تابع تسميات قطنا - قطنا - 4
د- قطن وقطني قال ابن الأنباري في قول الناس « لا تَقُل له إلاّ كذا وكذا قَطْ » : « قط » معناه في كلام العرب : حَسْبُ - وطاؤها ساكنة - لأنها بمنزلة « هَلْ » و « بَلْ » و « أَجَلْ » . وكذلك : « قَدْ » ، يقال : قَدْ عبدَ الله درهمٌ ، وقَطْ عبدَ الله درهمٌ . يُراد بهما : حَسْبُ عبدَ الله درهمٌ ، أي : يكفي عبد الله درهم . ومَنْ خَفَضَ ، وأضافَ الحرفين إلى نفسه ، قال : قَدِي ، وقطي . ومن نصب بهما ، وأضاف إلى نفسه ، قال : قَدْني وقَطْني . قال أبو النجم :
امتلأ الحوضُ وقالَ قطني ... سَلًا رويدًا قد ملأتَ بطني
وقال الآخر: قَطْني من قتلِ الحُسَيْنِ قَطني ... ومن العرب من يقول : « قَطْن عبدَ اللهِ درهمٌ » ، فيزيد نونًا على « قط » ، وينصب بها ، ويخفض ، ويضيف إلى نفسه ، فيقول : قطني . ولم يُحْك ذلك في « قَدْ » ، والقياس فيهما واحد( ). وقَالَ : من العَرَبِ من يَقُولُ : « قَطْنَ عبدَ اللَّهِ دِرْهَمٌ » ، و « قَطْن عَبْدِ اللَّهِ دِرْهَمٌ » ، فيزيدُ « نُونًا » على : قَطْ عَبْدَ الله دِرْهَمٌ وينصِبُ بهَا وَيَخْفِضُ ويُضيفُ إِلَى نفسِهِ ، فيقولُ « قَطْنِي » ، وَلم يُحْكَ ذلكَ فِي « قَدْ » ، والقياسُ فيهمَا واحِدٌ . قَالَ ابنُ السّكّيتِ : الْقَطْنُ : فِي معنى « حَسْبُ » يُقَالُ : قطْنِي مِنْ كَذَا وكَذَا( ).
ونستخلص من هذا العرض أن قطنا قد تكون منحوتة من قطن بمعنى حسب أي تكفي ، وهذا يعني أنها تكفي ساكنيها ولا يحتاجون إلى غيرها ، فهي بزراعاتها المتنوعة وصناعاتها المتعددة وبمواردها تعتبر كافية لقاطنيها في العصور القديمة التي صاحبت نشأتها .
هـ- قال الله تعالى على لسان أحزاب الكفار : « وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ »( ) والقِطّ : الكتاب( ) ، وقال ابن حمدون : القط : الصحيفة والصك( ). وقال الشنقيطي : بين الله في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله : « وَإِذْ قَالُوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ، أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ »( )، وقوله : « وَقَالُواْ : رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ »( ) ، وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب : فمعنى « عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا »( ) ، أي نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، وجمعه القطوط ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله : يأفق أي يفضل بعضاً على بعض في العطاء( ). وقال الراغب الأصفهاني : القط : الصحيفة وهو اسم للمكتوب والمكتوب فيه ، ثم قد يسمى المكتوب بذلك كما يسمى الكلام كتابًا وإن لم يكن مكتوبًا ، وأصل القط : الشيء المقطوع عرضًا ، كما أن القدَّ هو المقطوع طولًا ، والقط : النصيب المفروز ، كأنه قط أي أفرز . وقد فسر ابن عباس - رضي الله عنه - الآية به ، وقط السعر : أي علا ، وما رأيته قط : عبارة عن مدة الزمان المقطوع به ، وقطني : حسبي( ). وقال ابن جزي : القط في اللغة له معنيان : أحدها : الكتاب ، والآخر : النصيب ، وفي