله اليومي يعود إلى كهف مقابل لحارته « حارة دارس » بالقرب من قرية كوكبا في قضاء راشيا تدعى « الشعيرى » في منطقة تدعى « الشقيف » - وتعني بالسريانية : الصخر العظيم - للعبادة بعيدًا عن عيون الناس وطلبًا للخلوة مع الذات المتأملة في عظمة الخالق القدير، فلما عرف بعض شبان القرية بأمر الشيخ أبو هلال تشجعوا لمجاراته في العبادة وتوافدوا إليه يمضون معه وقتًا فوق ذلك المنحدر القريب من غابة السنديان التي لم يبق منها حتى وقتنا الراهن سوى شجرتين معمرتين إلى جانب مقام يزار حتى يومنا هذا . وقد أكرمه الله – كما يقولون - بأن سخّر لغذائه خلية من النحل كانت مثبتة في أعلى سقف الكهف ، يتقطر منها العسل إلى جرن صغير داخل أرضه ، فما أن يدخل الشيخ أبو هلال الكهف حتى تبدأ قطرات العسل بالتساقط والتجمع داخل الجرن فتكون غذاء له ومن بصحبته ، وحين يغادر الكهف يعود النحل ليجمع العسل ويرده إلى الخلية من جديد . تلك الكرامة الربانية اعتبرها أهل القرية منحة دالة على المكانة الروحانية للشيخ أبو هلال ، وتوافدوا إلى الكهف ليشاهدوا قدرة الله بعد أن شاع الخبر بينهم ، مكرمين صاحب الكرامة ومقدرين لمسلكه ومقامه . فتقاطروا إلى المكان ، وشاهدوا بأم أعينهم ما يجري واعتبروها كرامة من الكرامات للشيخ.لكن الأمور لم تستتب للشيخ كثيرًا ، فقد اغتاظ أحد الحاسدين لتعلق الناس بالشيخ ، وأشعل النار بالكهف ، وقضى على خلية النحل ، وحرم الشيخ من صومعته. وبعد تعلم الشيخ في دمشق قام في قريته كوكبا مقام المرشد يعلم ويفتي ، دون أن تشغله ملاقاة الناس وأمورهم عما ألفه من عادة الانفراد في رؤوس الجبال وبطون الأودية واللجوء إلى الكهوف طلبًا للخلوة والانفراد . فقد وجد كهوفًا أخرى في المنطقة ، لجأ إليها وتعبد فيها ، وواصل مسيرته التوحيدية. وما زال الكهف الأول الذي تعبد فيه الشيخ قائمًا حتى اليوم ، ويزوره مشايخ الدروز للتبارك والصلاة . وقد لجأ الشيخ إلى كهف آخر في موقع يقال له « ظهر الزنار » وتعبد فيه وتحول هذا الموقع كذلك إلى مزار فيما بعد . وقد انتقل الشيخ الفاضل بين عدة قرى منها شويا ، وما زال فيها كهف معروف باسمه إلى الوقت الحالي ، وقد توفي في عين عطا ، ودفن في مقام يزوره الدروز , وبعد وفاة الشيخ الفاضل أقيمت له عدة مزارات ، منها مزار في قريته الأصلية كوكبا ، ومزار آخر في عين عطا ، ومزار ثالث في قرية كفر سميع( ).
وفي تقرير للجمعية اللبنانية لدراسة المغاور « Ales » ورد ما يلي عن مغارة الشيخ الفاضل المعروفة بمغارة رخصة على جبل حرمون :
1- إحداثيات المغارة : 157434 - : X 166062 - = Y 1450 م = Z
2- موقع المغارة : تقع مغارة رخصة على ارتفاع 1450 متر عن سطح البحر عند بداية سفح جبل الشيخ في الوادي المعروف باسمها بعد وادي الراهب . تصل السيارة إليها عبر سهل الفاقعة حتى مبنى بئر عين عطا لمياه الشفة الذي يبعد 550 متر عن المغارة ، ويرتفع عن سطح البحر 1275 متر، ومنه يجب الصعود سيرًا على الأقدام لمدة عشرين دقيقة على السفح الشمالي الشرقي للوادي حتى الوصول إلى شير صغير ارتفاعه 8 أمتار ، في أسفله نجد مدخل المغارة .
