من ألقاب الشيخ حسن الراعي
لقب « المغربي »
المغربي : نسبة إلى المغرب : ضد المشرق ، وفي اللغة : الْغَرْبُ : الْمَغْرِبُ ، وَالْمَغْرِبُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَبِفَتْحِهَا - وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ : مَغْرِبِيٌّ ، بِالْوَجْهَيْنِ( ) . ويقال الغَرْب : خلاف الشرق ، وَهُوَ الْمغرب ، وغَرَّب الْقَوْم : ذَهَبُوا فِي الْمغرب( ). وَقِيلَ : مُتَغَرِّبٌ هُنَا أَي مِنْ قِبَل المَغْرب . وَيُقَالُ : غَرَّبَ فِي الأَرض ، وأَغْرَبَ : إِذا أَمْعَنَ فِيهَا( ) . فما سبب هذه النسبة للشيخ حسن الراعي ؟ هناك عدة احتمالات لإطلاق هذه النسبة عليه ، وحتى نتعرف على تلك الاحتمالات يحسن بنا أن نطلع على معنى المغرب وبعض مشتقاته اللغوية وأيضًا في الاصطلاح الديني والصوفي ، لأن ذلك يفتح أبصارنا وعقولنا على بعض احتمالات هذه النسبة . ومنها :
1- أولاً :- انتقال الشيخ حسن الراعي من المغرب إلى العراق ثم بيروت ثم قطنا بسوريا ومات ودفن بها ، ولذلك سمي الشيخ حسن الراعي القطناني حسب الرواية البيروتية( ) ، أو أسرته حسب رواية الأستاذ سعد الدين التي انتقلت من المغرب إلى مصر ثم شهبا بحوران جنوب سورية ، ومنها انتقل هو إلى قطنا وذلك حسب ما ذكر في شجرة نسب الشيخ حسن الراعي وأسرته التي نشر صورة عنها ملحقة بكتابه " قطنا بين السطور "( ) ، ثم انتقاله منها لطلب العلم والدعوة إلى الله تعالى ، ووصوله إلى بيروت حيث اشتهر بين أهلها بنسب المغربي . وهاتان الروايتان راعتا المعنى اللغوي والاصطلاحي الدارج إلى اليوم ، يقال : غَرَبَتِ الشمسُ : غابَتْ فِي المَغْرِبِ ؛ وَكَذَلِكَ غَرَبَ النجمُ ، وغَرَّبَ . والمَغرِبُ فِي الأَصل : مَوْضِعُ الغُروبِ ، ثُمَّ استُعْمِل فِي الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ ، وقياسُه الْفَتْحُ ، وَلَكِنِ استُعْمِل بِالْكَسْرِ كالمَشْرِق والمسجِد . وتَغَرَّبَ : أَتَى مِنْ قِبَلِ الغَرْب( ) . فمن المحتمل أن الشيخ حسن الراعي بعد لقائه بشيخه الرفاعي قد انتقل إلى بلاد المغرب حيث قامت دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين ، ثم عاد إلى المشرق حسب الرواية البيروتية السالفة الذكر !! وقد عاصر الشيخ حسن الراعي عددًا من حكامها الأقوياء الذين لقبوا أنفسهم بلقب " أمير المؤمنين " ، بينما كان زعماء المرابطين يلقبون أنفسهم بلقب " أمير المسلمين " ، وذلك احترامًا منهم واعترافًا للخليفة العباسي الملقب بـ " أمير المؤمنين " ، أما الموحدون فاعتبروا أنفسهم خلفاء للمؤمنين ، وقطعوا الدعوة للخلفاء العباسيين من على المنابر ، وأقاموا شعائر الإسلام ، وأزالوا المنكرات وغيرها من المفاسد ، وفتحوا باب الاجتهاد( ) ، ورفعوا راية الجهاد ، وأعلوا راية الدين بقدر استطاعتهم ومعرفتهم في المغرب والأندلس ، وهذا ما اجتذب إليهم كثيرًا من المشارقة الذين سافروا إلى المغرب ، والتقوا بأنفسهم بهم ، واطلعوا على مدى تطبيقهم للدعوة الإسلامية والتزامهم بالأحكام الربانية ، وابتعادهم عما اعتبروه بدعًا مخالفة لجوهر الإسلام الذي تضمنه الكتاب والسنة ، وأشهر هؤلاء الذين عاصرهم الشيخ حسن : " عبد المؤمن بن علي( ) " الذي يعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي الفعلي لدولة الموحدين ، وابنه " يوسف بن عبد المؤمن "( ) ، وحفيده " يعقوب بن يوسف "( ) ، وابن حفيده " محمد بن يعقوب "( ) وغيرهم .
والمغرب التي قد تكون السبب الأكثر احتمالاً في إطلاق هذه النسبة على الشيخ حسن الراعي : بلاد واسعة كثيرة ، وعثاء شاسعة ، قال بعضهم حدها من مدينة مليانة وهي آخر حدود إفريقية إلى آخر بلاد السـوس التي وراءها المحيط وتدخل فيها جزيرة الأندلس . والمغرب : تاريخيًا امتدت حدوده إلى الأندلس شمالًا ، ونهر السنغال جنوبًا ، وقد شكّل ثاني الدول الإسلامية التي استقلت عن الدولة العباسية بعد الأندلس ، إذ أسس فيه إدريس بن عبد الله سلالة الأدارسة عند هروبه من المشـرق والتجائه إلى أقصى ما فتحه العرب من البلدان غربًا . وبرزت المغرب في عهد سـلالة المرابطين ، عندما كان لحكامها السيطرة الفعلية على ما جاورها من البلدان العربية وصولاً إلى الأندلس ، وكذلك دولة الموحدين التي خلفتها كما ألمحنا أعلاه . والمغرب الدولة العربية الوحيدة في شمال أفريقيا التي لم تدخل تحت الراية العثمانية ، إلا أنها خضعت في وقت لاحق للاستعمار الفرنسي وللحماية الإسبانية ، وتم تقسيم أراضيها بين الدولتين المستعمرتين : فرنسا وإسبانيا ، قبل أن تحصل على استقلالها في سنة 1376 هـ /1956م( ) .