معناه هنا ثلاثة أقوال : أحدهما نصيبنا من الخير : أي دعوا أن يعجله الله لهم في الدنيا ، والآخر : نصيبهم من العذاب ، فهو كقولهم : « فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء »( ) الثالث : صحائف أعمالنا( ). وقال الماوردي في تفسير الآية : خمسة تأويلات : أحدها : معنى ذلك عجل لنا حظنا من الجنة التي وعدتنا ، قاله ابن جبير . الثاني : عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي وعدتنا استهزاء منهم بذلك ، قاله ابن عباس . الثالث : عجل لنا رزقنا ، قاله إسماعيل بن أبي خالد . الرابع : أرنا منازلنا ، قاله السدي . الخامس : عجل لنا في الدنيا كتابنا في الآخرة وهو قوله « فأما من أوتي كتابه بيمينه ... وأما من أوتي كتابه بشماله »( ) استهزاء منهم بذلك . وأصل القط القطع ، ومنه قط القلم ، وقولهم : ما رأيته قط : أي قطع الدهر بيني وبينه ، وأطلق على النصيب . والكتاب والرزق لقطعه من غيره ، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالاً وأقوى حقيقة ، قال أمية بن أبي الصلت :
قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلح
وفيه لمن قال بهذا قولان : أحدهما أنه ينطلق على كل كتاب يتوثق به . الثاني : أنه مختص بالكتاب الذي فيه عطية وصلة ، قاله ابن بحر( ). وقال الجزائري : قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاء ، « ربنا عجل لنا قطنا »( ) : أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء ، وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء ، وإنما قالوا هذا استهزاء وعنادًا أو مكابرة( ). وقال ابن عاشور : حكاية حالة استخفافهم – أي أحزاب الكفار - بالبعث والجزاء وتكذيبهم ذلك ، وتكذيبهم بوعيد القرآن إياهم فلما هددهم القرآن بعذاب الله قالوا : ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب في الدنيا قبل يوم الحساب ، إظهار لعدم اكتراثهم بالوعيد وتكذيبه ، لئلا يظن المسلمون أن استخفافهم بالوعيد لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، فأبانوا لهم أنهم لا يصدقون النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وعيد حتى الوعيد بعذاب الدنيا الذي يعتقدون أنه في تصرف الله . فالقول هذا قالوه على وجه الاستهزاء وحكي عنهم هنا إظهار لرقاعتهم وتصلبهم في الكفر( ). وذهب السمرقندي إلى عكس هذا ، إذ قال : أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده - عليه الصلاة والسلام - من آمن لقولهم « ربنا » ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاءً لسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسألوا ربهم( ). وقال الشعراوي : وهنا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: لقد توعدتهم بالعذاب . ونحن نبطن العذاب بالإمهال لهم ، ولكنهم جعلوا من ذلك مناط السخرية والاستهزاء والتهكم ، وتساءلوا : أين هو العذاب ؟ ونحن نجد القرآن يقول على ألسنتهم . « وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب »( ). والقط : هو جزاء العمل ، وهو مأخوذ من القط أي : القطع . والعذاب إنما يتناسب مع الجرم ، فإن كانت الجريمة كبيرة فالعذاب كبير ، وإن كانت الجريمة صغيرة فالعذاب يكون محدودًا ، فكان العذاب موافقًا للجريمة . ومن العجيب أن منهم من قال : « اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ »( ). وجاء على ألسنتهم ما أورده القرآن الكريم في قولهم : « أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً »( ). ولا شك أن الإنسان لا يتمنى ولا يرجو أن يقع عليه العذاب ، ولكنهم قالوا ذلك تحديا وسخرية واستهزاءً . وشاء الحق -سبحانه وتعالى - ألا يعذب الكافرين المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلما عذب الكافرين الذين عاصروا الرسالات السابقة ؛ لأن الحق - سبحانه وتعالى - هو القائل : « وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ »( ). فضلاً عن أن هناك أناساً منهم ستروا إيمانهم ؛ لأنهم لا يملكون القوة التي تمكنهم من مجابهة الكافرين ، ولا يملكون القوة ليرحلوا إلى دار الإيمان بالهجرة ، وحتمت عليهم ظروفهم أن يعيشوا مع الكافرين . وهناك في سورة الفتح ما يوضح ذلك ، حين قال الحق سبحانه وتعالى : « هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ، وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ، لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ، لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً »( ). أي : لو تميَّز الكافرون عن المؤمنين لسلّط الحق سبحانه العذاب الأليم على الكافرين ، لكن لو دخل المسلمون بجيشهم الذي كان في الحديبية على مكة ، ودارت هناك معركة ، فهذه المعركة ستصيب كل أهل مكة ، وفيهم المؤمنون المنثورون بين الكافرين ، وهم غير متحيزين في جهة بحيث يوجد المسلمون الضربة للجانب الكافر. إذن : فلو ضرب المسلمون المقاتلون ، لضربوا بعضاً من المؤمنين ، وهذا ما لا يريده الحق سبحانه وتعالى( ).
ونخلص من العرض السابق أن قطنا ربما نحت اسمها في الأصل من لفظة « قِطِّنا » ثم حورت إلى اسمها المعروف ، بمعنى أنها حظ سكانها ونصيبهم ورزقهم ومنزلهم حيث يعتبرونها منحة وعطاء إلهية لهم ليعيشوا فيها ؛ أو لأن أحد الملوك القدماء منحهم أو أعطاهم إياها أحد الأمراء أو القادة جزاء أعمالهم ، ومكافأة على جهودهم ، وأنها مثل القطعة من القرطاس التي تكتب عليها الجائزة ، وأن ذلك الملك كتبها لهم في كتاب أو وثيقة أو صحيفة أو صك ، فصارت رقعتها ملكًا لهم وموطنًا وسكنًا بذلك ، لأن المانح لهم اقتطعها من أملاكه التي يملكها ، أو البلاد التي يحكمها ويسيطر عليها .
الاحتمال الرابع : ما ذكر في تسمية قرية قطنّة التي قرب القدس من احتمالات . من : أن اسم قطنة يرجع إلى جذر سامي مشترك « قَطَن » : بمعنى : صغر( ). وقد عرفت منطقة قطنة المذكورة بالكفيرة منذ العصر الحجري الثاني أيام الكنعانيين ، ولا تزال الكتب التاريخية والخرائط الأثرية تذكرها بهذا الاسم ، وذكرها الفرنجة بآثاكانا ، وتعود أسباب التسمية إلى سببين هما :-
1. نسبة إلى الرواية التي يتناقلها الناس فيما بينهم ، وهي أنه عندما سكن جد القرية قال : قَطَنّا بمعنى : سَكَنَّا ، فأطلق على هذا المكان قَطَنَّة .
