15- الخامس عشر : - ومن تلك الاحتمالات لهذه التسمية " الأسرار الغريبة ، والعلوم اللدنية العجيبة ، والمصطلحات الغامضة ، والرموز والإشارات " التي يتداولها الصوفية – ومنهم الشيخ حسن الراعي - في مجالسهم ، والأعمال الغريبة التي يقومون بها مما لا عهد للناس بها من قبل ، والأذكار الجديدة المحدثة من رجالات التصوف الكبار، وطرائق التربية الغريبة التي ابتدعوها ، والمعارف التي أظهروها مما لم يكن مألوفًا للناس قبل ذلك . ولعل هذا الاستغراب من الناس لكل ذلك هو الذي جعلهم يطلقون عليهم تسمية "المغاربة " والغرباء " – ومنهم الشيخ حسن الراعي - ، لأنهم يأتون بالغرائب والأمور العجيبة الخارقة للعادة " الكرامات " والأمور الغيبية التي لا مجال للعقل البشري فيها ، كما يتكلمون على بعض ما يظهر لهم من مكاشفات لبعض الناس وأسرارهم عن طريق الفراسة والكهانة والاتصال بالجن وغيرها. ويؤيد ذلك ما نقله محيي الدين بن عربي عن بعضهم قوله : غرائب الأمر عند الغرباء( ) . وكذلك قول الشعراني : والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان ، صار غريبًا في الأكوان( ) ، السالف ذكرهما . ويشهد لهذا الأمر من اللغة قول العرب : الغَريبُ : الغامض من الكلام ، وغربت الكلمة غرابة ، وصاحبه مُغْرِبٌ( ).وَالْخَبَر المُغرِب : الَّذِي جَاءَ غَرِيبًا حَادِثًا طَرِيفًا ، وأغربَ الرجُلُ إغراباً : إِذا جاءَ بأَمْرٍ غريبٍ ، وأغرَبَ فِي مَنطقِهِ : إِذا لم يبْق شَيْئا إلاَّ تكلم بِهِ( ) ، وَقَالُوا : هَل أطْرَفَتْنا من مُغَرِّبَة خبرٌ ، أَي : من خبر جَاءَ من بُعد ، وَقيل : إِنَّمَا هُوَ : هَل من مُغَرِّبةِ خَبَرٍ . وَقَالَ يَعْقُوب : إِنَّمَا هُوَ : هَل جاءتك مُغَرِّبةُ خّبَرٍ، يَعْنِي الْخَبَر الَّذِي يَطرأ عَلَيْك من بلد سوى بلدك . وَقَالَ ثَعْلَب : مَا عِنْده من مُغرِّبة خَبَرٍ ، تستفهمه أَو تنفي ذَلِك عَنهُ ، أَي : طريفة( ).
16- السادس عشر :- ومن الاحتمالات لتسميتهم بالمغاربة انقطاعهم عن أصولهم وبعد أنسابهم ، وانقطاعهم عن أهلهم وأوطانهم ، ومداخلة من ليس من جنسهم ولا طباعهم وشكلهم كالجن ، واستخدامهم لهم كاستخدام السحرة ، ولا تزال كلمة مغربي في بلاد الشام تستخدم لمن يدل على الكنوز والمخبآت ويقوم بأعمال السحر والكهانة والشعوذة وغير ذلك ، كما يتصف بالدهاء والخبث والمكر وإن لم يكن منهم فعلاً ، فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت : « قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: هل رُئِيَ - أو كلمةً غيرها - فيكم المُغَرِّبون ؟ قلت : وما المُغَرِّبون ؟ قال : الذين يشترك فيهم الجِنّ »( ) . قال الشارح : " المغرِّبون " إنما سمي هذا النوع من الناس مغرِّبين لانقطاعهم عن أصولهم وبُعْد أنسابهم ، وأصل الغرب : البعد ، ومنه قيل : عنقاء مغرب ، أي : جائية مِنْ بُعد ، ومنه سمي الغريب غريباً ؛ وذلك لبعده عن أهله وانقطاعه عن وطنه فسمي هؤلاء الذين اشترك فيهم الجن مغرِّبين لما وجد فيهم من شبه الغرباء بمداخلة من ليس من جنسهم ، ولا على طباعهم وشكلهم( )، وقِيلَ: سُمُّوا مُغَرِّبِينَ ، لأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِمْ عِرْقٌ غَرِيبٌ( ) . وقال القاري : "هَلْ رُئِيَ " بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " فِيكُمْ " : أَيْ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ ، وَغَلَّبَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ ، وَالْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : « يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ »( ) غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْأَنْعَامِ الْغُيَّبِ ، وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَوْقِيفٍ وَتَشْبِيهٍ ، وَهَلْ بِمَعْنَى قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ خَاصَّةً ، قَالَ تَعَالَى : « هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ »( ) الْكَشَّافُ : أَقَدْ أَتَى عَلَى التَّقْرِيرِ جَمِيعًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ ، وَقَوْلُهُ : "الْمُغَرِّبُونَ ؟ ": بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ الْمُبْعِدُونَ ، وَلَمَّا كَانَ لِلتَّبْعِيدِ مَعْنًى مُجْمَلٍ مُبْهَمٍ احْتَاجَتْ إِلَى بَيَانِهَا فَقَالَتْ : « قُلْتُ : وَمَا الْمُغَرِّبُونَ ؟ » : وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّغْرِيبَ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَقُلْ : وَمَنِ الْمُغَرِّبُونَ ؟ فَأَجَابَ : بِأَنَّ التَّغْرِيبَ الْحَقِيقِيَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ اشْتِرَاكُ الْجِنِّ . « قَالَ : الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمُ الْجِنّ » أَيْ فِي نُطَفِهِمْ أَوْ فِي أَوْلَادِهِمْ لِتَرْكِهِمْ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْوِقَاعِ ، فَيَلْوِي الشَّيْطَانُ إِحْلِيلَهُ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ . قَالَ تَعَالَى : « وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ »( ) فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: « إِذَا خَالَطَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَقُولَ : « بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا »( )، فَإِذَا تُرِكَ هَذَا الدُّعَاءُ أَوِ التَّسْمِيَةُ شَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوِقَاعِ ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَلَدُ مُغْرِبًا لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ عِرِقٌ غَرِيبٌ ، أَوْ جَاءَ مِنْ نَسَبٍ بَعِيدٍ ، وَقِيلَ : أَرَادَ بِمُشَارَكَةِ الْجِنِّ فِيهِمْ أَمْرَهُمْ إِيَّاهُمْ بِالزِّنَا وَتَحْسِينِهِ لَهُمْ ، فَجَاءَ أَوْلَادُهُمْ مِنْ غَيْرِ رُشْدِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ وَأَصْنَافَ الْكِهَانَةِ( ) . وَفِي فَتْحِ الْوَدُودِ : الْمُغَرِّبُونَ - بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ - قِيلَ : أَيِ الْمُبْعَدُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْوِقَاعِ حَتَّى شَارَكَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ ، وَقِيلَ الْمُغَرِّبُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَنْ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْإِنْسَانِ وَالْجِنِّ ، وَهَذَا مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ عِرْقٌ غَرِيبٌ ، أَوْ جَاءَ مِنْ نَسَبٍ بَعِيدٍ ، وَقَدِ انْقَطَعُوا عَنْ أُصُولِهِمْ وَبَعُدَ أَنْسَابُهُمْ بِمُدَاخَلَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِمْ . َقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « هَلْ تُحِسُّ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ أَنَّ الْجِنَّ تُجَامِعُهَا ". وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ يَعْشَقُ لَهَا بَعْضُ الْجِنِّ وَيُجَامِعُهَا( ) .
17- السابع عشر :- ومنها أن لفظ المغربي مفرد : المغاربة ، هو اسم من أسماء الصوفية أطلقه أهل خراسان عليهم ، قال ابن تيمية : « وقد كان للزهاد عدة أسماء : يسمون بالشام " الجوعية " ويسمون بالبصرة " الفقرية " و " الفكرية " ، ويسمون بخراسان " المغاربة " ، ويسمون أيضًا " الصوفية " و " الفقراء "( )» ولعل سبب تسمية أهل خراسان لهم بالمغاربة يعود إلى عدة احتمالات ، منها ما بيناه سابقًا ، ومنها قدوم عدد من طلبة المغاربة إلى المشرق - ومنه خراسان - لطلب العلم واختلاطهم بالصوفية وأخذهم منهم ، فمن ذلك ما ذكره ابن تيمية قال : « أبو إسماعيل الأنصاري( ) : سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقاً يذكرون شدة أبي حامد - يعني الإسفرايني( ) - على ابن الباقلاني( ) ، قال : وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد : إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني ، قال : وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول : سمعت أبي يقول : لعن الله أبا ذر الهروي( ) ، فإنه أول من حمل الكلام( ) إلى الحرم ، وأول من بثه في المغاربة . قلت – أي ابن تيمية -: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به ، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة ، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم ، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم ، كأبي نصر السجزي( ) ، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني( ) وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين لما ليس هذا موضعه ، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي( ) والثقفي( ) على طريقة ابن خزيمة( ) وأمثاله من أهل الحديث ، وأهل المغرب كانوا يحجون ، فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها ، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق ، كما رحل أبو الوليد الباجي( ) فأخذ طريقة أبو جعفر السِّمناني( ) الحنفي صاحب القاضي أبي بكر ، ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي( ) فأخذ طريقة أبي المعالي( ) في الإرشاد . ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف ، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين ، وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم ، لما لهم من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم ، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ، وخيار الأمور أوساطها . وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات( ) : « ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم »( )» . وهذا يعني أن كثرة طلبة العلم من المغاربة الذين قدموا على شيوخ المشارقة لتلقي العلم والتصوف عنهم وملازمتهم لهم فترات زمنية طويلة هو سبب من أهم الأسباب في إطلاق لفظة " المغاربة " على الصوفية لنقلهم عنهم العلم والتصوف ، وتزييهم بزيهم ، واتباعهم لمناهجهم في زهدهم وورعهم وتقشفهم ورياضاتهم ، وسيرهم على نفس السبل والوسائل في تربية أتباعهم ومريديهم .
18- الثامن عشر :- ومنها أن الجيش العباسي منذ عهد الخليفة المعتصم بالله كان مكونًا من ثلاثة أجناس : العرب ، والمغاربة ، والأتراك( ). فما المقصود بالمغاربة في الجيش العباسي ؟ قال ابن الأثير شارحًا ذلك : « وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ قَدِ اصْطَنَعَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَوْفِ بِمِصْرَ ، وَاسْتَخْدَمَهُمْ وَسَمَّاهُمُ الْمَغَارِبَةَ ، وَجَمَعَ خَلْقًا مِنْ سَمَرْقَنْدَ ، وَأُشْرُوسَنَّةَ ، وَفَرْغَانَةَ ، وَسَمَّاهُمُ الْفَرَاغِنَةَ " يقصد الأتراك " ، فَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَبَقُوا بَعْدَهُ »( ). وإطلاق المعتصم والعراقيون لفظ " المغاربة " على المصريين لأنهم جاؤوا بهم من جهة الجنوب الغربي بالنسبة إليهم وهذا واضح ، ومن المحتمل أن الشيخ حسن الراعي قد شارك في الجهاد الإسلامي في تلك الفترة في بعض الحملات التي أرسلها نور الدين محمود زنكي لحماية مصر من الوقوع في قبضة الصليبيين بقيادة " أسد الدين شيركوه " وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي " يوسف بن أيوب "، وتوحيدها مع بلاد الشام ، ليمهد بذلك الطريق لتحرير ما يحتلونه من بلاد الشام ، ولتخليص القدس من براثنهم التي أطبقوا بها عليها ، وهذا الاحتمال كبير جدًا لسببين : أولهما رفع نور الدين لراية الإسلام والتزامه به اعتقادًا وفكرًا وسلوكًا وتطبيقه له بشموله وجميع جوانبه في واقع المجتمع الإسلامي الذي يحكمه في بلاد الشام وغيرها في كل نواحي الحياة ، وغيرته عليه غيرة حمده الناس عليها ، فأحبوه وسارعوا إلى مساعدته في تحمل مسؤولية الأمانة التي حملها في نصرة الإسلام وأهله ، والدفاع عن حرماته ومقدساته ، وقيامه بنشر السنة وإماتة البدعة ومنها أذان الرافضة بحي على خير العمل( ) . وثانيهما : أن معظم جيشه كان من أتباع الطريقة الرفاعية والقادرية( )وغيرهما ، ولما كان الشيخ حسن الراعي هو خليفة الشيخ أحمد الرفاعي في بلاد الشام كلها ، فلا بد أنه قام أمام أتباع هذه الطريقة بجهد واضح ملموس في مجال تربية الأتباع وتوجيههم وإرشادهم دينيًا ، وحضهم على الجهاد في سبيل الله والاستبسال في ميادين القتال ، وخرج مع الجيوش والحملات العسكرية ، وشارك في القتال إلى جانب إخوانه ، وهذا ما جعل الصليبيين بعد هزيمتهم النكراء في موقعة حطين وتحرير القدس من براثنهم يصبون جام غضبهم على كثير من المواقع التي احتلوها ومنها قطنا بلد الشيخ حسن الراعي وموطنه وتدميرها ، وقتل وإبادة سكانها قبل انسحابهم منها ، فكانت جريمتهم هذه إحدى الجرائم التي أضيفت إلى سجلهم الإجرامي الدامي في تاريخ بلاد الشام في قتل الناس العزل غير المحاربين نساء ورجالًا ، شيوخًا وأطفالاً بدون استثناء ، وبلا شفقة ولا رحمة ولا تأنيب ، ولا رادع من ضمير أو أخلاق ، ولا مراعاة لعهود ومواثيق( ) ، قال تعالى : « كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ »( ) ولا أدل على ذلك من وجود عدة زوايا لا تزال تحمل اسمه عاليًا في طول بلاد الشام وعرضها ، لاسيما أن نور الدين قد أظهر اهتمامه الشديد وحبه لـ" العلماء والفقراء – أي الصوفية - "( ) والعباد والزهاد وكان " يكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم "، وجعل مجلسه لا يخلو منهم أبدًا ، لا بل قرر قراءة كتاب " إحياء علوم الدين " لأبي حامد الغزالي( ) أحد كبار رجال الصوفية في عصره ، على الناس وليس على الصوفية فحسب ، وأقام العدل وأمات الظلم ، قال ابن الأثير: « لَمْ يَكُنْ بَعْدَ عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ »( )، وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي من بعده ، فكان خير خلف لخير سلف ، ثم لما عاد الشيخ حسن منها ، وذهب إلى العراق أطلق عليه هذا اللقب ، تشبيهًا له بأولئك الذين استقدمتهم الدولة العباسية من مصر وأطلقت عليهم هذا اللقب . أو لأن ملامحه الجسمية تشبه المصريين الذين أطلق عليه هذا اللقب .
19- التاسع عشر :- من المحتمل أن يكون تلقيب الشيخ حسن الراعي بالمغربي اتباعًا لشيخه أحمد الرفاعي المغربي حسبًا لا نسبًا ، وذلك مثل تلقيبه بالرفاعي كما سيأتي بيانه في موضعه ، وذلك لاقتدائه به في جميع أموره ، ولاتباعه طريقته في الوصول إلى الله تعالى ، وهي طريقة الذل والانكسار بين يدي الله تعالى ، وهي التي وصفها شيخه الرفاعي بقوله : « أَقْرَب الطَّرِيْق : الانْكِسَار وَالذّلّ وَالافْتِقَار؛ تُعظِّم أَمر الله ، وَتُشفق عَلَى خلق الله ، وَتَقتدِي بِسُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »( ).
20- العشرون :- استخفاف بعض الناس بالمغاربة ، وإطلاق هذا اللقب على بعض الناس بقصد تنقصهم والحط من شأنهم والغض من مكانتهم الاجتماعية ، ولا سيما الأوربيين – ومنهم الصليبيين – الذين استولوا آنذاك على أجزاء واسعة من بلاد الشام ومنها بيروت ، فسرت هذه الروح منهم إلى أهل بيروت ، وفي أحيان أخرى بقصد الإعجاب بهم لما أظهروه من نبوغ وتفوق ، وما قدموه للمجتمع من أعمال صالحة خلدت ذكرهم . ومن هذا القبيل ما جاء في وصف هذا المصطلح في " الموسوعة الحرة " بأنه : مصطلح ذو استخدام شعبي وعا مي ، وتحقير في بعض الأحيان ، يطلق من دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي واضح ، على كل سكان شمال أفريقيا . ولا تستخدم كلمة مورو " المغاربة " دائما بطريقة مهينة ، فحسب السياق الذي تعرض فيه ، يمكن أن تحمل معنى إيجابي أو حتى بطريقة معجبة . ويستعمل الغرب اسم المورو للدلالة على الشعوب "السمراء" الشمال أفريقية ، الذين اشتركوا مع المسلمين في غزو إسبانيا أو استيطانها . ولاحقًا عمم الغرب استخدام الكلمة ، فقد أطلقها الأوروبيون على كل مسلم في إسبانيا حتى لوكان أسباني الأصل ، ثم امتد استعمال تلك الكلمة ليطلق على كل مسلم ، خاصة عند الإسبان . ومصطلح "مورو" في العامية الإسبانية في بعض الأحيان تستعمل بشكل انتقاصي يشير إلى اي دولة عربية . وبالمثل ، في العامية البرتغالية مصطلح "مورو" يستخدم كمصطلح غضاضة من جانب المواطنين من شمال البرتغال للإشارة إلى سكان المناطق الجنوبية من البلاد( ) . وربما هذا أحد الاحتمالات في نسبة الشيخ حسن الراعي ، ففي بداية أمره كغريب في بيروت قد يكون تعرض لشيء من الاستخفاف والتحقير ، ولكن لما ظهر أمره وطار ذكره وعلا شأنه تغيرت نظرتهم إليه ، فأعجبوا به أشد العجب ، لذا أطلقوا عليه لفظ " المغربي " تعبيرًا عن ذلك الشعور المزدوج الذي تملكهم ، واستولى على مشاعرهم وعواطفهم تجاهه .
21- الحادي والعشرون : ومن الاحتمالات لتلقيب الشيخ حسن الراعي بالمغربي تشبيهًا لسعة علمه بسعة الدلو الكبيرة العظيمة التي تروي العدد الكثير من الناس . فالغَرْب في اللغة : دلْوٌ عَظِيمَة من مسك ثَوْر ، مُذَكّر ، وَجمعه : غرُوب( ) . وقد مر معنا سابقًا حديث رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ »( ) وتفَسيرابْنُ الْمَدَائِنِيِّ الغَرْبُ : هُنَا بالدَّلْوُ ، وأنه أَراد بِهِمُ العَرَبَ لأَنهم أَصحابها ، وَهُمْ يَسْتَقُونَ بِهَا( ). وَالْغَرْبُ مِثْلُ فَلْسِ : الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ يُسْتَقَى بِهَا عَلَى السَّانِيَةِ( ).
22- الثاني والعشرون : ومن الاحتمالات لتلقيبه بهذا اللقب هو تشبيهه في جودة تدينه ، ونفاسة علمه ، وتعلق الناس بدعوته ، واستجابتهم لطريقته بالذهب والفضة ، هذان المعدنان الثمينان الغاليان اللذان تتطلع إليهما أنظار الناس ، وتتعلق بهما أفئدتهم لامتلاكهما ، والتجمل والتحلي بهما ، والاحتفاظ بهما لقضاء الحاجات ونوائب الدهر؛ فالغَرَب في اللغة : الذَّهَب ، وَقيل : الْفضة . وَقيل : جَام من فضَّة( ) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ ؟ قَالَ : « أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ » قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : « فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ » قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : « فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ النَّاسُ مَعَادِنُ ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا »( ) ، وفي رواية : « النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ، وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ »( ). قَال العيني : « معادن » ، أَي : كمعادن ، والْحَدِيث الآخر يُوضحهُ : النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة ، وَوجه التَّشْبِيه اشْتِمَال الْمَعَادِن على جَوَاهِر مُخْتَلفَة من نَفِيس وخسيس ، كَذَلِك النَّاس من كَانَ شريفاً فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إلاَّ شرفاً ، فَإِن تفقه وصل إِلَى غَايَة الشّرف ، وَكَانَت لَهُم أصُول فِي الْجَاهِلِيَّة يستنكفون عَن كثير من الْفَوَاحِش . قَوْله : « إِذا فقهوا » يَعْنِي : إِذا فَهموا أُمُور الدّين ، وَالْفِقْه فِي الأَصْل الْفَهم ، يُقَال : فقه الرجل ، بِكَسْر الْقَاف ، يفقه ، بِفَتْحِهَا إِذا فهم وَعلم ، وَفقه يفقه بِضَم الْقَاف فيهمَا : إِذا صَار فَقِيهًا عَالمًا ، وَقد جعله الْعرف خَاصّا بِعلم الشَّرِيعَة ، وتخصيصاً بِعلم الْفُرُوع مِنْهُمَا( ). وقال القاري : « النَّاسُ مَعَادِنُ » : جَمْعُ مَعْدِنٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مُسْتَقِرُّ الْأَخْلَاقِ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ « كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ » : وَغَيْرِهِمَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَدْنَى ، فَمَنْ كَانَ اسْتِعْدَادُهُ أَقْوَى كَانَتْ فَضِيلَتُهُ أَتَمَّ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فِي مَعَادِنِ الطِّبَاعِ مِنْ جَوَاهِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَخْرَجَ بِرِيَاضَةِ النُّفُوسِ كَمَا تُسْتَخْرَجُ جَوَاهِرُ الْمَعَادِنِ بِالْمُقَاسَاةِ وَالتَّعَبِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الْمَعْدِنُ الْمُسْتَقِرُّ مَنْ عَدَنْتَ الْبَلَدَ إِذَا تَوَطَّنْتَهُ ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ ، وَمَعَادِنُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ إِلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ كَقَوْلِكَ : زَيْدٌ أَسَدٌ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ بَدَلًا مِنْهُ أَيِ : النَّاسُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ مَجَازٌ عَنِ التَّفَاوُتِ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ يَعْنِي فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ تَفَاوُتًا مِثْلَ تَفَاوُتِ مَعَادِنِ الذَّهَبِ ، وَالْمُرَادُ بِالتَّفَاوُتِ تَفَاوُتُ النَّسَبِ فِي الشَّرَفِ وَالضِّعَةِ ... وقوله : « عَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟ » قَالُوا : نَعَمْ ، أَيْ أُصُولُهَا الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَاخَرُونَ بِهَا ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ مَعَادِنَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْدَادَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ، فَمِنْهَا قَابِلَةٌ لِفَيْضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَرَاتِبِ الْمَعَادِنِ ، وَمِنْهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ . وَقَوْلُهُ :« خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ » جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ ، شَبَّهَهُمْ بِالْمَعَادِنِ فِي كَوْنِهَا أَوْعِيَةً لِلْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالْفِلِزَّاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا ، الْمَعْنِيُّ بِهَا الْعُلُومُ وَالْحِكَمُ ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِحَسَبِ الْأَنْسَابِ ، وَفِي الْإِسْلَامِ بِالْأَحْسَابِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالثَّانِي ، فَالْمَعْنَى خِيَارُهُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ « خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ » بِهَا أَيْضًا « إِذَا فَقُهُوا » : بِضَمِّ الْقَافِ ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ أَيْ : إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ ، وَإِلَّا فَالشَّرَفُ لِلْأَفْقَهِ مِنْهُ( ). قال ابن حجر : قَوْلُهُ :« تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ » أَيْ أُصُولًا مُخْتَلِفَةً ، وَالْمَعَادِنُ : جَمْعُ مَعْدِنٍ ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْأَرْضِ ، فَتَارَةً يَكُونُ نَفِيسًا ، وَتَارَةً يَكُونُ خَسِيسًا ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ . قَوْلُهُ « خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ » ، وَجْهُ التَّشْبِيهِ : أَنَّ الْمَعْدِنَ لَمَّا كَانَ إِذَا اسْتُخْرِجَ ظَهَرَ مَا اخْتَفَى مِنْهُ وَلَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الشَّرَفِ لَا تَتَغَيَّرُ فِي ذَاتِهَا ، بَلْ مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ رَأْسٌ ، فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّ شَرَفُهُ وَكَانَ أَشْرَفَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَشْرُوفِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : « إِذَا فَقِهُوا » فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّرَفَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ . وَعَلَى هَذَا فَتَنْقَسِمُ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا : الْأَوَّلُ : شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ ، الثَّانِي : شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَتَفَقَّهَ ، الثَّالِثُ : شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ ثُمَّ تَفَقَّهَ ، الرَّابِعُ : شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَتَفَقَّهَ وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فَأَرْفَعُ الْأَقْسَامِ مَنْ شَرُفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ مَشْرُوفًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ مَشْرُوفًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ شَرِيفًا أَوْ مَشْرُوفًا ، سَوَاءٌ تَفَقَّهَ أَوْ لَمْ يَتَفَقَّهْ . وَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ وَالشَّرَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ كَالْكَرَمِ وَالْعِفَّةِ وَالْحِلْمِ وَغَيْرِهَا مُتَوَقِّيًا لِمَسَاوِيهَا كَالْبُخْلِ وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَغَيْرِهَا( ). والشيخ حسن بما نثره من لآلئ علمه ، ودرر أخلاقه ، وسماحة نفسه ، وسخاء يده ، ودعوته إلى الله ، عبر عن معدنه النفيس الذي أبرزه عصره بلا لبس ولا مواربة . والعلماء الربانيون العاملون في كل عصر هم أندر من المعادن الثمينة ، ومعرفتهم أيضًا ليست متيسرة لكل أحد ، لذا هم أكرم عند الله من أي شيء نادر ، وأن عددهم قليل كما بينا سابقًا ، لذا استحقوا أن يلقبوا بهذا اللقب المعبر عن ذلك ، ومنهم الشيخ حسن الراعي .
23- الثالث والعشرون : ومن الاحتمالات لتلقيبه بهذا اللقب تشبيهه بالشجرة الظليلة التي ألقت بظلها ليستروح الناس بذلك الظل من لأواء الهجير ، ومن حر الشمس والقيظ اللاهب ، ففي اللغة : الغَرْبيُّ مِنَ الشَّجَرِ : مَا أَصابته الشمسُ بحَرِّها عِنْدَ أُفُولها( ). والشيخ حسن كان كالشجرة التي تظل طلابها و مريديها بظل المعرفة والعلم ، وتبث في قلوبهم روح الإيمان والإسلام ، وتسكب في قلوبهم وضمائرهم ووجدانهم الطمأنينة والسكينة والأمن والسلام في عصر اشتدت فيه رياح الفتن ، وعمت فيه الحروب والصراعات والنزاعات ، فلم يجد فيه الناس الأمن والراحة إلا في أفياء العقيدة والدين ، وفي واحة الفضيلة والهداية ، وذلك هربًا من ظلمات العصر إلى نور الرسالة المحمدية ، إلى واحة الرحمة المهداة للبشرية ، إلى واحة الكلمة الطيبة التي عبر الله تعالى في كتابه بقوله : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرار »( ) قال سيد : « مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة الإيمان ، وشجرة الخير . والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان »( ). إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ... والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة ، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.. هو مشهد مأخوذ من جو السياق ، ومن قصة النبيين والمكذبين ، ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص . وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح ، وهي تؤتي أكلها كل فترة ، أكلاً جنياً طيباً.. نبياً من الأنبياء.. يثمر إيماناً وخيراً وحيوية.. ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقاً ، وأعرض مساحة ، وأعمق حقيقة . إن الكلمة الطيبة- كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة . ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ، ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية ، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها ، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن .. وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى وتتشابك ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة ، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض .. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض ، فلا قرار لها ولا بقاء . ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب ، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة ، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان . والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق .. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعند ما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية ، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال . إن الخير بخير! وإن الشر بشر! « وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » .. فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض ، ولكن الناس كثيراً ما ينسونه في زحمة الحياة . وفي ظل الشجرة الثابتة ، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه ، فيرسمها : أصلها ثابت مستقر في الأرض ، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر ، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات . في ظل الشجرة الثابتة مثلاً للكلمة الطيبة : « يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » .. وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات : « وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ » .. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق! يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر ، الثابتة في الفطر ، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة . ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول وبوعده للحق بالنصر في الدنيا ، والفوز في الآخرة .. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة ، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل ، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب . ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم ، وبعدهم عن النور الهادي ، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات ، واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ، ويعمى عن النور ، ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود . «وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ » .. بإرادته المطلقة ، التي تختار الناموس ، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه . حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة ، ولا يقوم في طريقها عائق والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء . وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء ، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات ، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة ، تحتوي دائماً على الحقيقة الكبرى .. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل ، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير ، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار »( ). وقد عبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن تجدد تلك الكلمة على أيدي العلماء الربانيين ورثة شجرة الأنبياء فقال : « وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »( )، ولا ضرورة للأخذ بالقول الذي نسب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – زورًا وبهتانًا : « عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ » فَقَدْ صَرَّحَ الْحُفَّاظُ كَالزَّرْكَشِيِّ وَالْعَسْقَلَانِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ وَالسُّيُوطِيِّ : أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، وإن كان معناه صحيحًا( ) . والشيخ حسن باعتباره أحد العلماء ورثة الأنبياء كان امتدادًا لظل تلك الشجرة ، وثمرة من ثمارها اليانعة ، التي أضاءت للناس دربهم لفترة من الزمان بنور الهداية الربانية ، وتحقيقًا لهذا ظل ذكره الحسن ، وسيرته العطرة على كل لسان في بلدة قطنا خاصة وفي ديار الشام عامة ، وفي تواريخ مناقب الأولياء العارفين ، إنه شجرة من أشجار الهداية الإلهية على سطح الأرض على امتداد تاريخ الإسلام من عهد آدم – عليه السلام – وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، قال تعالى : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ »( ).
24- الرابع والعشرون : ومن الاحتمالات لهذا اللقب اشتراكه في الجهاد الإسلامي تحت راية نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين ، ومن المعلوم أن كثيرًا من المتطوعين من بلاد الشام وغيرها انضموا لقوات هذين البطلين ، ومنهم كثير من الصوفية الذين شاركوا مشاركة فعالة في هذا الجهاد ، وقد مر معنا قبل قليل حديث رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ »( ) وتفَسير بعض العلماء حيث قالوا : أَراد بِالْغَرْبِ : الحِدَّةَ والشَّوْكَةَ ، يُرِيدُ أَهلَ الْجِهَادِ( ) . وَالْغَرْبُ : الْحِدَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَحْوُ الْفَأْسِ وَالسِّكِّينِ( ). وهذا تعبير عن السلاح الفتاك في عصرنا الحاضر الذي تستخدمه الجيوش المتحاربة ، لذا جاء تفسيره بـ " أهل الجهاد " لأنهم يجاهدون به في سبيل الله تعالى .
وأيًّا كان السبب في إطلاق هذا اللقب على الشيخ حسن الراعي ، وأيًّا كانت الاحتمالات قريبة الصحة أو بعيدة ، مجتمعة بعضها إلى بعض أم متفرقة ، فإن أهل بيروت خاصة ، وبعض من أرخ له كالأستاذ سعد الدين ، ومن وَثَّق له ولذريته ، هم الذين استمر هذا اللقب في ذاكرتهم ووجدانهم حتى أوصلوه لنا حيًا ، ثم دونوه في ترجمتهم له . وإن تسمية أهل بيروت للزاوية التي أنشأها فيها باسمه " حسن الراعي" من ضمن الزوايا والمنشآت الدينية التي بناها صلحاء مغاربة لخير شاهد على ذلك ، أما المصادر الأخرى فلم تشر إلى هذا اللقب إطلاقًا ، ولم تلمح إليه من قريب ولا من بعيد ، إما لأنه لم يصلها فهي تجهله ، أو لأنه لا يقع في دائرة اهتمامات بحثها الذي قامت به .
الباحث : محمود بن سعيد بن محمود بن يوسف بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ، أبو محمد الشيخ القطناني المكي . مكة المكرمة 23/1/1433هـ