والآن ما هي الأسباب التي دعت الشيخ حسن الراعي للعمل بمهنة رعي الغنم ، التي أهلته لرعاية الأتباع فيما بعد ؟ يمكن للمرء تلمس مجمل تلك الأسباب في الأمور التالية :
1) العمر : كان الشيخ حسن الراعي عندما وصل إلى قطنا مهاجرًا إليها من بلده صغير السن ، يتراوح عمره ما بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة ، والعمل المتاح أمامه في ذلك العصر فيها حيث كانت قرية : العمل الزراعي أو الرعي ، أما المهن الأخرى فلم تكن نامية فيها لقلة عدد السكان آنئذ ، وانصرافهم إلى ممارسة هاتين المهنتين فحسب ، فرأى أن خيارات العمل المتوفرة أمامه محدودة ، وعليه أن يختار العمل الذي يناسب قدراته الجسمية والعقلية الملائمة لعمره ، فلم يكن أمامه إلا اختيار مهنة رعي الغنم لسكان القرية ، لأن العمل الزراعي شاق بطبيعته ، ويحتاج إلى خبرة ومهارة وتدريب ، وقدرة جسمية وعقلية أكبر من عمره آنئذ ، كما يحتاج إلى حيوانات وأدوات للحراثة ليست متوفرة عنده .
2) الناحية الاقتصادية : كان الشيخ حسن الراعي بحاجة إلى العمل لتغطية مصاريف معيشته وأمور حياته ومصاريف أسرته التي يعيلها ، وليحصل على رزقه الذي قدره الله له بعرق جبينه وكد يمينه ، وليحفظً عليه كرامته ومروءته من أن يتعرض لذل المسألة والحاجة ، ودون أن ينتقص ذلك من مكانته بين الناس ، ودون أن يعرضه ذلك للمهانة والاحتقار فيما بينهم .
والإنسان بطبعه الذي خلقه الله عليه مريد وعامل ، وهو ما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : « أصدق الأسماء حارث وهمام »( ). فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية ، إذ كل إنسان لابد له من حرث ، وهو العمل ، وله هم وهو أصل الإرادة . والنفس بطبعها متحولة ، فإنها حية ، والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة . لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحي الحياة النافعة الكاملة ، فلما كان من طبع النفس اللازم لها : وجود الإدارة والعمل ، إذا هو حارث همام ، فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته فذلك من تمام إنعام الله عليها( ) .
3) هجرته إلى قطنا : لقد وصل الشيخ حسن حديثًا إلى قطنا مهاجرًا إليها من شهبا بحوران ، وهذا يعني أنه غريب عن أهلها ، وغير مشهور بين سكانها ، وأنه يترتب عليه أن يمد جسور التواصل بينه وبينهم ، ويقيم علاقاته معهم على أسس متينة تتجاوز وضعه كغريب يحذر الناس منه ؛ والغريب ينظر الناس إليه دائمًا نظرات خاصة لها مغزاها ، وغالبًا ما تتسم بالتعالي عليه ، وإشعاره بالضعف إن لم يكن بمنزلة أدنى من منزلة سكان البلدة الأقدمين ، ويعبر عن ذلك المثل الذي يتداوله الناس مخاطبين الغريب : يا غريب كن أديبًا . ويقصدون أنه يجب عليه التعامل مع الآخرين بخلق حسن ، ولا يتدخل في شؤون أهل البلد العامة لأن مكانته الاجتماعية بينهم لا تسمح له بذلك . وإليك الدليل من التاريخ : كان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - لما أسلم في مكة ، وكان هذلياً ، أي من هذيل وهي قبيلة في الطائف ، يرعى الغنم لأهل مكة ، ودائمًا الغريب أو الراعي محتقر ، فمر عليه أبو جهل ذات يوم وقد سمع أنه أسلم ، فقال : « أصبأت يا رويعِي الغنم ؟ » قال : نعم . يقول : « فجاء وجذبني وأخذني بأذني وألصقني إلى الجدار ، ثم أخرج مسمارًا من جيبه ، ودق المسمار في أذني إلى الجدار ، فجلست معلقًا من أذني بالمسمار ». يقول : « حتى مرَّ الصبيان والدم يسيل من أذني إلى الأرض ولا يستطيع أحد أن يفكني »، ولم يفكه إلا أبو بكر - رضي الله عنه وأرضاه – يقول : « فلما كان يوم أحد قتله معاذ ومعوذ وهما صغيران من أبناء الأنصار ابتدراه بضربتين ، فمررت به بين القتلى وإذا بالرجل يتشحط في دمه ويلفظ أنفاسه ، فصعدت على صدره ، وأخرجت سيفي وأمسكت بلحيته واحتززت رقبته »، فماذا كان يقول الخبيث ؟ يقول : « يا ابن مسعود ، لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم »– أي : ارتقيت على مكان لا يرتقي عليه أحد - « ولكن إذا قطعت رأسي فأطل عنقي فإن الرأس يعرف بالعنق »، أي يقول : إذا ذبحتني فأطل عنقي . انظر إلى الكبرياء حتى عند الموت ! « فجز ابن مسعود رأسه ، وجاء يجرجره » ؛ لأن رأسه كبير مثل رأس الثور، والرجل صغير لا يستطيع أن يحمله ، فما كان إلا أن أخرج سيفه وخرم أخراماً في أذنه ، وربطه بحبل وبدأ يسحبه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرسول جالس في العريش وقد انتهت المعركة ، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم أذن ابن مسعود التي خُرمت في مكة ورأى أذناً هنا مخرومة ، فقال : « الأذن بالأذن والرأس زيادة » يعني : أذن بأذن لكن معك مكسب فقد أتيت بالرأس( ) . ويشير إلى نظرة المجتمع هذه ما ورد فِي صفة عُمَرَ « كَأَنَّهُ رَاعِي غَنمٍ » أَيْ فِي الجفَاءِ والبَذَاذَة( ) والقصة كما ذكرها ابن قتيبة هي : قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي حَدِيث عمر - رَضِي الله عَنهُ - إِن سعد بن الأخرم قَالَ : كَانَ بَين الْحَيّ وَبَين عدي بن حَاتِم تشاجر فأرسلوني إِلَى عمر بن الْخطاب فَأَتَيْته وَهُوَ يطعم النَّاس من كسور إبل( ) ، وَهُوَ قَائِم متوكيء على عصا ، متزر إِلَى أَنْصَاف سَاقيه ، خِدَبٌّ ( ) من الرِّجَال ، كَأَنَّهُ راعي غنم( ) ، وَعليَّ حلَّة ابتعتها بِخمْس مائَة دِرْهَم ، فَسلمت عَلَيْهِ فَنظر إِلَيّ بذنب عَيْنَيْهِ( ) ، وَقَالَ لي رجل : أما لك معوز( )؟ قلت : بلَى . قَالَ : فَأَلْقِهَا ! قَالَ : فألقيتها وَأخذت معوزًا ، ثمَّ لَقيته فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام » ( ) . وَفِي حَدِيثِ دُرَيْدٍ بن الصمة قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ : « إِنَّمَا هُوَ رَاعِي ضأْنٍ مَا لَه وللحربِ ، كأَنه يَسْتَجْهله ويُقَصِّر بِهِ عَنْ رُتْبةِ مَنْ يَقُودُ الجُيوشَ ويَسُوسُها » ( ) .
4) الناحية الدينية : اشتهر الشيخ حسن الراعي بين أقرانه بالتدين الفطري والتقوى والزهد والورع ، ولعل هذا أحد الأسباب العميقة التي دفعته إلى العمل المبكر وهو لا يزال غض الإهاب ، في مقتبل الشباب ، لاسيما وهو يعلم أن الإسلام دين العمل ، الذي يحض عليه في كل توجيهاته وإرشاداته وتعاليمه ، لا بل يجعله عبادة إذا تحقق فيه شروط معينة ، وأن الله تعالى حث على السعي في الأرض لطلب الرزق الحلال في مواضع عديدة من كتابه الكريم منها على سبيل المثال قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » ( ) وأيضًا بيَّن الرسول الكريم أن خير الكسب ما كان من عمل الإنسان بيده ، فقد أخرج البخاري عَنِ المِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ »( ). قال ابن بطال : في حديث المقدام : أن أفضل الكسب من عمل اليد ، ألا ترى أن نبي الله داود كان يأكل من عمل يديه ، وقال أبو الزاهرية : كان داود يعمل القفاف ، ويأكل منها . قال ابن المنذر : وإنما فُضل عمل اليد على سائر المكاسب ، إذا نصح العامل بيده ، فعن أبى هريرة ، أن النبي عليه السلام قال : « خير الكسب يد العامل إذا نصح » ( ) وروى عن النبي « أن زكريا كان نجارًا »( ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « وهل من نبي إلا وقد رعى الغنم »( ). وقد ذكر معمر عن سلمان الفارسي أنه كان يعمل الخوص ، فقيل له : أتعمل هذا وأنت أمير المدائن ، يجرى عليك رزق ؟ قال : إني أحب أن آكل من عمل يدي »( ) . ولعله دفع تدين الشيخ حسن إلى رعي الغنم – إضافة إلى ما سبق ذكره – أمران هامان : أولهما : اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم – والاقتداء بسنته ، والتأسي بسيرته وسير إخوانه الأنبياء ، والاقتباس من هديه في رعي الغنم . وثانيهما : الفرار بدينه من الفتن عند فساد الزمان وتغير الأحوال .
