تابع لقب الفتى - الحلقة الثانية
الحلقة الثانية
مراتب الفتوة و دَرَجَاتُها
قال الهروي : « الْفُتُوَّة : أَنْ لَا تَشْهَدَ لَكَ فَضْلًا ، وَلَا تَرَى لَكَ حَقًّا » ( ) . والناس في هذا على ثلاث مراتب :
1- المرتبة العليا وهي أشرف المراتب : أَن تغيب بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك ، وتغيب بشهادة حقوق الخَلْق عليك عن شهادة حقوقك عليهم ، وهذا قلب الفتوّة وإِنسان عينها ، فأَشرف الناس هم أَهل هذه المرتبة .
2- المرتبة الدنيا : وهي أَخسّ المراتب ، وأهلها عكسهم . وَهُمْ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ فَضَائِلِهِمْ عَنْ عُيُوبِهِمْ ، وَشُهُودِ حُقُوقِهِمْ عَلَى النَّاسِ عَنْ شُهُودِ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ .
3- المرتبة الوسطى : وأهلها ممَنْ شَهِدَ هَذَا وَهَذَا ، فَيَشْهَدُ مَا فِي الْعَيْبِ وَالْكَمَالِ ، وَيَشْهَدُ حُقُوقَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَحُقُوقَهُ عَلَيْهِمْ( ) .
أما درجات الفتوة فهي ثلاث أيضًا :
أ- الدرجة الأولى : قال الهروي : « تَرْكُ الْخُصُومَةِ ، وَالتَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ ، وَنِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ » ( ) وَهِيَ تتضمن ثَلَاثة منازل :
1- المنزلة الْأُولَى : « تَرْكُ الْخُصُومَةِ ». هَذه المنزلة مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالتَّخَلِّي ، وَهيَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ أَحَدًا ، فَلَا يُنَصِّبُ نَفْسَهُ خَصْمًا لِأَحَدٍ غَيْرَهَا ، فَهِيَ خَصْمُهُ . وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَيْضًا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ : لَا يُخَاصِمُ بِلِسَانِهِ ، وَلَا يَنْوِي الْخُصُومَةَ بِقَلْبِهِ ، وَلَا يُخْطِرُهَا عَلَى بَالِهِ . هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ . وَأَمَّا فِي حَقِّ رَبِّهِ : فَالْفُتُوَّةُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاللَّهِ ، وَفِي اللَّهِ ، وَيُحَاكِمَ إِلَى اللَّهِ ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : « وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ » وَهَذِهِ دَرَجَةُ فُتُوَّةِ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .
2- المنزلة الثانية « التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ » ، فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَحَدٍ زَلَّةً يُوجِبُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَخْذَهُ بِهَا : أَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا، لِئَلَّا يُعَرِّضَ صَاحِبَهَا لِلْوَحْشَةِ. وَيُرِيحَهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعُذْرِ . وَفُتُوَّةُ التَّغَافُلِ : أَرْفَعُ مِنْ فُتُوَّةِ الْكِتْمَانِ مَعَ الرُّؤْيَةِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ حَاتِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، فَخَجِلَتْ . فَقَالَ حَاتِمٌ : ارْفَعِي صَوْتَكِ . فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ . فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ ، وَقَالَتْ : إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ ، فَلُقِّبَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ ، وَهَذَا التَّغَافُلُ هُوَ نِصْفُ الْفُتُوَّةِ .