3- وصف المغارة : قبل الدخول إلى المغارة نجد فسحة طبيعية طولها 10 أمتار بعرض 12 متر يلحقها منحدر صغير ارتفاعه متران يوصلنا إلى مدخل المغارة الذي يتكون من شق عريض لا يتعدى ارتفاعه 1.5 متر . بعد التقدم بحوالي ثلاثة أمتار، نصل إلى صالة واسعة بقياس 8×10 متر وبارتفاع أقصاه خمسة أمتار . ونجد على جدران هذه الغرفة بعض التكونات الكلسية الناتجة عن تسرّب المياه من أعلى الشير. أما أرضية الغرفة فهي صخرية في بعض الأماكن وترابية قرب المدخل ومغطاة في معظم مساحتها بسماد ماشية ، الأمر الذي يشير على أن هذه المغارة قد استعملت حديثًا من قبل الرعاة . أما في الاتجاه الشمالي الشرقي فنجد غرفة ثانية صغيرة بقياس 3×3 أمتار وعلى ارتفاع 2.35 مترًا يبدأ ممر ضيق طوله 4 أمتار وهو عبارة عن تشقق صغير في الصخر يظهر على أطرافه تكونات كلسية .
4- الفخاريات : لاحظ المستغورون ، أثناء كشفهم على المغارة ، وجود
بقايا فخارية مكسرّة ومنتشرة على أرض المغارة في أماكن عدة . بعد معاينة بعض هذه البقايا الفخارية تبين أن بعضها يعود الى العصور الوسطى تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الفخاريات استمر استعماله حتى فترة قريبة من الزمن( ).
د- خلوات البياضة :
هي عبارة عن مناسك يبنيها عقال الطائفة الدرزية للعبادة في مناطق نائية ، بعيدة عن البلدان التي هم بها نحو مسافة نصف ساعة ، وغالبًا يكون بناؤها على مرتفع ، ويتفردون فيها أكثر الأيام ليلاً ونهارًا ، ويسمون هذه المناسك خلوات البياضة ، وهي على سطح جبل ، فوق قرية حاصبيا في لبنان ، مقابل سفوح جبل الشيخ الشمالية ، وتزيد على ستين خلوة . ويجتمع العقال في أماكن العبادة التي تعرف بالخلوات « جمع خلوة » لسماع ما يتلى عليهم ، وبعد تلاوة المقدمات ، يخرج من الخلوة الطبقة الدنيا من العقال ، ثم بعد تلاوة بعض الرسائل البسيطة التي ليس بها تأويلات تخرج الطبقة الثانية بحيث لا يبقى إلا رجال الدرجة الأولى الذي لهم وحدهم الحق في سماع الأسرار العليا للعقيدة ، أما الجهال فلا يسمح لهم بحضور هذه الخلوات ، أو سماع شيء من الكتب المقدسة إلا في يوم عيدهم الوحيد ، وهو يوافق عيد الأضحى عند المسلمين »( ). ومناطقهم خالية من المساجد ويستعيضون عنها بخلوات يجتمعون فيها ولا يسمحون لأحد بدخولها . لا يصومون في رمضان ولا يحجون إلى بيت الله الحرام ، وإنما يحجون إلى خلوة البياضة في بلدة حاصبية في لبنان ، ولا يزورون مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم يزورون الكنيسة المريمية في قرية معلولا بمحافظة دمشق( ). ويقيم عقال الدروز في تلك الخلوات ، وعن هذه الخلوات يحدثنا صاحب مذكرة « أيها الدرزي عودة إلى عرينك » ، عن كيفية قيامها وطريقة الوعظ فيها فيقول : « قبل عام 1176هـ( ) لم يكن للدروز خلوات ، أو كانت ولكن ليست ظاهرة ، ولا شيوخ عقل بل كانوا تحت جناح الإِسلام مباشرة ، وبقي شيوخ العقل يتخبطون في خلواتهم بين الرسائل والشروح ، إلى أن تسلم الرياسة الروحية في جبل حوران الشيخ إبراهيم البجري ، فقرر قراءة الكتابين الأولين « ميثاق ولي الزمان ، وكشف الحقائق » مع شيء من الكتاب الثالث « مناجاة ولي الحق » على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية . ثم قسم الشيخ إبراهيم الكتاب الثاني والثالث إلى ثمانية أقسام ، وعين لكل ليلة من ليالي الأسبوع قسمًا منها ، وضم لها أقسامًا معلومة من رسائل أخرى ، ودُعِيَ هذا كله دورًا . فدور مساء الخميس مثلاً ، الميثاق والكشف والتنزيه وشعر النفس ، ودور مساء الجمعة الميثاق والدامغة والرضا وشعر النفس .. وهكذا لكل ليلة دورها الخاص ، مع الملاحظة أن الاجتماع الرسمي هو مساء الخميس ، والقراءة في الجمعة وسواها جماعية . وهناك بعض فصول من الرسائل ، رأى الشيخ إبراهيم وجوب قراءتها كل صباح ، وقد دعا هذا الترتيب فرضًا ، ومازل عليه الناس في جبل حوران وسواه حتى يومنا هذا ، وإن رأينا تعديلًا في بعض المناطق ، فهو لا يعدو إبدال فصل بفصل من رسالة واحدة أو رسالتين متغايرتين » . وقد ثابر القوم على هذا المنهاج واعتبروه واجبًا على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية . وعن هندسة هذه الخلوات يقول : إن الشيخ إبراهيم أمر أن يقام في كل قرية درزية خلوة كبيرة تتسع لأكبر عدد من سكان القرية ، وأطلق على هذا البناء اسم « مجلس حمزة » وهو يتألف من غرفة كبيرة تتوسطها مصطبة - طاولة ثابتة - بارتفاع سبعين سنتمتر تقريبًا ، يعلوها ستار من القماش السميك بارتفاع متر ونصف تقريبًا ، كأنها تقسم الغرفة قسمين وتحجب بينهما . يجلس الرجال في قسم والنساء في القسم الآخر ، ولكل قسم باب ونافذة في مكان واحد . أما السبب في إقامة هذا الحاجز فهو :
1 - فصل النساء عن الرجال والحيلولة دون رؤية بعضهما .