2. نسبة إلى وادي قط ، فقَطَنَّة - بالفتح وتشديد النون - من قطن ، جذر سامي مشترك بمعنى : صغر . وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان فقال : قط : هو الأبد الماضي ، والقط : القطع ، وهو بلد بفلسطين بين الرملة وبيت المقدس( ). ومن أوديتها : وادي قط ، وادي اسمير ، وادي ميشة الحنون ، وادي الخرفيش ، وادي عين ناموس ، وادي عين السمرة ، وادي الحرفيش( ). ويبدو أن تسميتها أخذت من اسم وادي قط الآنف الذكر . وهنا يجب أن نميز بين قطنَّة - بتشديد النون - وقطنا - بدون تشديد النون - إذ أن الأخيرة مركز منطقة وادي العجم من أعمال محافظة دمشق في الجنوب الغربي منها( ). ويبدو أن العرب أشاروا إلى مثل معنى الصغر في كلامهم ، حيث قال ابن منظور : قَطَّنَ الكرمُ تَقْطيناً : بَدَتْ زَمَعاته( ) ، وفسر الزمعة بقوله : والزَّمَعةُ : الطلعة في نَوامِي كرم العنب بعدما يَصُوفُ ، وقيل الزَّمَعةُ : العُقْدة في مخرج العُنْقود ، وقيل : هي الحبة إِذا كانت مثل رأْس الدَّرّة . قال ابن شميل : والزَّمَعُ : الأُبَنُ تَخْرُجُ في مَخارِجِ العَناقِيد ، وأَزمَعَت الحَبَلةُ : خرج زَمَعُها وعظمت ودنا خروجُ الحُجْنةِ منها ، والحُجْنةُ والناميةُ شُعَبٌ ، فإِذا عظمت الزمعة فهي البَنِيقةُ ، وأَكْمَحَتِ البَنِيقةُ : إِذا ابْياضَّتْ وخرج عليها مثل القطن وذلك الإِكْماحُ ، والزَّمَعةُ : أَول شيء يخرج منه ، فإِذا عظُم فهو بنيقة . وقيل : الزمع العِنَبُ أَول ما يَطْلُع( ). قال الزبيدي : الزَّمَعة مُحرّكةً : هَنَةٌ زائدةٌ من وراءِ الظِّلْف . أو هَنَةٌ شِبهُ أظفارِ الغنَمِ في الرُّسْغ في كلِّ قائمةٍ زَمَعَتان كأنّما خُلِقَتا من قِطَعِ القُرون . أو هي الشَّعَراتُ المُدَلاَّةُ في مُؤَخَّرِ رِجلِ الشاةِ والظَّبْيِ والأرنبِ . والزَّمَعة : التَّلْعَة ، أو هو دون الشُّعْبة ، والشُّعبة : دون التَّلْعة . والزَّمَعة : أصغرُ من الرِّحابِ ، بين كلِّ رَحَبَتَيْن زَمَعَة تَقْصُرُ عن الوادي ، أو تَلْعَةٌ صغيرةٌ ، وهي ما دون مَسايلِ الماءِ من جانبِ الوادي ليس لها سَيْلٌ قريبٌ . ومنه زَمَعَاتِ قُرَيْش أي : لَسْتَ من أَشْرَافِهم . أو القَرارَةُ من الأرضِ . قال الليثُ : الزَّمَع مُحرّكةً : مَسايلُ صغيرةٌ ضَيِّقَةٌ . والزَّمَع : رُذالُ الناس يقال : هو من زمَعِهم أي مآخيرِهم وأتْباعُهم بمَنزلةِ الزَّمَعِ من الظِّلْفِ . والزَّمَع : الشَّعَراتُ خَلْفَ الثُّنَّة . والزَّمَع : السَّيْلُ الضعيف . والزَّمَع : أُبَنٌ تكونُ في مَخارجِ عَناقيدِ الكَرْم . يقال : بَدَتْ زَمَعَات الكَرْم . وهو مَجاز قاله ابنُ شُمَيْلٍ . وقيل : الزَّمَعة : العُقدَةُ في مَخْرَجِ العُنقودِ وقيل : هي الحَبّةُ إذا كانت مِثلَ رَأْسِ الذَّرَّة( ). وهذا المعاني كلها تدور حول صغر الشيء لاسيما أول ظهور أمره .