2- ثانيًا : - والاحتمال الثاني لإطلاق هذه النسبة عليه لأنه قدم من جهة الشرق إلى جهة الغرب ، فهو مُغَرِّب ، والمُغَرِّبُ لغة : هو الَّذِي يأْخُذُ فِي نَاحِيَةِ المَغْرِبِ ؛ وغَرَّبَ القومُ : ذَهَبُوا فِي المَغْرِبِ ؛ وأَغْرَبُوا : أَتَوا الغَرْبَ( ) ؛ وقال تعالى على لسان خليله إبراهيم - عليه السلام - في محاجته النمرود : « قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ . فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »( ). وحسب رواية بعض كبار السن من أهل قطنا والرواية العراقية( ) فإن الشيخ حسن الراعي جاء من شهبا في حوران إلى قطنا ثم انتقل إلى بيروت ومكث فيها مدة ثم انتقل منها إلى بلاد أخرى ، وحسب الرواية البيروتية القائلة بانتقاله من العراق إلى بيروت يعني من الشرق إلى الغرب أيضًا ، وهذا يعني أنه انتقل من جهة الشرق إلى جهة الغرب ، فهو مُغَرِّب ، وهذا يشبه حركة الشمس الظاهرية في انتقالها من الشرق إلى الغرب ، وفي أمثال العرب : شتان بين مشرِّق ومغرِّب ، لذا تصح هذه النسبة على هذا المعنى .
3- ثالثًا : - والاحتمال الثالث في إطلاق هذه النسبة عليه هو نزوله في جهة من جهات بيروت عند نزوله وإقامته فيها ، وتنحيه عن سكانها الأصليين ، كما يفعل أكثر الغرباء عن البلد حيث ينزلون في جوانب البلد عند أول إقامتهم فيها ، ثم يختلطون بأهلها تدريجيًا . ويساعد على هذا المعنى ما ورد في اللغة : يقال : غَرَبَ فلانٌ عَنَا يَغْرُبُ غَرْباً : أي تَنَحَّى ، أغربته وغَرَّبْتُه : أي نحيته( ). والغرْبُ : الذَّهاب والتَّنَحِّي ، والغرْبُ : التَّنَحِّي عَن حدّ وَطنه ( ) ، والغَرْبُ : الذّهاب والتَّنَحِّي عَن النَّاس . وغَرَّب ، وأغرب . وغربَّه ، وأغربه : نحّاه( ).
4- رابعًا : - والاحتمال الرابع بسبب مجيئه إلى بيروت من مكان بعيد عنها ، وإقامته فيها ، وإن وإنشائه الزاوية التي عرفت باسمه ، سواء جاء إليها من المغرب أو قطنا أو العراق ، ويدل على ذلك الدلالة اللغوية ، من ذلك قولهم : غَرَبَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ غُرُوبًا : بَعُدَتْ وَتَوَارَتْ فِي مَغِيبِهَا ، وَغَرُبَ الشَّخْصُ - بِالضَّمِّ - غَرَابَةً : بَعُدَ عَنْ وَطَنِهِ ، فَهُوَ غَرِيبٌ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ - وَجَمْعُهُ غُرَبَاءُ( ).وغايةٌ مُغرِبةٌ : أي بعيدة الشأو( ) . والغرباء : الأباعد . وغرب : أي بعد ، يقال : اغرُبْ عنِّي ، أي تباعد . ونوى غربة ، أي بعيدة . وغربة النوى : بُعدها . والنوى : المكان الذي تنوي أن تأتيه في سفرك( ) ، والمُغْرِبُ : المُبْعِدُ فِي الْبِلَادِ( ) وسواء على هذا المعنى البعد المكاني أو البعد الاجتماعي ، حيث نسبه بعيد عن أنسابهم ، فهو من الناحيتين يحتمل أن ينسب بهذه النسبة .
5- خامسًا : - الاحتمال الخامس بسبب اختلافه عن أهل بيروت في صفاته الجسمية ، كاختلاف لون بشرته عن ألوان بشرتهم ، أو جزء منها ، فالعرب تطلق اسم الأغربة على من كان أسود اللون من العرب فتقول : أغربة العَرب : سُودانهم ، شبهوا بالأغربة فِي لونهم . والمُغْرَب ، من الْإِبِل : الَّذِي تبيض أشفار عَينيه وحَدقتاه وهُلْبه وكل شَيْء مِنْهُ . والمُغْرَب من الْخَيل : الَّذِي تتسع غُرته فِي جِبهَته حَتَّى تجَاوزعَيْنَيْهِ . والمُغْرَب : الصُّبح " بياضه ". وأغرب الرجل : ولدٌ لَهُ ولد أبيض( ). والمُغْرَب : الأبيض( ) ، والمُغْرَب : الأبيض الأشفار من كل صنفٍ . والشعرة الغريبةُ ، وجمعها غُرُبٌ ، لأنها حدثٌ في الرأسِ لم يكن قبلُ( ) . فمن المحتمل نسبته إلى اختلاف لون بشرته أو بعض أجزائها أو لون بعض أبنائه اتباعًا لهذه الدلالة اللغوية .