2 - إيصال صوت الرجال إلى النساء اللواتي جئن لاستماع الحكمة .
أما ترتيب الشيوخ في المجلس فهو على النحو التالي : يجلس الإمام - شيخ عقل القرية - في صدر المجلس قريبًا من الزاوية ، ويولي ظهره للقاطع - المصطبة ثم يجلس الشيوخ عن يمينه وشماله بصفوف غير منتظمة ، تاركين أمامه فسحة صغيرة مستعدين لأداء الطقوس . أما كيفية ترتيب الطقوس فهو كما يلي :
1 - الوعظ : وهو قصص وحكايات صوفية ، كقصص مالك بن دينار وذي النون المصري وإبراهيم بن أدهم وسواها من القصص الخفيفة التي نراها في كتاب « روض الرياضين » . أما إذا كانت هذه الليلة ليلة العيد الكبير ، ضموا للوعظ قصة « الثواب والعقاب » وهما تصوران ما يلاقيه الكافر والمرتد من أهوال مجروية القيامة . وهذه الجلسة متاحة للجميع ، يحضرها المدخن والسكير حتى ولو كان ليس درزيًا .
2 - الشرح : المرحلة الأولى : ويجوز حضوره لكل درزي ، ونرى الحاضرين فيه كثيرين في ليالي الجمعة وليالي العشر من ذي الحجة ، يفتتحه الإِمام قائلاً : علينا أن نمسي الحدود « أي نقول لهم : مساكم الله بالخير » ، وقد يقول هذه الكلمة شخص آخر إذ هي لكل شخص من الحاضرين . وتمسية الحدود هي تحية وسلام وتسبيح على كل حد من الحدود الثمانية : « العقل ، النفس ، الكلمة ، السابق ، التالي ، الجد ، الفتح ، الخيال » . وهذه صيغة التمسية ، يقدمونها أولًا للعقل قائلين :
ألف المســـا مســاك ... يا عقل من مولاك
يا نور صاق محض ... سبحان من صفاك
يا لابـس الأخضـــر ... يا زينة المحضــر
قلبــي يميـــل إليــك ... عيني تريد رؤياك
قلبــي يميـــل إليــك ... صلى الإِله عليـك
صـــلى عليـــك الله ... يا نــور عرش الله
صــلى عليــك ربي ... نحن دخيـل حماك
ثم يتجهون للنفس فيمسونه بنفس هذه الأبيات مع إبدال كلمة الأخضر الموجودة في صدر البيت الثالث بالأحمر ، ثم يتجهون للكلمة بنفس الأبيات ويضعون بدل الأخضر كلمة أصفر ، ثم يخصون السابق باللون الأبيض والتالي باللون الأسود بنفس الأبيات والترتيب . أما الحد والفتح والخيال فتقدم لهم التسمية دون ذكر البيت الثالث ، إذ الثلاثة الباقون ليس لهم كسوة خاصة . وقد ترنم بعض الخلوات بهذه الترنيمة أيضًا :
صلـــوا عـــلى القائــل ... صاحب الجود والفضائل
صلوا على ولي الهدايا ... صاحب النعـــم والكــفايا
صل وسلم يا رب عليه ... وأســــــعدنا برضــــــاه
صلوا على السيد الهادي الإِمام الأعلى ، نور القيام ، المنتظر لنجاة الأنام ، الهادي إلى طاعة المولى العلي حاكم الحكام ، إمام الرضاة المظفر المصطفى ، صلي يا رب وسلم على سيدنا وحبيب قلوبنا ورجانا « حمزة ابن علي » . وبعد الانتهاء من هذه التحية الأدبية ، يطلب الإِمام من أحد الشيوخ أن يعظ الناس ، وهذا يتلو بعض أخبار الصالحين من الصوفيين ، ويطلب من آخر أن ينشد بعض الأناشيد الدينية ، ويختم المجلس بأنشودة جماعية .