3. ويؤكد تلك التسمية ما أوردناه سابقًا في تسمية مملكة قطنة القديمة العمورية قرب حمص بأنها بمعنى : الصغيرة أو الرفيعة . وذلك لأنها كانت في أول عهدها – فيما يبدو - مملكة صغيرة بين ممالك جيرانها الأقوى منها ، لذلك اضطرت إلى عقد التحالفات مع بعض هؤلاء الجيران الأقوياء وإقامة علاقات صداقة مع بعضهم الآخر بغية الوصول إلى التوازن الدولي للحفاظ على وجودها واستقلالها . فمثلاً للدلالة على ذلك تم تسليط الأضواء على أخبار قطنة في فترة العهد البابلي القديم « البرونزي الوسيط أثريًا » . ففي ذاك العهد شهدت المنطقة تحولات كبرى ، فقد برز العموريون « الأموريون » بشكل واضح قوة سياسية موزعة في مناطق متعددة من بلاد الرافدين ومناطق الفرات والخابور وسورية الداخلية . كما بزغ نجم شمشي أدّو الأول العموري « 2506- 2473ق.هـ »( ) في آشور مركز إمبراطوريته القوية التي امتدت نحو الغرب ، وصارت تشرف على شؤون مناطق مثلث الخابور والجزء السوري من الفرات من مركزيها الأساسيين هناك « شُبَت إنليل ، وماري » ، كما كانت تمارس الرقابة على المناطق البعيدة غرب الفرات ، ونشطت في عهده تجارة الشمال الرافدي مع مناطق الأناضول وساحل البحر المتوسط . ولقد أدرك حاكم آشور أهمية كسب ودّ حكام قطنة لضمان طرق القوافل التجارية المتجهة نحو الساحل السوري عبر البادية السورية ، وكذلك لمراقبة تحركات ملوك يمحاض « يَمْخَد » في حلب الذين كانوا يحاولون إعلاء شأن مملكتهم . وقد تحقق له ذلك كله ، وانعكس في رسائل تبادلها مع ابنه يسمع أدّو الحاكم في ماري ، وفي الرسائل المتبادلة بين يسمع أدّو وأشخي أدّو ملك قطنا ، وكذلك في رسائل موظفين كبار أو ولاة إلى يسمع أدّو . هذه الرسائل المكتشفة في ماري ـ إضافة إلى وثائق اقتصادية من ماري أيضاً ـ تشكل المصدر الرئيس لأخبار قطنة وحكامها في العهد البابلي القديم ، تحديداً في القرن الخامس والعشرين قبل الهجرة( ). وتشير الوثائق إلى ارتباط وثيق بين قطنة وإمبراطورية شمشي أدّو من خلال العلاقة المتينة مع ماري . كان كلا الطرفين بحاجة إلى الآخر، فموقع قطنة المتميز يفيد سياسة شمشي أدّو وحرصه على ألاّ يعلو شان ملوك يمحاض « يمخد - حلب » الذين آووا زيمري ليم الفار من ماري ، ويحّد من طموحهم إلى إعادة زيمري ليم إلى العرش ، ومدّ نفوذهم إلى المناطق الشرقية . بالمقابل كانت قوة شمشي أدّو المتعاظمة واتساع امبراطوريته تغري حكام قطنة بالاحتماء به ، والتحالف معه لضمان الحماية من الخطر اليمحاضي على مملكتهم الصغيرة . وتشير الوثائق إلى مرابطة قوات عسكرية من ماري والمناطق التابعة لها في قطنة بهدف حمايتها من أي خطر خارجي مباغت ، وتذكر أسماء قواد تلك القوات وأخبارهم وتحركات جندهم ، وأبرزهم : سومو نيخيم Sumu-niḫim ، زيمري إيلو Zimri-ilu ، سامي داخوم Sami-Daḫum « انظر مثلاً ARM I 11, 13, 20» . ففي رسالة