6- سادسًا : - الاحتمال السادس : نسبة إلى المكان المرتفع ، لارتفاع مكانته وعلو منزلته بين الناس بسبب علو همته ونشاطه الجم ، بعد إنشائه زاويته في بيروت ، ونشره دعوة الإسلام على طريقة شيخه ، وتبليغه علمه للناس ، ويدل على ذلك من اللغة قول العرب : العنقاءُ المُغْرِبُ - هَكَذَا جَاءَ عنِ الْعَرَب بِغَيْر هاءٍ - هِي الَّتِي أغربت فِي الْبِلَاد فَنَأتْ وَلم تُحَسَّ وَلم تُرَ . وَقَالَ أَبُو مَالك : العَنقاءُ المُغرِب : رَأس أكَمَةٍ فِي أَعلَى الجَبَلِ الطَّوِيل( ) ، والغارِب : أَعْلى مُقَدَّم السَّنام ، وغَوارِبُ الماءِ : أَعاليه ؛ وَقِيلَ : أَعالي مَوْجِه ؛ شُبِّهَ بغَوارِبِ الإِبل . وَقِيلَ : غاربُ كلِّ شيءٍ أَعْلاه . وقيل : الغَارِبُ أَعْلى المَوْج ، وأَعلى الظَّهر، وأَعلى مُقَدَّمِ السَّنام( ).
7- سابعًا : - الاحتمال السابع : هو أن أهل العراق أطلقوا عليه هذه النسبة لأنه قادم إليهم من بلاد الشام ، وبلاد الشام تقع إلى الغرب من بلاد العراق ، فعندما وصل إليهم من الغرب أطلقوا عليه هذه النسبة ، ولزمته التسمية بعد انتقاله إلى بيروت واستيطانه لها مدة من الزمان غير معروفة التحديد ، وإنشائه زاوية فيها حملت اسمه إلى عهد قريب( ) .
8- ثامنًا :- الاحتمال الثامن : أن الشيخ حسن الراعي لما انتقل إلى بيروت من المحتمل أنه سكن بين المهاجرين المغاربة إليها ، والغريب يميل بطبعه إلى معاشرة الغرباء مثله ، فيأنس بهم ويأنسون به ، أو أنهم هم أول من استجاب لدعوته التي قام بها في بيروت فالتفوا حوله ، وظنه أهل بيروت منهم لاستجابتهم له ، وكثرة اجتماعهم في زوايته للأذكار والأوراد الصوفية وغيرها ، لا بل اتخاذ بعض المهاجرين لها سكنًا مؤقتًا ريثما يدبرون أمورهم ، لهذا أطلقوا عليه هذه النسبة ظنًا منهم أنه واحدًا منهم ، وهذا ما تراه في ترجمته الموجزة المقتضبة التي ذكرها المؤرخون في حديثهم عن زاويته وأسرته ببيروت( ) .
9- تاسعًا :- الاحتمال التاسع : لأن الشيخ حسن الراعي تزوج من غير أقاربه ، ومن غير بلده الأصلي ، فقد جاء في فقه الشافعية "ويستحب ألا ينكح القرابة القريبة ، فإن الولد يخلق ضاوياً ، يعني ضئيلاً محمَّقاً هزيلاً . قال صلى الله عليه وسلم : « أغربوا ولا تضووا»( ). وتبع الحنابلة الشافعية في ذلك ، قال ابن قدامة : « وَيَخْتَارُ – أي طالب الزواج - الْأَجْنَبِيَّةَ ، فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ ، وَلِهَذَا يُقَالُ : اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا يَعْنِي : انْكِحُوا الْغَرَائِبَ كَيْ لَا تَضْعُفَ أَوْلَادُكُمْ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْغَرَائِبُ أَنْجَبُ ، وَبَنَاتُ الْعَمِّ أَصْبَرُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْعَدَاوَةُ فِي النِّكَاحِ ، وَإِفْضَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ ، فَإِذَا كَانَ فِي قَرَابَتِهِ أَفْضَى إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا »( ). ومعلوم أن الشيخ حسن الراعي كان شافعي المذهب ، ولا زالت أسرته وذريته في قطنا على هذا المذهب ، وسواء تزوج الشيخ حسن الراعي من الغرائب لاضطراره إلى ذلك بحكم واقعه الاجتماعي كغريب ، أو بحكم تدينه واتباعه للمذهب الشافعي وتفضيله الزواج من الغرائب ، فإنه قد تزوج أولاً من أسرة من قطنا ، أي من أسرة غريبة عن أسرته ، وأنجبت له من أبنائه على الراجح ولده عبد الرحيم الذي كان يكنى به " أبو عبد الرحيم " ، وولده عبد العال ، ويذكر كبار السن في قطنا أن الصىليبيين أبادوا أهل قطنا ، وأن الشيخ حسن الراعي وابنه عبد العال نجيا من تلك المجزرة البشعة ، حيث اختبآ في مغارة من مغاور قطنا ، ولم يهتدِ الصليبيون إلى موضعهما ، وأعمى الله أبصارهم عنهما ، فنجيا من القتل والإبادة التي أصابت سكان قطنا بما فيهم زوجته ، لذا اضطر الشيخ حسن إلى الزواج مرة ثانية من امرأة من إحدى القرى المجاورة لبلدة قطنا ، ومن المحتمل أن يكون ابنه جبارة منها . ونلمح في هذا الزواج احتمالاً من احتمالات إطلاق هذه النسبة عليه ، فأهل اللغة يقولون : اغترب فلانٌ : إذا تزوَّج إلى غير أقاربه . وفي الحديث « اغترِبوا لا تُضْووا »( ). قال الشارح : « ضاويًّا » أَي : نحيفًا ضَعِيفًا لِأَن شَهْوَته لَا تتمّ عَلَى قريبَة . وَقَالَ الإِمَام : أَرَادَ ضئيلاً نحيفَ الْخلق هزيلاً . وَابْن الصّباغ وَجَّه ذَلِك أَعنِي : الحكم فِي الْمَسْأَلَة بِأَن الْوَلَد يكون الْغَالِب عَلَيْهِ الْحمق ، وَفِي « الْبَيَان » عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ : إِذا تزوَّج الرجلُ فِي عشيرته فالغالب عَلَى وَلَده الْحمق . قال الشارح : وَهَذَا يشْهد لَهُ الْوَاقِع . وَأورد القَاضِي حسينُ حَدِيثًا ، وَهُوَ : « اغتربوا لَا تُضووا » يَعْنِي : كي لَا تُضووا الْوَلَد ، وَلم أر أَنا – القائل ابن الملقن - فِي الْبَاب فِي كتابٍ حَدِيثي مَا يسْتَأْنس بِهِ ، إِلَّا مَا وجدتُ فِي « غَرِيب الحَدِيث » لإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث عبد الله بن المؤمل ، عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ : قَالَ عمر لآل السَّائِب : « قد أضويتم ؛ فأنحكوا فِي النوابغ » قَالَ الْحَرْبِيّ : الْمَعْنى : تزوجوا الغرائب . قَالَ : وَيُقَال : « اغتربوا ؛ لَا تضووا » . أَي : تزوَّجوا الغرائب ، لَا تزوَّجوا أقرباءكم ؛ فَيَجِيء الْوَلَد ضاويًّا ، أَي : مهزولاً . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد : وَقد يجوز أَن تَقول : غُلَامًا صاويًّا - بالصَّاد الْمُهْملَة - من قَوْلهم : صَوت النَّخْلَة تصوى صويًّا ، إِذا يَبِسَتْ ، ولبعض أهل الْأَدَب :
إِن طلبتَ الإنجابَ فانكح غَرِيبًا وَإِلَى الْأَقْرَبين لَا تتوسل
فأنبت الثِّمَار طيبًا و حســنًا ثَمَر غصنه غَرِيب موصــل( )
وقد تبع المعاصرون هذا القول ، ومنهم محمد علي ريان إذ قال : ومن أهم الصفات التي يجب الحرص على توافرها في الزوجة : « ألَّا تكون ذات قرابة قريبة , وذلك بأن تكون أجنبية , أو ذات قرابة بعيدة , ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – قوله : « اغتربوا لا تُضْووا » أي : تزوجوا في بعاد الأنساب لا يأتي النسل ضعيفًا . ونقل عن الشافعي قوله : « يستحب له أن لا يتزوج من عشيرته » ، قال صاحب المغني : الأولى حمل كلام الشافعي - رضي الله عنه - على عشيرته الأقربين , ولا يشكل على ذلك بتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب - رضي الله عنها- مع أنها بنت عمته , لأنه تزوجها بيانًا للجواز ، ولا بتزوج علي فاطمة - رضي الله عنها - لأنها بعيدة في الجملة ؛ إذ هي بنت ابن عمه , وأيضًا بيانًا للجواز»( ). وقال معاصر آخر في مبحثه عن : الأسس التي وضعها الشارع لاختيار الزوجين : « أن تكون الزوجة بعيدة عن الرجل ، أي أنها ليست من أسرة الرجل وبيئته وأقاربه ، وذلك لأن لكل أسرة من الأسر خصائص ومميزات تتميز بها عن الأخرى ، فإذا كانت المرأة بعيدة اكتسب الأولاد خصائص الأسرتين ، ولا شك أن خصائص الأسرتين أقوى من خصائص أسرة واحدة ، ويكون الولد أنجب ، ولهذا يقال اغتربوا لا تضووا ، يعني انكحوا الغرائب كي لا يضعف أولادكم ، وقيل المعنى أنكحوا في الغرائب دون القرائب فإن ولد الغريبة أنجب ، فبنت العم أصبر والبعيدة أنجب »( ) . وبناء على هذا يكون الشيخ حسن الراعي قد طبق هذا المبدأ في حياته مرتين .
10- عاشرًا : - بسبب تمسكه الشديد بتعاليم الدين الإسلامي ، وحرصه البالغ على الدعوة إلى الله تعالى ، وبروزه على أقرانه في بيروت خاصة وبلاد الشام عامة ، وظهور تقواه وزهده وورعه ظهورًا واضحًا بينًّا بين الناس ، بحيث صار معروفًا مشهورًا به في ذلك العصر . وفي الحقيقة فإن كل إنسان في الواقع البشري يتميز عن الآخرين ببعض الخصائص والصفات الطبعية والمكتسبة ، الجسمية والمعنوية ، وهذا التمايز من مظاهر قدرة الله تعالى ، ليحدث التكامل والشمول الذي أراده الله تعالى لهذا النوع البشري ، ويشهد على ذلك التمسك ما ورد فِي الْحَدِيثِ : عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ »( ) ؛ قِيلَ : أَراد بِهِمْ أَهلَ الشَّامِ ، لأَنهم غَرْبُ الْحِجَازِ ؛ وَقِيلَ : أَراد بِالْغَرْبِ الحِدَّةَ والشَّوْكَةَ ، يُرِيدُ أَهلَ الْجِهَادِ ؛ وَقَالَ ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ : الغَرْبُ هُنَا الدَّلْوُ ، وأَراد بِهِمُ العَرَبَ لأَنهم أَصحابها ، وَهُمْ يَسْتَقُونَ بِهَا( )
11- حادي عشر : - هو أن المؤرخين المسلمين القدماء والناس أطلقوا لفظ " المغاربة "على أتباع الدولة العبيدية " الفاطمية " لأنهم أسسوا دولتهم في بلاد الغرب " تونس والجزائر " أولاً ثم انتقلوا منها بجيوشهم المكونة من المغاربة إلى بلاد الشرق ومنها مصر والشام والحجاز، فلما رأى أهل بيروت الشيخ حسن الراعي ظنوه منهم ، لمظاهر التقارب الجسمية أو الفكرية والاعتقادية ، فقد تكون ملامحه الجسمية قريبة الشبه من ملامحهم ، وقد تكون بعض الأفكار والاعتقادات والمصطلحات التي سمعوا بها متقاربة بين بعض أفكار الصوفية التي يحملها وأفكار الشيعة الباطنية مثل : القول بالظاهر والباطن ، والحقيقة والشريعة ، والتأويل الباطني لبعض نصوص الكتاب والسنة . وقولهم بالسفر الظاهري للمريد إلى شيخ يربيه حيث نص القشيري في رسالته على ذلك ، وبالسفر القلبي الباطني إلى الله تعالى للوصول إليه عن طريق سلسلة من الرياضات التي ابتدعوها ، والأحوال والمقامات التي يمرون عليها في ذلك السفر الروحي للوصول إلى غايتهم المقصودة ، وبغيتهم المأمولة ، وأمنيتهم المطلوبة . ولظهور دعاتهم بمظهر الزهاد والنساك والعبَّاد أمام الناس لجذبهم إلى طريقتهم ، وتأنيسهم لمذهبهم .