المرحلة الثانية : يقف الشيخ - الإِمام - فيقفون جميعًا رجالاً ونساء - قائلين بصوات واحد : يا سميع ، احترامًا للأمير السيد عبد الله التنوخي ثم يجلسون ، وفي هذه اللحظة ينصرف الجهال ، كالقاتل والزاني والسكير وشارب التبغ .. وسواهم من المحرومين الذين لا يستحقون سماع الشرح .
على أن بعض هؤلاء الجهال يقف متأدبًا واضعًا كفيه تحت إبطيه ، ويكلم المشايخ بأدب وتواضع قائلاً : الله يمسيكم بالخير حضرات المشايخ ، فيجيبون : الله يمسيك بألف خير ، ثم يقول بذل وانكسار : نطلب الحلم وصفاء الخاطر من الله ومنكم ، العبد يخطيء والسيد يعفو . وهنا يتجه المشايخ إلى بعضهم قائلين . احلموا علينا وعليه يا مشايخ . وفي هذه اللحظة يأتي دور الإِمام وله أن يفوه بإحدى كلمتين : إما أن يسمح عن ذاك المستشفع قائلاً : تفضل اقعد ، وهذه معناها : السماح بحضور المرحلة الثانية فقط . وأما أن يقول : ما قدامنا وقدامكم إلا الخير ، وهذه معناها الإِصرار على إبعاده وعدم السماح له بالجلوس ، وهنا يخرج المستشفع خجلاً كسير النفس . وبعد خروجه تبدأ المرحلة الثانية ، فيقرأ الإِمام أو يكلف أحد الشيوخ بتلاوة شرح إحدى الرسائل المقررة ، وبعد الانتهاء من القراءة يقفون جميعا قائلين : يا سميع . وفي هذه الفترة يخرج الذين لا يجوز لهم حضور المرحلة الثالثة . وإذا طلب أحد هؤلاء السماح يبقى واقفًا متأدبًا مكررًا الكلمات السابقة ، وليس له إلا أحد الجوابين السابقين ، وقد يوكل أحد الشيوخ فيقف ويقول : هذا موقف المذنب التائب ، ويتكلم بالنيابة عن المستشفع وبنفس الجمل ، وهنا إما أن يجاب أو يرفض .
المرحلة الثالثة : ثم يتوجه الإِمام للمشايخ قائلاً : تفضلوا احلموا ، وهنا تبدأ قراءة الدور قراءة جماعية ، وكلهم يحفظ الدور الواجب تلاوته ، فيبدأون بالميثاق ، ثم بالرسائل المقررة لتلك الليلة ، ويجعلون شعر النفس ختامًا ، ويسجدون عند كلمة « هو الحاكم المولى ، بناسوته يرى ..» ويرفعون أيديهم مبتهلين ، ثم ينصرفون مرددين بعض الأدعية .
هذه الخلوات ، تشبه بعضها بعضًا ، وإن اختلف بناؤها باختلاف تقدم القرى أو تخلفها ، وفي مقدمتها من حيث التاريخ خلوات الزنبقية ، قرب كفر نبرخ بلبنان ، وإن فاقتها الآن خلوات البياضة « حاصبيا لبنان » وحلت محل الصدارة . أما الشيوخ الذين يقومون بإدارة تلك الخلوات ، فيتفاوتون ليس بالعلم أو الخدمة العامة ، بل بشهادات السلوك والمثابرة على الخلوات والزهد الذي قد يصل لدرجة رهبان البراهمة ؛ ذلك لأنهم يخالون العكوف على دراسة الرسائل كل شيء في العالم ، ولذا ضاق أفقهم ، وأصبحوا يستشهدون بما يتلهى به الأطفال كملحمة حسان التبعي .
وأولئك الشيوخ طبقات :
1 - طالبو الدخول بالمشيخة « البراني » أي الذين يعدون أنفسهم ليصبحوا شيوخًا .
2 - شيوخ المجالس السرية « الجواني » .
3 - شيوخ العقل .
أما الأزارقة - لابسوا الأزرق - فهم أضيق أفقًا من سواهم( ). ويتم إعداد رجال الدين في البياضة ، وكذلك في مقام النبي شعيب – عليه السلام - مدرسة دينية يتم فيها تدريس أمور الدين وإعداد الشباب للتمسك في دينهم ليصبحوا رجال الدين . ويشمل الإعداد الذكور والإناث ، فالمدرسة خاصة للذكور. وبالنسبة إلى الإناث يتم تعليمهن في القرى حيث توجد معلمات خاصات لذلك . يتم إعدادهن في الخلوات داخل القرى نفسها( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