من شمشي أدّو إلى ابنه يسمع أدّو «ARM I, 23» يطلب فيها منه أن يرسل بضع مئات من جنود ضفاف الفرات aḫ purâttim إلى قطنة . وفي رسالة أخرى « ARM II, 5 » يطلب منه أن يرسل جنوداً ومائة من البدو الخانيين بقيادة زيمري إيلو Zimri-ilu إلى قطنة ليعسكروا هناك وينضموا إلى جند سومو نيخيم Sumu-nihim بانتظار تنفيذ أوامر يسمع أدّو . ولم يكن حاكم قطنة يتردد في طلب العون من يسمع أدّو ، ففي رسالة إليه « ARM V, 16» يحثه على الإسراع بالسير نحو قطنة ليقودا معاً حملة مشتركة ضد مدن ثلاث تثير الفوضى في المنطقة ، يقول فيها له : « إنها مدن غير قوية ، وسنتمكن من احتلالها في أول يوم . أسرع ، تعال نحتلها ، دع جندك يفوزون بالغنائم ، إذا كنت أخي فتعال بسرعة » . كذلك يعبّر له في رسالة أخرى « ARM V, 17» عن قلقه من الأخبار التي تناهت إليه ، وتشير إلى تحالف سومو إبوخ Sumu-Ebuh اليمحاضي مع حكام آخرين « ربما كانوا حوريين كما تشير أسماؤهم وهي نوزو Nûzû ، ماموكاتيشّا Mamu-katissa » ، يقول له فيها : « سواء أكان كلام سومو إبوخ وتهديده صادقاً أو مجرد كلام فأسرع ، واكتب إليّ رأيك ... ليت قلبي يعلم رأيك ، ليت أذنيّ تصغيان إليه » . ومن أشكال ذاك التحالف زواج يسمع أدّو من بلتوم Bēltum ابنة أشخي أدّو ملك قطنة ، فهو لم يتحقق نتيجة رغبة شخصية من يسمع أدّو ، وإنما حثّ عليه أبوه ، إذ كتب له قائلاً : « لتأخذ ابنة أشخي أدّو زوجةً . بيت - بمعنى : سلالة ، حكم .. - ماري له اسم - أي شأن - وبيت قطنة له اسم » . ثم يبدي سخاءه ، ويخصص لهذا الزواج مهراً قدره خمسة تالنتات « حوالي 145 كغ » من الفضة ، ومائة ثوب « ARM I, 77» . وقد كان هدفه الأساسي من ذلك الوصول إلى رباط اجتماعي وسياسي يوفر عوامل الثقة والاطمئنان . وقد كان هذا التعاون الوثيق يحّد من تطلعات سومو إبوخ ملك يمحاض وقدراته ، ويحقق لملك قطنة شأناً ومكانة لم تكن له إلا بفضل دعم شمشي أدّو وحلفائه سياسياً وعسكرياً . ولعل الرسالة التالية التي أرسلها شمشي أدّو إلى ابنه حاكم ماري تصوّر ذلك أوضح تصوير « ARM I, 24» . فهو يطلب فيها منه أن يكتب إلى أشخي أدو ويعلمه على لسانه بالتالي : « لقد اجتمعت فيما مضى مع حاكم خاشوم Hassum وحاكم أورشوم Ursum وحاكم كركميش Karkamis . هكذا قلت لهم : سوف أفحص كلام سومو إبوخ ، إذا حشد العدو قواته دعونا نواجهه ... » ثم يقول : « لقد أعلنوا أمامي إنهاء علاقتهم مع سومو إبوخ « حرفياً : نفضوا أيديهم أمامي من سومو إبوخ » ، وأرسل حاكم خاشوم قواته إليّ وهي الآن تحت إمرتي ، أما حاكم أورشوم فقد طلب مني ألف مقاتل فأعطيته ألفين ، وقد استلمهم . فلتنطلق ، ولتأخذ سومو إبوخ أسيراً ، وتعزله عن الحكم » . وفي الفترة اللاحقة ، فترة عودة زيمري ليم إلى عرش ماري « 1774ـ 2/1763ق.