12- ثاني عشر : - أن الصوفية ومنهم الشيخ حسن الراعي أطلق عليهم ذلك الاسم لقلة أعدادهم عند بداية نشأة طرقهم كقلة عدد غرباء المغاربة بين المشارقة ، لذا لقبوا بذلك ، لشعورهم بالغربة في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ، غربة في التصورات والمفاهيم ، غربة في القيم والموازين ، غربة في الأفكار والمعتقدات ، غربة في السلوك والأخلاق ، غربة في الأحاسيس والمشاعر ، غربة في الحركات والسكنات ، غربة في الأفعال والتصرفات ، غربة في الكلام والأحاديث ، غربة في كل شيء في حياتهم عن حياة الناس . ونجد هذا في إطلاق كبار الصوفية على أنفسهم لقب " الغرباء" فمن ذلك قول صاحب "منازل السائرين في باب الغربة " موضحًا هذا الأمر: « قَالَ الله عز وَجل : « فلولا كَانَ من الْقُرُون من قبلكُمْ أولو بَقِيَّة ينهون عَن الْفساد فِي الأَرْض إِلَّا قَلِيلا مِمَّن أنجينا مِنْهُم »( ). الاغتراب : اسْم يشار بِهِ إِلَى الِانْفِرَاد عَن الْأَكفاء ، وَهُوَ على ثَلَاث دَرَجَات : الدرجَة الأولى : الغربة عَن الأوطان ، وَهَذَا الْغَرِيب مَوته شَهَادَة ، وَيُقَاس لَهُ فِي قَبره من متوفاه إِلَى وَطنه ، وَيجمع يَوْم الْقِيَامَة إِلَى عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام( ). والدرجة الثَّانِيَة : غربَة الْحَال ، وَهَذَا من الغرباء الَّذين طُوبَى لَهُم ، وَهُوَ رجل صَالح فِي زمَان فَاسد بَين قوم فاسدين ، أَو عَالم بَين قوم جاهلين ، أَو صديق بَين قوم منافقين . والدرجة الثَّالِثَة : غربَة الهمة ، وَهِي غربَة طلب الْحق ، وَهِي غربَة الْعَارِف ؛ لِأَن الْعَارِف فِي شَاهده غَرِيب ، ومصحوبه فِي شَاهده غَرِيب ، وموجوده فِيمَا يحملهُ علم ، أَو يظهره وجد ، أَو يقوم بِهِ رسم ، أَو تُطِيقهُ إِشَارَة ، أَو يَشْمَلهُ اسْم غَرِيب . فغربة الْعَارِف غربَة الغربة ، لِأَنَّهُ غَرِيب الدُّنْيَا وغريب الْآخِرَة »( ). قال ابن القيم في غربة الرَّاضِي بِدِينِ اللهِ : « فَإِذَا قَالَ – الله - ، أَوْ حَكَمَ ، أَوْ أَمَرَ ، أَوْ نَهَى : رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا . وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ ، وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا ، وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا ، أَوْ قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَشَيْخِهِ وَطَائِفَتِهِ . وَهَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ . فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَوْحِشَ مِنْ الِاغْتِرَابِ وَالتَّفَرُّدِ ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ عَيْنُ الْعِزَّةِ ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَرُوحُ الْأُنْسِ بِهِ ، وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا . بَلِ الصَّادِقُ كُلَّمَا وَجَدَ مَسَّ الِاغْتِرَابَ ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ ، وَتَنَسَّمَ رُوحَهُ ، قَالَ : اللَّهُمَّ زِدْنِي اغْتِرَابًا ، وَوَحْشَةً مِنَ الْعَالَمِ ، وَأُنْسًا بِكَ . وَكُلَّمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الِاغْتِرَابِ ، وَهَذَا التَّفَرُّدِ : رَأَى الْوَحْشَةَ عَيْنَ الْأُنْسِ بِالنَّاسِ ، وَالذُّلَّ عَيْنَ الْعِزِّ بِهِمْ . وَالْجَهْلَ عَيْنَ الْوُقُوفِ مَعَ آرَائِهِمْ وَزُبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ ، وَالِانْقِطَاعَ عَيْنَ التَّقَيُّدِ بِرُسُومِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ . فَلَمْ يُؤْثِرْ بِنَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ ، وَلَمْ يَبِعْ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحِرْمَانَ . وَغَايَتُهُ : مَوَدَّةُ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ ، وَحَقَّتِ الْحَقَائِقُ ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَبُلِيَتِ السَّرَائِرُ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ دُونِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوَاقِعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ ، وَمَا الَّذِي يَخِفُّ أَوْ يَرْجَحُ بِهِ الْمِيزَانُ »( ). وقول ابن عربي : وقال بعضهم : غرائب الأمر عند الغرباء( ). وقال الشعراني : والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان ، صار غريبًا في الأكوان( ) . وقال الشعراني : « من أدبهم الاغتراب عمدًا عن كل موضع عظمهم الناس فيه وخافوا منه الفتنة ، وهجران من لا خير فيه مع عدم اعتقاد السوء فيه »( ) . وقال ابن رجب في وصف أهل الطريقة : وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه : « علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقًا ، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال ، وإن كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا لم ينسني حركت قلبه ، فإذا تكلم تكلم بي ، وإذا سكت سكت بي ، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي »( ) . وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء ، غربتهم أعز الغربة ، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان : ظاهرة وباطنة . فالظاهرة : غُربة أهل الصلاح بين الفساق ، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق ، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق ، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلبوا الخشية والإشفاق ، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق . وأما الغربة الباطنة : فغربة الهمة ، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد ، أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم ، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه . فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم : « همتهم غير همة الناس ، وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس ، ودعاؤهم غير دعاء الناس » . وسُئل عن أفضل الأعمال فبكى وقال : « أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره » . وقال يحيى بن معاذ : « الزاهد غريب الدنيا ، والعارف غريب الآخرة » . يشير إلى أن الزهد غريب بين أهل الدنيا ، والعارف غريب بين أهل الآخرة ، لا يعرفه العباد ولا الزهاد ، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته . وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته ، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة . قال يحيى ابن معاذ : « العابد مشهور والعارف مستور ، وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه » . وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب العبد الخفي التقي »( ) . وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء ، الذين إذا حضروا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم »( ) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : « طوبى لكل عبد لم يعرف الناس ولم تعرفه الناس ، وعرفه الله منه برضوان ، أولئك مصابيح الهدى ، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة ». وقال ابن مسعود رضي الله عنه : « كونوا جدد القلوب ، خلقان الثياب ، مصابيح الظلام ، تخفون على أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء »( ) . فهؤلاء أخص أهل الغربة ، وهم الفرارون بدينهم من الفتن ، وهم النزاع من القبائل الذين يُحشرون مع عيسى - عليه السلام - وهم بين أهل الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا ، وتخفى حالهم غالبًا على الفرقتين»( ). وقال الدباغ : « فسيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - شرب من النور المكرم فحصل له مقام الغربة ، وهو مقام يحمل صاحبه على السياحة وعدم القرار في موضع واحد»( ) . ويحاول الصوفية تعضيد مذهبهم الاغترابي هذا ببعض الأدلة الواردة في الشرع وحملها على مذهبهم هذا ، من أمثال الأحاديث والآثار المروية في الحث على الغربة ، ومنها عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي ، فَقَالَ :« كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ »( ) ؛ ومنها الحديث الذي بيَّن فيه غربة الإسلام التي كانت في بدايته ، لقلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وعودة هذه الغربة في آخر الزمان ، ثم صفة هؤلاء الغرباء التي تميزهم عن غيرهم ممن حولهم . فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال إِنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : « بَدَأَ الإِسلامُ غريبًا ، وسَيَعُودُ كما بدَأَ غريبًا ، فطُوبَى للغرباءِ ( ) » . وعن عبد الرحمن بن سنة : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول : « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا ، ثُمّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء » . قيل : يا رسول الله ، من الغرباء ؟ قال : « الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه ِ، ليأزرن الإِيمانُ إِلى الْمَدِينَةِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليأزرن الإِسْلاَمُ إِلى مَا بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ كَمَا تأزر الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا »( ) . ورواه آخرون وزادوا : « لَيَنْحَازَنَّ الإِيمَانُ إِلَى هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ الدِّمَنْ »( ). وحَدِيث « الغرباء : نَاس قَلِيلُونَ صَالِحُونَ » أخرجه أَحْمد من حَدِيث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : « كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَوْمًا ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ ، فَقَالَ : « يَأْتِي قَوْمٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورُهُمْ كَنُورِ الشَّمْسِ » . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَحْنُ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « لَا . وَلَكُمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّهُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ »( ) . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَزَادَ فِي رواية ثانية : « طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ، طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ » . قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ : « نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسٍ سُوءٌ كَثِيرٌ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ »( ). ومنها أنهم الذين يحيون ما أماته الناس من سنة الرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ، ففي الحَدِيث : أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الغرباءِ ، فَقَالَ : « الَّذين يُحيونَ مَا أَماتَ النَّاسَ من سُنتي »( ) ، ومنها أن الصفة الغالبة على هؤلاء الغرباء الحب في الله ، وهي التي تميزهم عن غيرهم من المسلمين الذين يعيشون بينهم ، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : « أَتَدْرُونَ أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ ؟» قُلْنَا : الصَّلَاةُ ، قَالَ : « الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ » قُلْنَا : الصِّيَامُ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرْنَا الْجِهَادَ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحَبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ »( ) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَرَّقَ الله بين أهل الجنة وأهل النَّارِ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ اثْنَيْنٍ وَخَمِيسٍ وُضِعَتْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ حَوْلَ الْعَرْشِ ، وَمَنَابِرَ مِنْ زبرجد وياقوت ، فتقول الملائكة الموكل بِهَا : يَا رَبِّ ، لِمَنْ وَضَعْتَ هَذِهِ الْمَنَابِرَ؟ فَيُلْقَى عَلَى أَفْوَاهِهِمْ : لِلْغُرَبَاءِ ، فَيَقُولُونَ : يَا رَبُّ ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ فَيُلْقَى عَلَى أَفْوَاهِهِمْ : هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَوْنَهُ ... الحديث"( ). قَالَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى » قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ ، قَالَ : « هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا ، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ »( ) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ « أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »( ). والصفة الثانية التي يكونون عليها : أنهم أقلية من كل قبيلة تنزع إلى هذا الدين وتتمسك به ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ . قَالَ : قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ : النُّزَّاعُ( )مِنَ الْقَبَائِلِ »( ). ومنها أن من صفات هؤلاء الغرباء : الفرار من مكان لآخر حفاظًا على دينهم ، أي الهجرة عن الأهل والعشيرة والأوطان ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : وَكَانُوا يَأَتُونَهُ بِالْوَهْطِ ، فَقَالَ : « أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْغُرَبَاءُ » قِيلَ : وَأَيُّ الْغُرَبَاءِ ؟ قَالَ : « الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ , يَجْتَمِعُونَ( ) إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ »( )، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى الْغُرَبَاءُ » , قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ : « الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ , يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ »( ). و عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ، فقالوا : يا رسول الله ، ومن الغرباء؟ قال الفرارون بدينهم يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة مع عيسى بن مريم »( ). ويوجد مجموعة كثيرة من أحاديث " الغرباء " موضوعة أو لا أصل لها أو باطلة أعرضنا عنها( ) ...الخ . وقال الفضيل : « ليس الغريب من يمشي من بلد إلى بلد ولكن الغريب صالح بين فساق »( ).