3- المنزلة الثالثة : « نِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ » ، فَهُوَ بِأَنْ تَنْسَى أَذِيَّةَ مَنْ نَالَكَ بِأَذًى ، لِيَصْفُوَ قَلْبُكَ لَهُ ، وَلَا تَسْتَوْحِشَ مِنْهُ . قُلْتُ – ابن القيم -: وَهُنَا نِسْيَانٌ آخَرُ أَيْضًا ، وَهُوَ مِنَ الْفُتُوَّةِ ، وَهُوَ نِسْيَانُ إِحْسَانِكَ إِلَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ ، وَهَذَا النِّسْيَانُ أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ . وَفِيهِ قِيلَ :
يَنْسَى صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
ب - الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : : قَالَ الهروي : « أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ ، وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيكَ ، وَتَعْتَذِرَ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ ، سَمَاحَةً لَا كَظْمًا ، وَمَوَدَّةً لَا مُصَابَرَةً »( ). هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْعَبُ ، فَإِنَّ الْأُولَى : تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّغَافُلَ ، وَهَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ، وَمُعَامَلَتَهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَكَ بِهِ ، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ خُطَّتَيْنِ : فَخُطَّتُكَ : الْإِحْسَانُ ، وَخَطَّتُهُ : الْإِسَاءَةُ . وَفِي مَثْلِهَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودُكُمُ وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ
وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَنْظُرْ إِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ يَجِدْهَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ مِنْهَا بِحَسَبِ سِهَامِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَجْمَعَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْأَكَابِرِ يَقُولُ : وَدِدْتُ أَنِّي لِأَصْحَابِي مِثْلُهُ لِأَعْدَائِهِ وَخُصُومِهِ ، وَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُمْ . وَجِئْتُ يَوْمًا مُبَشِّرًا لَهُ بِمَوْتِ أَكْبَرِ أَعْدَائِهِ ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً وَأَذًى لَهُ . فَنَهَرَنِي وَتَنَكَّرَ لِي وَاسْتَرْجَعَ ، ثُمَّ قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ فَعَزَّاهُمْ ، وَقَالَ : إِنِّي لَكُمْ مَكَانَهُ ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَمْرٌ تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ إِلَّا وَسَاعَدْتُكُمْ فِيهِ . وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ ، فَسُّرُوا بِهِ وَدَعَوْا لَهُ ، وَعَظَّمُوا هَذِهِ الْحَالَ مِنْهُ . وَأَمَّا « الِاعْتِذَارُ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ » فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي بَادِي الرَّأْيِ ، إِذْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ جِنَايَةٌ تُوجِبُ اعْتِذَارًا ، وَغَايَتُكَ : أَنَّكَ لَا تُؤَاخِذُهُ . فَهَلْ تَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ ؟ وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّكَ تُنْزِلُ نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْجَانِي لَا الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَالْجَانِي خَلِيقٌ بِالْعُذْرِ . وَالَّذِي يُشْهِدُكَ هَذَا الْمَشْهَدَ : أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا سُلِّطَ عَلَيْكَ بِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : « وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ »( ). فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّكَ بَدَأْتَ بِالْجِنَايَةِ فَانْتَقِمْ بِالِلَّهِ مِنْكَ عَلَى يَدِهِ - كُنْتَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِذَارِ . وَالَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْكَ هَذَا كُلَّهُ : مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَعَلَيْكَ بِهَا ، فَإِنَّ فِيهَا كُنُوزَ الْمَعْرِفَةِ وَالْبِرِّ . وَقَوْلُهُ : « سَمَاحَةً لَا كَظْمًا ، وَمَوَدَّةً لَا مُصَابَرَةً » يَعْنِي : اجْعَلْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنْكَ صَادِرَةً عَنْ سَمَاحَةٍ ، وَطَيِبَةِ نَفْسٍ ، وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ ، لَا عَنْ كَظْمٍ ، وَضِيقٍ وَمُصَابَرَةٍ . فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي خُلُقِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ يُوشِكُ أَنْ يَزُولَ وَيَظْهَرَ حُكْمُ الْخَلْقِ صَرِيحًا فَتُفْتَضَحَ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِصْلَاحَ الْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْقَلْبِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرِ الْمُصَابَرَةِ وَالْكَظْمِ ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ .
ج - الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الهروي : « أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ ، وَلَا تَشُوبَ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ ، وَلَا تَقِفَ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ » ( ). هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ . أَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِهِ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ : فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ ، إِذْ يَقُولُ : « وَفِي عِلْمُ الْخُصُوصِ : مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا »( ) . وَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ وَتَقْدِيرٍ ، وَالْمُرَادُ : أَنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ عَلَى قَدَمِ الْيَقِينِ ، وَطَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ . فَوُقُوفُهُ مَعَ الدَّلِيلِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ . وَالْمُرَادُ بِهَذَا : أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ لَا اسْتِدْلَالِيَّةٌ ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَلِهَذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ قَطُّ الْأُمَمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَخَاطَبُوهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِ قَطُّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا « قَالَتْ رُسُلُهُمْ : أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟ » ( ) وَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَدْلُولٍ هُوَ أَظْهَرُ مِنْ دَلِيلِهِ ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؟ فَتَقَيُّدُ السَّائِرِ بِالدَّلِيلِ وَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ يَقِينِهِ ، بَلْ إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّلِيلِ الْمُوصِّلِ لَهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ - بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ - إِلَى دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ . وَهَذَا الدَّلِيلُ : هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِهِ ، لَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلَّا وَرَاءَهُ . وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ يُشِيرُونَ إِلَى الْكَشْفِ ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ . وَهَذَا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالدَّلِيلِ أَصْلًا . وَلَا يُقَالُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ هَذَا ؟ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّلُوكِ فِي مَنَازِلِ السَّيْرِ ، وَقَطْعِهَا مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَطْلُوبِ . فَوُصُولُهُ إِلَيْهِ بِالسَّيْرِ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ ، بِخِلَافِ وُصُولِ الْمُسْتَدِلّ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ ، وَمَطْلُوبُ الْقَوْمِ وَرَاءَهُ . وَالْعِلْمُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ . وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَصْحَابَ الِاسْتِدْلَالِ : أَصْحَابَ الْقَالِ ، وَأَصْحَابَ الْكَشْفِ : أَصْحَابَ الْحَالِ . وَالْقَوْمُ عَامِلُونَ عَلَى الْكَشْفِ الَّذِي يُحَصِّلُ نُورَ الْعِيَانِ ، لَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُنَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ . وَهَذَا مَوْضِعُ غَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ . وَهُوَ بَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : « وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » ( ) . ثُمَّ إِنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ لَا يَقِفُ مَعَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَأَشَدُّهَا خَطَرًا ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْوُصُولِ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَيَالِ وَالْمُحَالِ . فَمَنْ خَرَجَ عَنِ الدَّلِيلِ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ . فَإِنْ قِيلَ : تَعَلُّقُهُ فِي الْمَسِيرِ بِالدَّلِيلِ : يُفَرِّقُ عَلَيْهِ عَزْمَهُ وَقَلْبَهُ ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُفَرِّقُ وَالْمَدْلُولَ يُجَمِّعُ ، فَالسَّالِكُ يَقْصِدُ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى الْمَدْلُولِ . فَمَا لَهُ وَلِتَفْرِقَةِ الدَّلِيلِ ؟ قِيلَ : هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَعْرَضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ السَّالِكِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَنَهَى عَنْهُ ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ ، وَوَقَعَ هَذَا مِنْ زَمَنِ الشُّيُوخِ الْقُدَمَاءِ الْعَارِفِينَ فَأَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَتَبَرَّؤُوا مِنْهُ وَمِنْ قَائِلِهِ ، وَأَوْصَوْا بِالْعِلْمِ ، وَأَخْبَرُوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ ، لَا يُفْلِحُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْعِلْمِ . وَالْجُنَيْدُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَالَغَةً فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِلْمِ ، وَحَثًّا لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ . وَالتَّفَرُّقُ فِي الدَّلِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَمْعِيَّةِ حَقًّا إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْعِلْمِ . فَالدَّلِيلُ وَالْعِلْمُ ضَرُورِيَّانِ لِلصَّادِقِ ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا . نَعَمْ يَقِينُهُ وَنُورُ بَصِيرَتِهِ وَكَشْفُهُ : يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا الْمُتَكَلِّفُونَ ، وَأَرْبَابُ الْقَالِ ، فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ . مِثَالُهُ : أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُفْنِي زَمَانَهُ فِي تَقْرِيرِ حُدُوثِ الْعَالَمِ ، وَإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عِنْدَ السَّالِكِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْيَقِينِ ، فَالَّذِي يَطْلُبُهُ هَذَا بِالِاسْتِدْلَالِ - الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ الشَّبَهِ ، وَالْأَسْئِلَةِ ، وَالْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا - هُوَ كَشْفٌ وَيَقِينٌ لِلسَّالِكِ ، فَتَقَيُّدُهُ فِي سُلُوكِهِ بِحَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ انْقِطَاعٌ ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْفُتُوَّةِ . وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَارِفٌ ، فَتَرَى الْمُتَكَلِّمَ يَبْحَثُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ ، وَالْأَكْوَانِ ، وَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا لَا يَعُدُوهَا لِيَصِلَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ . وَالسَّالِكُ قَدْ جَاوَزَهَا إِلَى جَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسِوَاهُ . فَالْمُتَكَلِّمُ مُتَفَرِّقٌ مُشْتَغِلٌ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَالْعَارِفُ قَدْ شَحَّ بِالزَّمَانِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا فِي غَيْرِ السَّيْرِ إِلَى رَبِّ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي سَيْرِهِ بِدَلِيلٍ ، وَلَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِلَّا خَلْفَ الدَّلِيلِ ، وَكِلَاهُمَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ ، فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ ، وَلَا يَسْتَغْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ . فَسَيْرُ الصَّادِقِ عَلَى الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَالْكَشْفِ ، لَا عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : « وَلَا تَشُوبُ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ ». أَيْ تَكُونُ إِجَابَتُكَ لِدَاعِي الْحَقِّ خَالِصَةً ، إِجَابَةَ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ ، وَطَلَبٍ لِلْمَحْبُوبِ ذَاتِهِ ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالْأَعْوَاضِ ، فَإِنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَكَ حَصَلَ لَكَ كُلُّ عِوَضٍ وَكُلُّ حَظٍّ بِهِ وَكُلُّ قَسَمٍ . كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ : « ابْنَ آدَمَ ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي ، فَإِنْ وَجَدْتَنِي ، وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ . وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ »( ) . فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَلَمْ يَشُبْ طَلَبَهُ لَهُ بِعِوَضٍ ، بَلْ كَانَ حُبًّا لَهُ ، وَإِرَادَةً خَالِصَةً لِوَجْهِهِ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَفُوزُ بِالْأَعْوَاضِ وَالْأَقْسَامِ وَالْحُظُوظِ كُلِّهَا ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهَا غَايَةَ طَلَبِهِ ، تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ فِي حُصُولِهَا ، وَهُوَ مَحْمُودٌ مَشْكُورٌ مُقَرَّبٌ ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَطْلُوبَةً لَنَقَصَتْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِهَا وَإِرَادَتِهَا عَنْ طَلَبِ الرَّبِّ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ . فَهَذَا قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهَا وَالْحَاصِلُ لَهُ مِنْهَا : نَزْرٌ يَسِيرٌ ، وَالْعَارِفُ لَيْسَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كُلُّهَا . فَالزُّهْدُ فِيهَا لَا يُفِيتُكُهَا ، بَلْ هُوَ عَيْنُ حُصُولِهَا ، وَالزُّهْدُ فِي اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُفِيتُكَهُ وَيُفِيتُكَ الْحُظُوظَ . وَإِذَا كَانَ لَكَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ : أَحَدُهُمْ : يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى مَرْضَاتِكَ . وَالثَّانِي : يُرِيدُ مِنْكَ وَلَا يُرِيدُكَ ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُظُوظِهِ مِنْكَ . وَالثَّالِثُ : يُرِيدُكَ وَيُرِيدُ مِنْكَ . وَالرَّابِعُ : لَا يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْقَلْبِ بِبَعْضِ عَبِيدِكَ ، فَلَهُ يُرِيدُ ، وَمِنْهُ يُرِيدُ . فَإِنَّ آثَرَ الْعَبِيدِ عِنْدَكَ ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْكَ ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَنْزِلَةً ، وَالْمَخْصُوصَ مِنْ إِكْرَامِكَ وَعَطَائِكَ بِمَا لَا يَنَالُهُ الْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ - هُوَ الْأَوَّلُ . هَكَذَا : وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ ، فَإِنَّ الشُّهُودَ إِذَا صَحَّ مَحَا الرُّسُومَ ضَرُورَةً فِي نَظَرِ الشَّاهِدِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا. وَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ مَاحٍ لَهَا بِالذَّاتِ ، لَكِنَّ أَوَّلَهُ قَدْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ ، وَنِهَايَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى كَسْبٍ . قَالَ : « وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عَدُوَّهُ إِلَى شَفَاعَةٍ ، وَلَمْ يَخْجَلْ مِنَ الْمَعْذِرَةِ إِلَيْهِ : لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ » ( ). يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ . فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ : أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ ، وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ ، وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ . وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ ، فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ . قَالَ : « وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ : مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا "( ). كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ ، وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ : لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ ، لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا . فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ وَوَحْدَانِيَّتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَإِلَهِيَّتُهُ - أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ . فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ . وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ « أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟» ( ) فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ( ). قال الشاعر :
وليس يصحّ فى الأَذهان شيءٌ إِذا احتاج النهار إِلى دليل ( )
الباحث : محمود سعيد الشيخ