ورعي الغنم مهنة شريفة لا يحتقرها إلا من فيه جاهلية ، وهي تؤدي خدمة اجتماعية من الخدمات التي يقوم عليها بنيان المجتمع في القديم والحديث ، مارسها جميع الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – وعلى رأسهم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – في صغره وشبابه ، فمن الطبيعي أن يقتدي الشيخ حسن الراعي به ، ويستن بسنته ، ويتأسى بفعله ، ويهتدي بهديه ، ويقتبس من مشكاة أنواره . فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ » ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ : « نَعَمْ ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ »( ). وأخرج الإمام مالك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ رَعَى غَنَمًا » ، قِيلَ : وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « وَأَنَا »( ) قال ابن بطال : معنى قوله عليه السلام : « ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم »- والله أعلم - أن ذلك توطئة وتقدمةً في تعريفه سياسة العباد ، واعتبارًا بأحوال رعاة الغنم ، وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها ، وإيرادها أفضل مواردها ، واختيار المسرح والمراح لها ، وجبر كسيرها ، والرفق بضعيفها ، ومعرفة أعيانها وحسن تعهدها ، فإذا وقف على هذه الأمور كانت مثالاً لرعاية العباد ، وهذه حكمة بالغة( ) . قال ابن حجر : قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ لَهُمُ الْحِلْمَ وَالشَّفَقَةَ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا ، وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى ، وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ ، وَدَفْعِ عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كَالسَّارِقِ ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا وَشِدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى الْمُعَاهَدَةِ ، أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الْأُمَّةِ ، وَعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا ، وَتَفَاوُتَ عُقُولِهَا ، فَجَبَرُوا كَسْرَهَا ، وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا ، وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا ، فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلَ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ . وَخُصَّتِ الْغَنَمُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِإِمْكَانِ ضَبْطِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا فِي الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، وَمَعَ أَكْثَرِيَّةِ تَفَرُّقِهَا فَهِيَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا ، وَفِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عُلِمَ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ التَّوَاضُعِ لِرَبِّهِ وَالتَّصْرِيحِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء( ) . وقال : « فَإِن قلت : مَتى كَانَ هَذَا الرَّعْي فِي عمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ " قلت : علم بالاستقراء من كَلَام ابْن إِسْحَاق والواقدي أَنه كَانَ وَعُمره نَحْو الْعشْرين سنة . فَإِن قلت : مَا الْحِكْمَة فِيهِ ؟ قلت : التقدمة والتوطئة فِي تَعْرِيفه سياسة الْعباد وَحُصُول التمرن على مَا سيكلف من الْقيام بِأَمْر أمته . فَإِن قلت : مَا وَجه تَخْصِيص الْغنم فِيهِ ؟ قلت : لِأَنَّهَا أَضْعَف من غَيرهَا وأسرع انقيادًا وَهِي من دَوَاب الْجنَّة . فَإِن قلت : مَا الْحِكْمَة فِي ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك ؟ قلت : إِظْهَار تواضعه لرَبه مَعَ كَونه أكْرم الْخلق عَلَيْهِ ، وتنبيه أمته على مُلَازمَة التَّوَاضُع وَاجْتنَاب الْكبر وَلَو بلغ أقْصَى الْمنَازل الدنيوية ، وَفِيه أَيْضًا اتِّبَاع لأخوته من الرُّسُل الَّذين رعوا الْغنم » ( ) . وأخرج ابن المبارك والبخاري عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ تَنَازُعٌ ، فَاسْتَطَالَ أَصْحَابُ الْإِبِلِ عَلَى أَصْحَابِ الْغَنَمِ ، فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ ، وَبُعِثَ دَاوُدُ وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ ، وَبُعِثْتُ أَنَا ، وَأَنَا أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِأَجْيَادٍ »( ) .
وإن الحيوانات التي يرعاها الإنسان ويربيها لفترة طويلة تؤثر تأثيرًا بالغًا في أخلاقه وسلوكه وطباعه ومعاملاته ، وقد دلت الأحاديث النبوية الشريفة على ذلك ، فقد أخرج البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : « الفَخْرُ وَالخُيَلاَءُ فِي الفَدَّادِينَ أَهْلِ الوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الغَنَمِ »( ) ؛ وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ : أَهْلِ الْوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ »( ) ؛ وأخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: افْتَخَرَ أَهْلُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْإِبِلِ ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ » ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « بُعِثَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا عَلَى أَهْلِهِ ، وَبُعِثْتُ أَنَا ، وَأَنَا أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِجِيَادٍ »( ). قَالَ مَالِكٍ أَنَّ الْفَدَّادِينَ : هُمْ أَهْلُ الْجَفَاءِ ، قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ سَأَلْت عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي هُمْ أَهْلُ الْجَفَاءِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : الْفَدَّادُ : ذُو الْمَالِ الْكَثِيرِ ، وَوَصْفُ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ بِاسْمِ أَهْلِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ أَهْلُ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَيُحْتَمَلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ فَخْرِهِمْ وَخُيَلَائِهِمْ لِلْغِنَى الْمُطْغِي وَقُوَّةِ أَمْوَالِهِمْ ، وَكَوْنِهَا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى مَنْ نَاوَاهُمْ وَحَارَبَهُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ » يُحْتَمَلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ بِهِمْ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ سَكِينَتِهِمْ لِضَعْفِهَا وَقِلَّةِ اسْتِعَانَةِ أَهْلِهَا بِهَا فِي مُحَارَبَةِ عَدُوٍّ وَمُنَاوَأَتِهِ ، فَرَغِبُوا فِي الْمُسَالَمَةِ وَتَخَلَّقُوا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْأَذَى( ) . وقال النووي : عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، قَالَ : أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : « أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ هَهُنَا ، وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ ، عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ ، وَمُضَرَ»( ) وَفِي رِوَايَةٍ « الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ » وَفِي رِوَايَةٍ « غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ ، وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ » والْفُؤَادَ : هُوَ الْقَلْبُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَرَّرَ لفظ القلوب بِلَفْظَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَكْرِيرِهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَقِيلَ الْفُؤَادُ غَيْرُ الْقَلْبِ وَهُوَ عَيْنُ الْقَلْبِ ، وَقِيلَ بَاطِنُ الْقَلْبِ ، وَقِيلَ غِشَاءُ الْقَلْبِ . وَأَمَّا وصفها باللين والرفة وَالضَّعْفِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا ذَاتُ خَشْيَةٍ وَاسْتِكَانَةٍ ، سَرِيعَةِ الاستجابة والتأثر بِقَوَارِعِ التَّذْكِيرِ ، سَالِمَةً مِنَ الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا قُلُوبَ الْآخَرِينَ . قَالَ : وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « فِي الْفَدَّادِينَ » ، وَهُوَ جمع فدَّاد ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْبَقَرِ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ : أَصْحَابُهَا ؛ وَالصَّوَابُ فِي الْفَدَّادِينَ ـ جَمْعُ فَدَّادٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَصْمَعِيِّ وَجُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ - وَهُوَ مِنْ الْفَدِيدِ : وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ ، فَهُمُ الَّذِينَ تَعْلُو أَصْوَاتُهُمْ فِي إِبِلِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى : هُمُ الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْإِبِلِ الَّذِينَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمُ الْمِائَتَيْنِ منها إلى الألف ، وقوله : « إن القسوة فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ » ، مَعْنَاهُ الَّذِينَ لَهُمْ جَلَبَةٌ وَصِيَاحٌ عِنْدَ سَوْقِهِمْ لَهَا ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « حَيْثُ يَطْلُعُ فرنا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ » ، قَوْلُهُ « رَبِيعَةَ وَمُضَرَ » بَدَلٌ مِنَ الْفَدَّادِينَ ، وَأَمَّا « قَرْنَا الشَّيْطَانِ » : فَجَانِبَا رَأْسِهِ ، وَقِيلَ : هُمَا جَمْعَاهُ اللَّذَانِ يُغْرِيهِمَا بِإِضْلَالِ النَّاسِ ، وَقِيلَ شِيعَتَاهُ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصُ الْمَشْرِقِ بِمَزِيدٍ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ وَمِنَ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ « رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ » ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ حِينَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنَ الْمَشْرِقِ ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَنْشَأُ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ ، وَمَثَارُ الْكَفَرَةِ التُّرْكِ الْغَاشِمَةِ الْعَاتِيَةِ الشَّدِيدَةِ الْبَأْسِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ » : فَالْفَخْرُ : هُوَ الِافْتِخَارُ وَعَدُّ الْمَآثِرِ الْقَدِيمَةِ تَعْظِيمًا ، وَالْخُيَلَاءُ : الْكِبْرُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ « فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ » ، فَالْوَبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ جَامِعِينَ بين الخيل والإبل ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : « والسكينة فى أهل الغنم » ، فالسكينة الطُّمَأْنِينَةِ ، وَالسُّكُونِ( ). وقال ابن حجر : قَوْلُهُ « وَالْفَخْرُ » مَعْرُوفٌ ، وَمِنْهُ الْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ ، « وَالْخُيَلَاءُ » : الْكِبْرُ وَاحْتِقَارُ الْغَيْرِ ، قَوْلُهُ « الْفَدَّادِينَ »: جَمْعُ فَدَّانٍ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَقَرُ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْفَدَّانُ : آلَةُ الْحَرْثِ وَالسِّكَّةِ ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْفَدَّادُونَ جَمْعُ فَدَّانٍ ، وَهُوَ مَنْ يَعْلُو صَوْتُهُ فِي إِبِلِهِ وَخَيْلِهِ وَحَرْثِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْفَدِيدُ هُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ . وقيل إَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَدَّادِينَ : مَنْ يَسْكُنُ الْفَدَافِدَ - جَمْعُ فَدْفَدٍ - وَهِيَ الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي ، وقيل أَنَّ الْفَدَّادِينَ : هُمْ أَصْحَابُ الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمِائَتَيْنِ إِلَى الْأَلْفِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : الْفَدَّادُونَ هُمُ الرُّعَاةُ وَالْجَمَّالُونَ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا ذَمَّ هَؤُلَاءِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمُعَالَجَةِ مَا هُمْ فِيهِ عَنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ ، قَوْلُهُ « أَهْلُ الْوَبَرِ » : أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَهْلِ الْمَدَرِ ، وَعَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِأَهْلِ الْوَبَرِ . وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الْوَبَرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَيْلِ ، وَقَالَ إِنَّ الْخَيْلَ لَا وَبَرَ لَهَا وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا بَيَّنْتُهُ . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ « فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ » أَيِ فِي الْفَدَّادِينَ مِنْهُمْ ، قَوْلُهُ وَالسَّكِينَةُ تُطْلَقُ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ والسكون وَالْوَقار والتواضع ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَهْلَ الْغَنَمِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ غَالِبًا دُونَ أَهْلِ الْإِبِلِ فِي التَّوَسُّعِ وَالْكَثْرَةِ وَهُمَا مِنْ سَبَبِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَقِيلَ أَرَادَ بِأَهْلِ الْغَنَمِ أَهْلَ الْيَمَنِ لِأَنَّ غَالِبَ مَوَاشِيهِمُ الْغَنَمُ بِخِلَافِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ إِبِلٍ . وروى ابن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا : « اتَّخِذِي الْغَنَمَ فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً »( ). وفي حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ قَوْلُهُ : « أَرَقُّ أَفْئِدَةً » : أَيْ إِنَّ غِشَاءَ قَلْبِ أَحَدِهِمْ رَقِيقٌ وَإِذَا رَقَّ الْغِشَاءُ أَسْرَعَ نُفُوذُ الشَّيْءِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ الْحَدِيثُ( ) . قال القاري : « وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ »، قَالَ الرَّاغِبُ : الْخُيَلَاءُ التَّكَبُّرُ عَنْ تَخَيُّلِ فَضِيلَةٍ تَرَاءَتْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَمِنْهَا يَتَأَوَّلُ لَفْظُ الْخَيْلِ مَا قِيلَ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ فَرَسًا إِلَّا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَخْوَةً ، وَالْخَيْلُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْرَاسِ وَالْفُرْسَانِ جَمِيعًا . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَيْلَ اسْمٌ حَتَّى لِلْفَرَسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ »( ) ، أَمَّا قَوْلُهُ : « يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبُوا » فَمَجَازٌ .« وَالْفَدَّادِينَ » : أَيْ : وَفِي الْفَلَّاحِينَ ، وَقَوْلُهُ : « أَهْلُ الْوَبَرِ » : شَعْرُ الْإِبِلِ ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ سُكَّانُ الصَّحَارِي ، لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ غَالِبًا خِيَامٌ مِنَ الشَّعْرِ . قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : الْفَدَّادُونَ : الَّذِينَ تَعْلُو أَصْوَاتُهُمْ فِي حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ ، وَاحِدُهُمْ فَدَّادٌ ، يُقَالُ : فَدَّ الرَّجُلُ يَفِدُّ فَدِيدًا إِذَا اشْتَدَّ صَوْتُهُ ، وَقِيلَ : هُمُ الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْإِبِلِ ، وَقِيلَ : هُمُ الْجَمَّالُونَ وَالْبَقَّارُونَ وَالْحَمَّارُونَ وَالرُّعْيَانِ ، وَقِيلَ : الْفَدَادُونَ جَمْعُ فَدَّادٍ ، وَهِيَ الْبَقَرَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا ، وَأَهْلُهَا أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ . وَالْجَفَاءُ : الْغِلَظُ فِي الْفَدَّادِينَ ، هَذَا وَقَدْ صَحَّ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى مُسْكَةً وَشَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحَرْثِ فَقَالَ : « مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ » . وَأَيْنَ إِيقَاعُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مِنْ مَوْقِعِ الذُّلِّ ؟ قُلْتُ : لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَمَّا سَيَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ كَثْرَةَ الزِّرَاعَةِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِافْتِخَارِ وَالتَّكَبُّرِ ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْمَزَارِعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعَجَمِ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ فِي الْمَحَافِلِ عَلَى أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ ، بَلْ لَهُمُ اعْتِبَارٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ حَتَّى يَصِيرَ أَكْثَرُهُمْ وُزَرَاءَ لَهُمْ وَكُبَرَاءَ عِنْدَ سَائِرِ رَعِيَّتِهِمْ . « وَالسَّكِينَةُ »، أَيِ : الْوَقَارُ وَالَتَأَنِّي وَالْحِلْمُ وَالْأُنْسُ « فِي أَهْلِ الْغَنَمِ » ( ). وقال أيضًا : « وَالْجَفَاءُ » ، َهُوَ ضِدُّ الْوَفَاءِ ، وَفِي الْقَامُوسِ : الْجَفَاءُ نَقِيضُ الصِّلَةِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا غِلَظُ الْأَلْسِنَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ : « وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ » ، وَيُرَادُ بِأَهْلِ الْوَبَرِ : الْأَعْرَابُ أَوْ سُكَّانُ الصَّحَارِي ، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى الْمُوجِبِ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِهِ حُسْنُ الْأَخْلَاقِ لَهُمْ وَسَائِرُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ . قَالَ تَعَالَى : « الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ »( ). وَفِي الْحَدِيثِ : « مَنْ بَدَا جَفَا »( ) ، « عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ » ، أَيْ : هُمْ تَبَعٌ لِأُصُولِهَا وَيَمْشُونَ خَلْفَهَا لِلرَّعْيِ فِيهِمَا أَوْ لِإِثَارَةِ الْأَرْضِ خَلْفَ الْبَقَرِ وَلِسَقْيِ الْمَاءِ خَلْفَهُمَا ، فَالْمُرَادُ بِهِمُ الَأَّكَارُونَ " الفلاحون " ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَالتَّابِعَ مَتْبُوعًا ، فَعَكَسُوا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مَوْضُوعًا وَمَشْرُوعًا ، وَإِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : « أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ » ( ). وقال المناوي : « السَّكينة » في أهل الشاء والبقر، لأن من حكمة الله في خلقه أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته ذلك الشيء ، وقال بعضهم : إنما خص أهل الغنم والبقر بذلك لأنهم غالبًا دون أهل الإبل في التوسع والكثرة وهما من أسباب الفخر والخيلاء ، وقيل : أراد بأهل الغنم أهل اليمن لأن غالب مواشيهم الغنم والبقر بخلاف ربيعة ومضر فإنهم أصحاب إبل ، وقال المجد بن تيمية : أصل هذا أن الله جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أقوى وأكثر فالتفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالمعنى ، وكلما كان بين إنسان وإنسان مشاركة في جنس خاص كان التفاعل فيه أشد ، ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلا بد من نوع تفاعل بقدره ، ثم بينه وبين الثبات مشاركة في الجنس البعيد مثلا فلا بد من نوع ما من المفاعلة لهذا الأصل ، وقع التأثر والتأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة ، وكذا الآدمي إذا عاشر نوعًا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه فلذلك صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل ، والسكينة في أهل الغنم ، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال ، وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الناس من العشرة والمؤالفة وقلة النفرة ، فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشاكلة ومشابهة في الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي( ) . وقال أيضًا : « الفخر » : أي ادعاء العظم والكبر ،« والخُيلاء »: الكبر والعجب في أهل البيوت المتخذة من الوبر. قال الخطابي : إنما ذمهم لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمر دينهم وذلك يفضي إلى قسوة القلب ، « والسكينة »: وهي السكون والوقار والتواضع في أهل الغنم ، لأنهم غالبًا دون أهل الإبل في التوسع والكثرة وهما من أسباب الفخر والخيلاء ، أي فاتخاذ الغنم أولى من اتخاذ الإبل لأن هذه تكسب خلقًا مذمومًا وهذه خلقًا محمودًا( ) . وقال مالك بن نبي مبينًا ارتباط الإنسان ببيئته ارتباطًا وثيقًا وتأثره بها في سلوكه : فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي( ).