13- الثالث عشر :- إن الشيخ حسن الراعي كان من أهل السنة ، ويرجح أنه جاء إلى بيروت بعد تحريرها من الصليبيين حيث حررها صلاح الدين الأيوبي مع عدد من المدن الساحلية والداخلية بعد معركة حطين سنة 583هـ ليعزل القدس عن وصول أي إمدادت صليبية إليها ، ثم يتجه لتحريرها ، وذلك في خطة بارعة استفادها من تاريخ الفتح الإسلامي أيام الخلفاء الراشدين للقدس . ولما كانت المنطقة قد رزحت لفترة طويلة تحت الحكم العبيدي " الفاطمي " الشيعي ، وانتشر فيها التشيع تبعًا لمذهب الدولة ، واعتصم أهل السنة بالمدن الكبرى ، ولم تكن بيروت من المراكز الكبرى آنذاك كالوقت الحالي ، إذ كانت طرابلس قد خطفت تلك الشهرة ، وانتقلت من تحت الحكم العبيدي إلى الحكم الصليبي حيث أقيمت إمارة طرابلس الصليبية ، لذلك فإن عدد أهل السنة قل في بيروت وغيرها ، وجاء تحريرها من الصليبيين فرصة ذهبية لإعادة نشر مذهب أهل السنة والجماعة ، أوإعادة إحيائه في نفوس سكانها ، ومن هنا نلمح أهمية الدور الذي قام به الشيخ حسن الراعي في هذا المجال ، حيث كان للزاوية التي أنشأها فيها دور ريادي هام على هذا الصعيد الديني ، في فترة كان صلاح الدين قد قضى على الدولة العبيدية في مصر ، وبدأ بنشر المذهب السني بكل الوسائل الممكنة في جميع أرجاء البلاد التي يحكمها ومنها بلاد الشام . وقد عبر فقيه بيروت والشام الأوزاعي عن غربة أهل السنة في آخر الزمان( ) في تفسيره لقوله صلى الله عليه وسلم : « بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ » : « أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد » . ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة ، فكان الحسن يقول لأصحابه : « يا أهل السنة ! ترفقوا - رحمكم الله - فإنكم من أقل الناس » . وقال يونس بن عبيد : « ليس شيء أغرب من السنة ! وأغرب منها من يعرفها » . وروي عنه أنه قال : « أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريبًا ، وأغرب منه من يعرفها » . وعن سفيان الثوري قال : « استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء » . ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة : طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات . ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول : « أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال » ، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصائل السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم : السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة ، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة . وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم ، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه ، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء : « قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم » وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم ، وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم ، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم . ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم ، لأنهم لا يجدون أعوانًا في الخير . وهؤلاء الغرباء قسمان : أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس ، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس . وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما . وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن لكل شيء إقبالًا وإدبارًا ، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به ، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا ، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا ، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانًا ولا أنصارًا »( ) .
14- الرابع عشر : ولأهل الأدب أقوالهم التي تناسب تذوقهم الأدبي وشعورهم الوجداني المرهف في التعبير عن إحساسهم بغربة القبر أول منازل الآخرة ، ومن أفضل ما قرأت في هذا الصدد تلك القصيدة التي تعبر عن غربة جديدة كل الجدة ، لم يستشعرها أحد قبل صاحبها ، وإن استشعرها لكنه لم يعبر عنها كما عبر عنها هذا الشاعر ، ولهذا تركت بصماتها على كل الأجيال ، منذ عهد التابعين وإلى عصرنا الحاضر ، لأنها تخاطب الوجدان القابع في باطن كل إنسان ، وقلبه الذي بين جنبيه ، وهي غربة الانتقال من دار الدنيا إلى القبر أول منازل الآخرة ، وهي : قصيدة ... ليس الغريب ... لزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما . ولنترك القارئ الكريم لحظات يستروح عبقها الروحي العاطفي ، ودقائق يتنسم فيها نسمات الغربة التي عاشها صاحب الأبيات معاناة شعورية ، وتجربة وجدانية متألقة ، ورحلة نفسية في عالم غيبي مجهول ، لم يطلع على ما فيه إلا إيمانًا بما جاء به الخبر الصادق ، وإحساسًا عاطفيًا عالي النبضات ، رائع القسمات يستشف به ما تخفيه القلوب ، وتسكنه الضمائر :
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّــأمِ واليَمَنِ إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحــــدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِـــبَ لَـــهُ حَــــــقٌّ لِغُرْبَتـِهِ على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ
سَــفَري بَعيــدٌ وَزادي لَـنْ يُبَلِّغَنـي وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والمــوتُ يَطلُبُنـي
وَلي بَقايــا ذُنـــوبٍ لَسْـــتُ أَعْلَمُها الله يَعْلَمُهــا في السِّــــــــرِ والعَلَنِ
مـَا أَحْلَـــمَ اللهَ عَني حَيْـــثُ أَمْهَلَني وقَدْ تَمــادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْـــتُرُنِي
تَمُرُّ ســـــــاعـاتُ أَيّـَامــي بِلا نَدَمٍ ولا بُكاءٍ وَلاخَـــــوْفٍ ولا حَــــزَنِ
أَنَـا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْــوابَ مُجْتَــهِداً عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنـي
يَـا زَلَّةً كُتِبَـــتْ في غَفْــلَةٍ ذَهَبَــتْ يَـا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْســي وَأَنْدِبُـهـا وَأَقْطَعُ الدَّهْـــــرَ بِالتَّذْكِيـرِ وَالحَزَنِ
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهــلِ مُنطَــرِحــاً عَلى الفِراشِ وَأَيْديــــهِمْ تُقَــــلِّبُنــي
وَقد أَتَــوْا بِطَبيــبٍ كَـيْ يُعالِجَـــنـي وَلَمْ أَرَ الطِّـــــبَّ هـذا اليـومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها مِن كُلِّ عِــــرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها وصَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِــرَا الكَفَنِ
وَقـامَ مَنْ كانَ حِبَّ النّاسِ في عَجَلٍ نَحْوَ المُغَسِّـــــلِ يَأْتينـي يُغَسِّـلُنــي
وَقــالَ يـا قَوْمِ نَبْغِي غاسِـــلاً حَذِقاً حُراً أَرِيباً لَبـِيـبـاً عَارِفــاً فَطِـــــنِ
فَجــاءَني رَجُــلٌ مِنْهُمْ فَجَــــرَّدَني مِنَ الثِّيـــابِ وَأَعْــرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْــواحِ مُنْطَرِحًا وَصـَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يُنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّــلَني غُسْــــلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَـوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُـــــــوني ثِيابـاً لا كِمــامَ لهـا وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني
وأَخْرَجــوني مِنَ الدُّنيـا فَوا أَسَــفاً عَلى رَحِيــلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّـغُــــــــنـي
وَحَمَّلــوني على الأْكتـافِ أَربَعَــةٌ مِنَ الرِّجـالِ وَخَلْفِـي مَنْ يُشَـــيِّعُني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا خَلْفَ الإِمـَامِ فَصَلَّى ثــمّ وَدَّعَــــني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَــلاةً لا رُكــوعَ لهـا ولا سُـــــــجـودَ لَعَلَّ اللـهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني إلـى قَبــري على مَهَـــلٍ وَقَدَّمُوا واحِــــــــداً مِنهـم يُلَحِّـدُنـي
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني وَأَسْكَبَ الدَّمْـعَ مِـنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِمــاً بِالعَـــزمِ مُشْــــــتَمِلاً وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَـوْقِي وفـارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّـــرْبَ واغْتَنِموا حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبـــــرِ لا أُمٌّ هنــاك ولا أَبٌ شَـــــفـيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُــــــنــي
فَرِيدٌ .. وَحِيدُ القبرِ، يــا أَسَــــــــفـاً عَلى الفِراقِ بِلا عَمَــــــلٍ يُزَوِّدُنـي
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَـني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ مـا أَقـــــــولُ لهم قَدْ هــَالَني أَمْـــرُهُمْ جِـــداً فَأَفْزَعَني
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُــــــــؤالِهـِمُ مَـالِي سِـــــوَاكَ إِلهـي مَنْ يُخَلِّصُنِي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يــا أَمَــــــلي فَإِنَّني مُوثَــــــقٌ بِالذَّنْـــــبِ مُرْتَهــَنِ
تَقاسمَ الأهْـلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْـرِي فَأَثْقَلَني
واســـتَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لهـا بَدَلي وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّـــــــــكَـنِ
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْــــــداً لِيَخْدُمَهــا وَصَارَ مَـالي لهم حِــــلاً بِلا ثَمَــــنِ
فَلا تَغُـــــــــــــرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْــــرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنـَاعَــةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَــــــــــةُ البَدَنِ
يَـا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْـــدَهُ ثَمَراً يَا زَارِعَ الشَّـرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يـَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي فِعْلاً جميـــــــلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَـــناً عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
ثمَّ الصَّلاةُ على الْمُختـارِ سَــــــيِّدِنـا مَا وَضّـأ البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
والحمدُ لله مُمْسِــــــــينَـا وَمُصْبِحِنَا بِالخَيْـرِ والعَفْوْ والإِحْســانِ وَالمِنَنِ( )
15- الخامس عشر : - ومن تلك الاحتمالات لهذه التسمية " الأسرار الغريبة ، والعلوم اللدنية العجيبة ، والمصطلحات الغامضة ، والرموز والإشارات " التي يتداولها الصوفية – ومنهم الشيخ حسن الراعي - في مجالسهم ، والأعمال الغريبة التي يقومون بها مما لا عهد للناس بها من قبل ، والأذكار الجديدة المحدثة من رجالات التصوف الكبار، وطرائق التربية الغريبة التي ابتدعوها ، والمعارف التي أظهروها مما لم يكن مألوفًا للناس قبل ذلك . ولعل هذا الاستغراب من الناس لكل ذلك هو الذي جعلهم يطلقون عليهم تسمية "المغاربة " والغرباء " – ومنهم الشيخ حسن الراعي - ، لأنهم يأتون بالغرائب والأمور العجيبة الخارقة للعادة " الكرامات " والأمور الغيبية التي لا مجال للعقل البشري فيها ، كما يتكلمون على بعض ما يظهر لهم من مكاشفات لبعض الناس وأسرارهم عن طريق الفراسة والكهانة والاتصال بالجن وغيرها. ويؤيد ذلك ما نقله محيي الدين بن عربي عن بعضهم قوله : غرائب الأمر عند الغرباء( ) . وكذلك قول الشعراني : والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان ، صار غريبًا في الأكوان( ) ، السالف ذكرهما . ويشهد لهذا الأمر من اللغة قول العرب : الغَريبُ : الغامض من الكلام ، وغربت الكلمة غرابة ، وصاحبه مُغْرِبٌ( ).وَالْخَبَر المُغرِب : الَّذِي جَاءَ غَرِيبًا حَادِثًا طَرِيفًا ، وأغربَ الرجُلُ إغراباً :