م » وانتقال الحكم في قطنة إلى أموت بي إيل Amut-pî-El برزت معطيات سياسية جديدة صرفت زيمري ليم عن إعادة الحساب مع قطنة، واستمرت علاقات ماري معها جيدة ، فقد كانت قطنة قد امتلكت القوة أكثر من ذي قبل ، وصار ملكها يعدّ واحداً من كبار ملوك تلك الفترة ، ففي رسالة إلى زيمري ليم يذكر إيتور أسدو Itūr-Asdu حاكم ناخور Nahur أن كبار ملوك المنطقة قد اجتمعوا في شرمانخ Šarmaneh ، ومنهم حمورابي ملك بابل ، وريم سين ملك لارسا ، وإيبال بي إيل ملك أشنونا ، وإموت بي إيل ملك قطنة ، وياريم ليم ملك يمحاض . ومن ناحية أخرى كان زيمري ليم يحرص على توطيد حكمه ، وضمان صداقة جيرانه في الغرب لمواجهة الأخطار المهددة في الشرق ، فقد برز خطر عيلام وأشنونا ، وشعر زيمري ليم بوجود اتصالات خفية بين عيلام وقطنة كما تشير بوضوح رسالة خامّي شاكيش Hammi-Šagiš ـ أحد كبار موظفي القصر ـ إليه ، يعلمه فيها بالتالي : « لقد عبر رسول حاكم عيلام إلى حلب ، وعندما وصل إيمار أرسل اثنين من أتباعه إلى قطنة . فلما سمع حمورابي « ملك بابل » بذلك أرسل جنداً إلى المنطقة الحدودية . وقبضوا على الرجلين عند عودتهما . وعندما حققوا معهما أقرّا أن حاكم قطنة أرسل معهما إلى سيدهما الخبر التالي : « البلاد ممنوحة لك ، تعال إلي ، إذا قَدِمْتُ فلن نختلف » . ثم يعلم سيده زيمري ليم بأن حاكم قطنة قد أرسل رسلاً إلى عيلام ، ويطلب منه : « ليت سيدي يتخذ قراراً ، ويكتب إلى حاكم بابل طالباً منه ألا يدع هؤلاء الرسل يتجاوزون بلاده » . وكذلك رسالة ياسيم سومو Yasim-Sūmu التي ينقل فيها إليه تأكيد أبلاخندا Aplahanda حاكم كركميش على التعاون معه في مراقبة الوضع « ARM XIII, 46 » . يقول فيها : « كتبت إلي مستفسراً ، وجهت سؤالك إلى أبلاخندا حاكم كركميش ، استفسر عن الأمر وأفادني في اليوم التالي بأنه لا علم لديه عن أية قوات عيلامية عبرت بلاده إلى قطنة ، وقال : إذا صح ذلك فسأعترض طريقها عند عودتها ، وأحضرها إلى ماري » . وكانت يمحاض على اتفاق تام مع ماري ، تؤجل إثارة الصراع مع قطنة ، وتلزم الهدوء حرصاً على مصلحة ماري . ووصل الأمر بياريم ليم الأول ملك يمحاض إلى درجة أبدى فيها رغبته في حل الخلاف الذي طال مع قطنة ، ولكن بشرط أن يحضر أموت بي إيل إلى حلب ، وأن يتبادلا التعبير عن النوايا الحسنة ثم يؤديا القسم الإلهي ؛ فتعقد اتفاقية سلام بينهما . وكانت ماري هي المرشحة للتوسط في إنهاء هذا الخلاف كما رأى حمورابي ملك بابل . وقد بقيت علاقات قطنة وماري ودية حتى انتهاء عهد زيمري ليم ودمار ماري ، ولا تشير الوثائق إلى حل نهائي لخلافهما مع يمحاض( ).
وفي ختام هذه الجولة نرى أن اسم « قطنا » هو الاسم الأصلي لها منذ إنشائها - على الأرجح – مما ذكرناه من أقوال للقرائن والأدلة والبراهين والاستنتاجات التي أتينا على ذكرها في هذا البحث من بدايته إلى هنا ، والله أعلم .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