وبَيَّنَ الرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن خير مال المرء عند وقوع الفتن غنم يتتبع بها رؤوس الجبال والأودية ، يفر من الفتن . وعصر الشيخ حسن الراعي عصر فتن واضطراب وانعدام أمن ، عصر الحروب الصليبية التي شنتها أوروبا النصرانية على بلاد الشام ومصر وتونس ، فقد يكون ذلك أحد الأسباب الدفينة التي جعلت الشيخ حسن الراعي يتخذ رعي الغنم حرفة ومهنة له ، ليبتعد عن مواطن الفتن وينعزل عنها لاسيما وأن قومه العرب قد انسحبوا من ميدان السياسة والحكم أمام زخم السلاجقة الذين تولوا زمام الأمور في بلاد الخلافة العباسية ومنها بلاد الشام ، ثم لما ضعفت دولتهم تمزقت إلى دويلات صغيرة متنافسة ومتناحرة فيما بينها على السلطة والنفوذ ، فجرَّت بذلك الويلات على البلاد والعباد . فقد أخرج عبد بن حميد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ : يَا بُنَيَّ ، إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَتَتَّخِذُهَا ، فَأَصْلِحْهَا وَأصْلِحْ رَغَامَهَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ ، يَتَتَبَّعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ »( ) قال ابن بطال : هذا الحديث يدل على إباحة الانفراد والاعتزال عند ظهور الفتن ، طلبًا لإحراز السلامة في الدين ، خشية أن تحل عقوبة فتعم الكل ، وهذا كله من كمال الدين ، وقد جاء في الحديث : أنه إذا فشا المنكر، وكان بالناس قوة على تغييره ، فلم يغيروه امتحنهم الله بعقوبة ، وبعث الصالحين على نياتهم ، وكان نقمة للفاسقين ، وتكفيرًا للمؤمنين( ) . وبوب البخاري على أن الفرار من الفتن من الدين ؛ وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن ؛ لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام ، والإسلام هو الدين( ) . قَالَ النَّوَوِيّ : فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من لفظ الحَدِيث عد الْفِرَار دينًا ، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة للدّين ، قلت : لم يرد بِكَلَامِهِ الْحَقِيقَة ، لِأَن الْفِرَار لَيْسَ بدين ، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْفِرَار للخوف على دينه من الْفِتَن شُعْبَة من شعب الدّين( ). وقال العيني في "الأسئلة والأجوبة" عن الحديث : مِنْهَا مَا قيل : لِمَ قيد بالغنم ؟ وَأجِيب : بِأَن هَذَا النَّوْع من المَال نموه وزيادته أبعد من الشوائب الْمُحرمَة كالربا والشبهات الْمَكْرُوهَة ، وخصت الْغنم بذلك لما فِيهَا من السكينَة وَالْبركَة ، وَقد رعاها الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - مَعَ أَنَّهَا سهلة الانقياد خَفِيفَة المؤونة كَثِيرَة النَّفْع . وَمِنْهَا مَا قيل : لِمَ قيد الِاتِّبَاع بالمواضع الخالية مثل شعف الْجبَال وَنَحْوهَا ؟ وَأجِيب : بِأَنَّهَا أسلم غَالِبًا من المعادلات المؤدية إِلَى الكدورات . وَمِنْهَا مَا قيل : مَا وَجه كَون الْغنم خير مَال الْمُسلم ؟ وَأجِيب : بِأَنَّهُ لما كَانَ فِيهَا الْجمع بَين الرِّفْق وَالرِّبْح وصيانة الدّين ، كَانَت خير الْأَمْوَال الَّتِي يعْنى بهَا الْمُسلم ، وَمِنْهَا مَا قيل : لِمَ قيد الِاتِّبَاع الْمَذْكُور بقوله : « يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن » وَأجِيب : للإشعار بِأَن هَذَا الِاتِّبَاع يَنْبَغِي أَن يكون استعصاماً للدّين لَا لِلْأَمْرِ الدنيوي كَطَلَب كَثْرَة الْعلف وَقلة أطماع النَّاس فِيهِ . وَمِنْهَا مَا قيل : كَيفَ يجمع بَين مُقْتَضى هَذَا الحَدِيث من اخْتِيَار الْعُزْلَة ، وَبَين مَا ندب إِلَيْهِ الشَّارِع من اخْتِلَاط أهل الْمحلة لإِقَامَة الْجَمَاعَة ، وَأهل السوَاد مَعَ أهل الْبَلدة للعيد وَالْجُمُعَة ، وَأهل الْآفَاق لوقوف عَرَفَة ؟ وَفِي الْجُمْلَة اهتمام الشَّارِع بالاجتماع مَعْلُوم ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء : يجوز نقل اللَّقِيط من الْبَادِيَة إِلَى الْقرْيَة وَمن الْقرْيَة إِلَى الْبَلَد لا عكسهما ؛ وَأجِيب : بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الْفِتْنَة وَعدم وُقُوعه فِي الْمعاصِي وَعند الِاجْتِمَاع بالجلساء الصلحاء ، وَأما اتِّبَاع الشعف والمقاطر وَطلب الْخلْوَة والانقطاع إِنَّمَا هُوَ فِي أضداد هَذِه الْحَالَات( ). وقد اعتزل سلمة ابن الأكوع – رضي الله عنه - عند قتل عثمان – رضي الله عنه - وقال له الحجاج : « أرتددت على عقبيك ، تعربت ؟» قال : « لا ، ولكن رسول الله أذن لي في البدو ». وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً ، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلادًا ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ ، فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ وتوفي بها . والتعرب : معناه أن يرجع أعرابيًا بعد الهجرة ، وكانوا يستعيذون بالله أن يعودوا كالأعراب بعد هجرتهم ؛ لأن الأعراب لم يتعبدوا بالهجرة التي يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى وطنه ، كما فرض على أهل مكة البقاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم – ونصرته( ) ، ولذلك قال الحجاج : « يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك ، تعربت ؟ » أي : رجعت عن الهجرة التي فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة ، فأخبره أن رسول الله أذن له في سكنى البادية ، فلم يكن خروجه من المدينة فرارًا منها ولا رجوعًا في الهجرة ، وهذا لا يحل لأحدٍ فعله ، ولذلك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ألا يموتوا في غير المدينة التي هاجروا إليها لله تعالى ، فقال : « اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة ؛ يرثي له رسول الله أن مات بمكة »( ) فتوجع رسول الله حين مات بمكة في الأرض التي هاجر منها . وذكر البخاري أن« سعد ابن خولة » شهد بدرًا ، ثم انصرف إلى مكة ومات بها ، وأنه من المهاجرين . وقوله : « يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن » من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عما يكون في آخر الزمان . وفيه أن اعتزال الناس عند الفتن والهرب عنهم أفضل من مخالطتهم وأسلم للدين( ). وَأَمَّا الْفِتَنُ فَكَثِيرَةٌ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، وَمَا يَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُ مِمَّنْ يَحْسُرُهُ وَيُؤْذِيهِ حَتَّى يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ ، أَوْ مِمَّنْ يَرَاهُ يَفُوقُهُ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَالِ فَتَكُونُ فِتْنَةً لَهُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَزْمِنَةِ ، وَعَلَى فَضْلِ الْعُزْلَةِ( ) . وقال العيني في "بَيَان استنباط الْفَوَائِد" من الحديث : وَهُوَ على وُجُوه . الأول : فِيهِ فضل الْعُزْلَة فِي أَيَّام الْفِتَن إلاَّ أَن يكون الْإِنْسَان مِمَّن لَهُ قدرَة على إِزَالَة الْفِتْنَة ، فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي إِزَالَتهَا ، إِمَّا فرض عين وَإِمَّا فرض كِفَايَة بِحَسب الْحَال والإمكان ، وَأما فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة فَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعُزْلَة والاختلاط أَيهمَا أفضل ؟ قَالَ النَّوَوِيّ : مَذْهَب الشَّافِعِي والأكثرين إِلَى تَفْضِيل الْخلطَة لما فِيهَا من اكْتِسَاب الْفَوَائِد ، وشهود شَعَائِر الْإِسْلَام ، وتكثير سَواد الْمُسلمين ، وإيصال الْخَيْر إِلَيْهِم وَلَو بعيادة المرضى ، وتشييع الْجَنَائِز ، وإفشاء السَّلَام ، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر ، والتعاون على الْبر وَالتَّقوى ، وإعانة الْمُحْتَاج ، وَحُضُور جماعاتهم وَغير ذَلِك مِمَّا يقدر عَلَيْهِ كل أحد ، فَإِن كَانَ صَاحب علم أَو زهد تَأَكد فضل اخْتِلَاطه . وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْعُزْلَة لما فِيهَا من السَّلامَة المحققة ، لَكِن بِشَرْط أَن يكون عَارِفًا بوظائف الْعِبَادَة الَّتِي تلْزمهُ وَمَا يُكَلف بِهِ ، قَالَ : وَالْمُخْتَار تَفْضِيل الْخلطَة لمن لَا يغلب على ظَنّه الْوُقُوع فِي الْمعاصِي . وَقَالَ الْكرْمَانِي : الْمُخْتَار فِي عصرنا تَفْضِيل الانعزال لندور خلو المحافل عَن الْمعاصِي . قلت : أَنا مُوَافق لَهُ فِيمَا قَالَ ، فَإِن الِاخْتِلَاط مَعَ النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان لَا يجلب إِلَّا الشرور . الثَّانِي : فِيهِ الِاحْتِرَاز عَن الْفِتَن ، وَقد خرجت جمَاعَة من السّلف عَن أوطانهم وتغربوا خوفًا من الْفِتْنَة ، وَقد خرج سَلمَة بن الْأَكْوَع إِلَى الربذَة فِي فتْنَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ . الثَّالِث : فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة الْغنم واقتنائها على مَا نقُول عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى . الرَّابِع : فِيهِ إِخْبَار بِأَنَّهُ يكون فِي آخر الزَّمَان فتن وَفَسَاد بَين النَّاس ، وَهَذَا من جملَة معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم( ). وفي الحديث دلالة على أن اقتناء الغنم أفضل من اقتناء غيرها لبركتها أو كثرة نفعها ، فإذا أراد الإنسان أن يقتني شيئاً من الحيوانات لينتفع به فاقتناء الغنم أفضل من اقتناء الإبل والخيل وغيرهما( ) . وإنما كان الغنم خير مال المسلم - حينئذ - ؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ويشرب من ألبانها ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره ، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه ؛ وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم ؛ ولهذا قال : « يتبع بها شعف الجبال » وهي رؤوسها وأعاليها ؛ فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو . و« مواقع القطر » لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ . وفي " مسند البزار "، عن مُخَوَّلٍ الْبَهْزِيَّ سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : « سيأتي على الناس زمان فيه غنم بين المسجدين( ) تأكل من الشجر وترد الماء ، يأكل صاحبها من رسلها ، ويشرب من ألبانها ، ويلبس من أشعارها - أو قال من أصوافها ـ ، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب »( ) . وواحد الجراثيم : جرثومة ؛ وهي أصل الشيء . وفي هذا دلالة على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يقتات منه . وقوله : « يفر بدينه من الفتن " يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن ؛ فإن من خالط الفتن ، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم : إما بقتل معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو المساعدة على ذلك بقول ونحوه ، وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه . وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال - حكاية عن أصحاب الكهف ـ « وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ »( ). وروى عروة ، عن كرز الخزاعي قال : سأل أعرابي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هل لهذا الإسلام من منتهى ؟ قال : « من يرد الله به خيرًا من عرب أو عجم أدخله عليه » ، قال : ثم ماذا ؟ قال : « تقع فتن كالظلل »، قال : كلا يا نبي الله ، قال : « بلى ، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبًا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، وخير الناس يومئذ : رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره »( ) . والأساود : جمع أسود ، وهو أخبث الحيات وأعظمها . والصب : جمع صبوب ، على أن أصله : صبب كرسول ورسل ؛ وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ ، وفي "الصحيحين " عن حذيفة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر له الفتن فقال له : فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك ؟ قال : « تلزم جماعة المسلمين وإمامهم » ، قال : فإن لم يكن جماعة ولا إمام ؟ قال : « فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك »( ). وقد اعتزل الأحداث بعد مقتل عثمان جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد وقال لعلي : " لو كنت في شق الأسد لأحببتُ أن أكون معك فيه ، ولكن هذا أمر لم أره " ، ومحمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأهبان بن صيفي وقال لعلي : " إن خليلي وابن عمك - صلى الله عليه وسلم أمرني إذا كان قتال بين المسلمين أن أتخذ سيفًا من خشب " ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرون( ) . وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي . وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء ، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير . فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه ، كما في الترمذي ومستدرك الحاكم ، عن أبي هريرة قال : « مَرَّ رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعب فيه عيينة من ماء عذب ، فأعجبه طيبه وحسنه فقال : لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ، ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأمره فقال : « لا تفعل ؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عامًا »( ) . قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين . والسياحة على هذا الوجه قد فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم ، ومنهم من رجع لما عرف ذلك . وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدًا يتعبدون فيه ، منهم : عمرو بن هتبة ، ومفضل العجلي ، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال : إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد ، أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة . وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلًا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه فقال له : إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا ؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز ، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله . وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال - كما جرى لثعلبة في ماله - فمذموم – أيضًا( ) . قال ابن حجر : وَالْخَبَرُ دَالٌّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعُزْلَةِ لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَصْلِ الْعُزْلَةِ ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ : الِاخْتِلَاطُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ لِلْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَالِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَةٍ وَإِغَاثَةٍ وَعِيَادَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَالَ قَوْمٌ : الْعُزْلَةُ أَوْلَى لِتَحَقُّقِ السَّلَامَةِ بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَيَّنُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ تَفْضِيلُ الْمُخَالَطَةِ لِمَنْ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَالْعُزْلَةُ أَوْلَى . وَقَالَ غَيْرُهُ : يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ ، ولَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ إِذَا تَسَاوَيَا فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، فَإِنْ تَعَارَضَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ ، فَمَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْمُخَالَطَةُ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَةً بِحَسَبِ الْحَالِ وَالْإِمْكَانِ ، وَمِمَّنْ يَتَرَجَّحُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَسْلَمُ فِي نَفْسِهِ إِذَا قَامَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِ