تابع أضواء على ألقاب الشيخ حسن الراعي
- لقب الفتى - الحلقة السابعة
مسألة في الفُتُوَّة وآدابها وشرائطها
في الفتوة وآدابها وشرائطها ، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله ؟ وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء ، فهل للباس والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك ؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد نسبها إلى آدم عليه السلام ، وكيف سمّيتْ فتوة ؟ وأيش السبب في ذلك ؟ وهل لأحد من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا ؟
الجواب : الحمد لله . الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره ، كما قال تعالى : « إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً » ( ) ، وقال تعالى : « قَالُوا : سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ ، يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ » ( ) ، « وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ » ( ) ، « وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ : اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ » ( ) . ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق ، لكون الشباب ألين أخلاقا من الشيوخ ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك ، حتى قال بعض المشايخ : طريقتنا تَتَفَتَّى وليس تَتَعَرَّى . وكما قال آخر منهم : التصوف خُلُقٌ ، مَن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف . وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله ، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة ، فقال : ترك ما تهوى لما تخشى . وهذا من قوله : « وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى » ( ) . ولهذا يقولون : إن هذه الآية تجمع علم الطريق ، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من المشايخ وغيرهم ، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين ، كما روى حديثًا صححه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل « ما أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة ؟ فقال : تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل ما أكثر ما يُدْخل الناسَ النار ؟ فقال : الأجوفان : الفم والفرج » ( ) . فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » ( ) . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يُسمَّ ، فالاعتبار في الدين بالإخلاق التي جاءت في القرآن وما علق بها من مدح وذمّ ، ووعدٍ ووعيد ، وثواب وعقاب ، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك ، والمذموم مثل الكفر والنفاق والفجور والإساءة والكذب والظلمِ والفواحش ونحو ذلك . فمن فعل ما يُحمَد عليه في القرآن حُمِد ، ومن فعَل ما يُذَمُّ عليه في القرآن ذُمَّ ، ومن فعل ما يُحمَد وما يُذَمُّ استحقَّ الحمد والذمّ جميعَا ، « وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » ( ) . وأما سقي الماء والملح وإلْباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصلَ لها ، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأنبياء والصالحين ، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما . ولا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق ، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل ، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله ، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى . قال تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ( ) ، وقال تعالى : « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ » ( ) ، وقال تعالى : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » ( ) . وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر» ( ). وقال : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُذُ بَعْضُه بعضا » ، وشبك بين أصابعه( ). وقال : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه من الخير ما يُحِبّه لنفسه » ( ). وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها ، وسَمَّوا بما سمّاهم الله ورسوله ، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة . ولم يكن من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم مَن يدعو الناس إلى هذا الاسم ، ولا يحزب له أحزابًا عليه . ومن نقلَ عن أمير المؤمنين علي أو غيره شيئًا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله . وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب ونحو ذلك ، فلا يشك مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك ، بل يجب النهي عن دواعي ذلك وأسبابه وما يقصد به ذلك . وكثير مما تسميه الناس فتوةً في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو فاحشة ، ويجعلون ذلك وسيلةً لصيد المُردان وإفسادِهم ، فلو كان الفعل الذي يفعلونه مباحًا وكان المقصود به ذلك لكان محرَّمًا باتفاق المسلمين ، فإنّ في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ »( ).
فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عبادَه ، إذا كان مقصود المهاجر بها التزوّج بامرأةٍ أو طلب دنيا لم يكن له إلاّ ذلك ، ولم يكن له في الآخرة من خلاق ، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم ، حتى يُجَرِّئُوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعِشرة في طاعة الشيطان ، من جنـس ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر . والواجب النهي عن هذه الشباهة ، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان . والله أعلم .( )
لباس الفتوة :
وفعل المكلف إما أن يكون في مجال العبادات ، أو في مجال العادات والمعاملات، ولكل من المجالين قاعدة شرعية ، وحكم إلهي تسير عليه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم ، أن أعمال الخلق تنقسم إلى : عبادات يتخذونها ديناً ، وينتفعون بها في الآخرة ، أو في الدنيا والآخرة ، وإلى عادات ينتفعون بها في معاشهم . فالأصل في العبادات : أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله . والأصل في العادات : أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله . وبهذا القياس توزن أعمال المكلفين ، وبهذا المعيار تسير أفعالهم فإن كانت وفق الدليل الشرعي ، ولها أصل في دين الله يدل عليها ، فهي مقبولة مثاب عليها فاعلها إذا قصد بها وجه الله . وإن كانت مخالفة للشرع ، أو مناقضة له فلا تخلو من أحد حالين :
الأول : أن لا يقصد بهذه المخالفة القربة إلى الله سبحانه فتعد معصية ، وفي هذا تدخل جميع المنهيات الشرعية مثل النظر إلى النساء ، وسماع الغناء ، والحلف بالطلاق ، وشرب المسكر ، وكشف العورة ، وأكل الربا ... وغير ذلك .
الثاني : أن يقصد بالمخالفة القربة على الله - سبحانه وتعالى - فهذه هي التي تعد بدعة ، سواء كانت في العبادات المحضة أو المعاملات أو العادات ، وسواء كانت بالاعتقاد أو الجوارح أو باللسان .
فأما في العبادات فالأمر بين وواضح ، مثل : صلاة الرغائب ، وصلاة النصف من شعبان ، والأوراد البدعية عند الصوفية ، واعتقاد الولاية في مظهر الفسوق وغير ذلك ، وهو كثير ...
وأما المعاملات فمثل : النظر إلى النساء والمردان ، أو استماع الغناء بقصد القربة ، أو أخذ المكوس والضرائب على الأبدان ، والبضائع ، مع اعتقاد أن ذلك مما يجيزه الشرع أو يبيحه ، ويدخل في هذا المعنى مجموعة من البدع السياسية وكل البيوع والعقود والشروط التي نهى عنها الشارع وألغاها ، فإن فعلها على وجه القربة لله ، أو إلحاق حكم لها بالوجوب أو الندب أو الإباحة من الإبتداع . ومن أوضح ما يصح التمثيل به في هذا الباب : نكاح المتعة الذي تجيزه الرافضة وتعمل به . ومثله نكاح المحلل ، من قال بجوازه وحله فقد أتى بدعة منكرة ، إذ أنه وجد في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا ، ولما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه ، دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها . وأما في العادات فمثل : لبس الصوف عبادة وحلق الرأس على وجه التعبد في غير نسك ولزوم زي واحد وجعله ديناً وقربة ومن ذلك لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة .. ونحو ذلك ، مع أن الأصل في الأفعال العادية عدم التحريم وكذلك في المعاملات ، ولكن لما ألحق المبتدع إليها أوصافاً ليست لها من قبل الشارع كاعتقاده التقرب بهذا العمل ، وجعله ديناً وعبادة ، أو إلحاق حكم شرعي بالندب أو الوجوب أو الجواز ، وليس له هذا الحكم من جهة الشرع كان هذا هو سبب اعتبار هذه الأعمال وأمثالها بدعاً في دين الله ( ).
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : « كَيْفَ بِكُمْ إذَا فَسَقَ فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟» .
ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله في خطبة تقليد بفتوّة عن ملك: «ونشهد أن محمدا عبده ورسوله» ، الذي نور شريعته جليّ، وجاه شفاعته مليّ، وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه، فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. وهذا على ما هو شائع على الألسنة، وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافرا اسمه مرحب، فشقّ البيضة على رأسه نصفين، وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقّهما كذلك وخلص السيف بينهما فغاص في الأرض شبرين؛ إلا أن المعروف عند المحدّثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب رضي الله عنها، ولعله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أعطاه عليّا رضي الله عنه بعد ذلك( ).
قال ابن الجوزي : ومن هَذَا الفن تلبيسه – أي إبليس - عَلَى العيارين فِي أخذ أموال الناس ؛ فإنهم يسمون بالفتيان ويقولون الفتى لا يزني ولا يكذب ويحفظ الحرم ولا يهتك ستر امرأة ومع هَذَا لا يتحاشون من أخذ أموال الناس وينسون تقلى الأكباد عَلَى الأموال ويسمون طريقتهم الفتوة وربما حلف أحدهم بحق الفتوة فلم يأكل ولم يشرب ويجعلون إلباس السراويل للداخل فِي مذهبهم كإلباس الصوفية للمريد المرقعة وربما يسمع أحد هؤلاء عَنْ أبنته أَوْ أخته كلمة وزر لا تصح ولا بما كانت من محرض فقتلها ويدعون أن هذه فتوة وربما أفتخر أحدهم بالصبر عَلَى الضرب وبإسناد عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل أنه كان يَقُول كنت كثيرا أسمع والدي أَحْمَد بْن حبنل يَقُول رحم اللَّه أبا الهيثم فقلت من أَبُو الهيثم فَقَالَ أَبُو الهيثم الحداد لما مددت يدي إِلَى العقاب وأخرجت للسياط إذا أنا بانسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي تعرفني قلت لا قَالَ أنا أَبُو الهيثم العيار اللص الطرار مكتوب فِي ديوان أمير المؤمنين إني ضربت ثمانية عشرة ألف سوط بالتفاريق وصبرت فِي ذلك عَلَى طاعة الشَّيْطَان لأجل الدنيا فأصبر أنت فِي طاعة الرَّحْمَن لأجل الدين قلت أَبُو الهيثم هَذَا يقال لَهُ خالد الحداد وكان يضرب المثل بصبره وقال لَهُ المتوكل مَا بلغ من جلدك قَالَ املأ لي جرابي عقارب ثم أدخل يدي فيه وأنه ليؤلمني مَا يؤلمك وأجد لآخر سوط من الألم مَا
أجد لأول سوط ولو وضعت فِي فمي خرقة وأنا أضرب لاحترقت من حرارة مَا يخرج من جوفي ولكنني وطنت نفسي عَلَى الصبر فَقَالَ لَهُ الفتح ويحك مَعَ هَذَا اللسان والعقل مَا يدعوك إِلَى مَا أنت عَلَيْهِ من الباطل فَقَالَ أحب الرياسة فَقَالَ المتوكل نحن خليديه وقال الفتح أنا خليدي وقال رجل لخالد يا خالد مَا أنتم لحوم ودماء فيؤلمكم الضرب فَقَالَ بلى يؤلمنا ولكن معنا عزيمة صبر ليست لكم وقال داود بْن عَلِيّ لما قدم بخالد اشتهيت أن أراه فمضيت إليه فوجدته جالسا غير متمكن لذهاب لحم إليتيه من الضرب وإذا حوله فتيان فجعلوا يقولون ضرب فلان وفعل بفلان كذا فَقَالَ لهم لا تتحدثون عَنْ غيركم افعلوا أنتم حتى يتحدث عنكم غيركم .
قَالَ ابن الجوزي : فانظروا إِلَى الشَّيْطَان كيف يتلاعب بهؤلاء ؟ فيصبرون عَلَى شدة الألم ليحصل لهم الذكر ، ولو صبروا عَلَى يسير التقوى لحصل لهم الأجر، والعجب أنهم يظنون لحالهم مرتبة وفضيلة مَعَ ارتكاب العظائم( ) .
قَالَ مُحَمَّد الْبَصْرِيّ : كَانَ بِالْبَصْرَةِ رجل من اللُّصُوص يلص بِاللَّيْلِ فاره جدًا مِقْدَام يُقَال لَهُ عَبَّاس بن الْخياطَة قد غلب الْأُمَرَاء وأشجى أهل الْبَلَد فَلم يزَالُوا يحتالون عَلَيْهِ إِلَى أَن وَقع وكبل بِمِائَة رَطْل حَدِيد وَحبس فَلَمَّا كَانَ بعد سنة من حَبسه أَو أَكثر دخل قوم بالأبلة على رجل تَاجر كَانَ عِنْده جَوْهَر بعشرات أُلُوف الدَّنَانِير وَكَانَ مستيقظاً جلدًا ، فجَاء إِلَى الْبَصْرَة يتظلم وأعانه خلق من التُّجَّار، وَقَالَ للأمير : أَنْت دست على جوهري وَمَا خصمي سواك ، فورد عَلَيْهِ أَمر عَظِيم ، وخلا بالبوابين وتوعدهم ، فاستنظروه فأنظرهم وطلبوا واجتهدوا فَمَا عرفُوا فَاعل ذَلِك ، فعنفهم الرجل فاستجابوا مُدَّة أُخْرَى فجَاء أحد البوابين إِلَى الْحَبْس فتخادم لِابْنِ الْخياطَة وَلَزِمَه نَحْو شهر وتذلل لَهُ فِي الْحَبْس ، فَقَالَ لَهُ : قد وَجب حَقك عَليّ ! فَمَا حَاجَتك ؟ قَالَ : جَوْهَر فلَان الْمَأْخُوذ بالأبلة ، لَا بُد أَن يكون عنْدك مِنْهُ خبر ، فَإِن دماءنا مرتهنة بِهِ ، وحدثه الحَدِيث . فَرفع ذيله وَإِذا سفط الْجَوْهَر تَحْتَهُ ، فسلمه إِلَيْهِ ، وَقَالَ : قد وهبته لَك . فاستعظم ذَلِك وَجَاء بالسفط إِلَى الْأَمِير ، فَسَأَلَهُ عَن الْقِصَّة فَأخْبرهُ بهَا ، فَقَالَ : عَليّ بعباس فجاءوا بِهِ ، فَأمر بالإفراج عَنهُ وَإِزَالَة قيوده وإدخاله الْحمام ، وخلع عَلَيْهِ وَأَجْلسهُ فِي مَجْلِسه مكرمًا ، واستدعى الطَّعَام فواكله وبيته عِنْده ، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد خلا بِهِ وَقَالَ : أَنا أعلم أَنَّك لَو ضربت مائَة ألف سَوط مَا أَقرَرت ، كَيفَ كَانَت صُورَة أَخذ الْجَوْهَر ، وَقد عاملتك بالجميل ليجب حَقي عَلَيْك من طَرِيق الفتوة ، وَأُرِيد أَن تصدقني حَدِيث هَذَا الْجَوْهَر؟ قَالَ : على أنني وَمن عاونني عَلَيْهِ آمنون ، وَإنَّك لَا تطالبنا بالذين أَخَذُوهُ . قَالَ : نعم ! فاستحلفه ، فَقَالَ لَهُ : إِن جمَاعَة اللُّصُوص جاءوني الْحَبْس ، وَذكروا حَال هَذَا الْجَوْهَر ، وَإِن دَار هَذَا التَّاجِر لَا يجوز أَن يتَطَرَّق عَلَيْهَا نقب وَلَا تسليق ، وَعَلَيْهَا بَاب حَدِيد ، وَالرجل متيقظ ، وَقد راعوه سنة فَمَا أمكنهم ، وسألوني فساعدتهم ، فَدفعت إِلَى السجان مائَة دِينَار ، وَحلفت لَهُ بالشطارة والأيمان الغليظة أَنه إِن أطلقني عدت إِلَيْهِ من غَد ، وَأَنه إِن لم يفعل ذَلِك اغتلته فَقتلته فِي الْحَبْس ، فأطلقني فنزعنا الْحَدِيد وَتركته وَخرجت الْمغرب فوصلنا إِلَى الأبلة الْعَتَمَة ، وَخَرجْنَا إِلَى دَار الرجل فَإِذا هُوَ فِي الْمَسْجِد وبابه مغلق ، فَقلت لأَحَدهم : تصدق من الْبَاب فَتصدق ، فَلَمَّا جاؤوا ليفتحوا قلت لَهُ : أختفي فَفعل ذَلِك مَرَّات ، وَالْجَارِيَة تخرج فَإِذا لم تَرَ أحدًا عَادَتْ إِلَى أَن خرجت من الْبَاب ومشت خطوَات تطلب السَّائِل ، فتشاغلت بِدفع الصَّدَقَة إِلَيْهِ ، فَدخلت أَنا إِلَى الدَّار ، فَإِذا فِي الدهليز بَيت فِيهِ حمَار فدخلته ووقفت تَحت الْحمار ، وطرحت الجل عَليّ وَعَلِيهِ ، وَجَاء الرجل فغلق الْأَبْوَاب وفتش ونام على سَرِير عَال والجوهر تَحْتَهُ ، فَلَمَّا انتصف اللَّيْل قُمْت إِلَى شَاة فِي الدَّار فعركت أذنها فصاحت ، فَقَالَ : وَيلك ! أَقُول لَك افتقديها . قَالَت : قد فعلت ، قَالَ : كذبت ! وَقَامَ بِنَفسِهِ لِيطْرَح لَهَا علفاً ، فَجَلَست مَكَانَهُ على السرير وَفتحت الخزانة ، وَأخذت السفط ، وعدت إِلَى موضعي ، وَعَاد الرجل فَنَامَ ، فاجتهدت أَن أجد حِيلَة أَن أنقب إِلَى دَار بعض الْجِيرَان فَأخْرج ، فَمَا قدرت لِأَن جَمِيع الدَّار مؤزرة بالساج ، ورمت صعُود السَّطْح فَمَا قدرت لِأَن الممارق مقفلة بِثَلَاثَة أقفال فَعمِلت على ذبح الرجل ثمَّ استقبحت ذَلِك ، وَقلت هَذَا بَين يَدي إِن لم أجد حِيلَة غَيره ، فَلَمَّا كَانَ السحر عدت إِلَى موضعي تَحت الْحمار وانتبه الرجل يُرِيد الْخُرُوج ، فَقَالَ لِلْجَارِيَةِ : افتحي الأقفال من الْبَاب ودعيه متربساً فَفعلت ، وَقربت من الْحمار فرفس ، فصاحت . فَخرجت أَنا ففتحت المترس وَخرجت أعدو حَتَّى جِئْت إِلَى المشرعة ، فَنزلت فِي الخيطية ، وَوَقعت الصَّيْحَة فِي دَار الرجل ، فطالبني أَصْحَابِي أَن أعطيهم شَيْئا مِنْهُ فَقلت : لَا هَذِه قصَّة عَظِيمَة ، وأخاف أَن يتَنَبَّه عَلَيْهَا ، وَلَكِن دَعوه عِنْدِي فَإِن مضى على الحَدِيث ثَلَاثَة أشهر وافتكم ، فصيروا إِلَيّ أُعْطِيكُم النّصْف ، وَإِن ظهر خفت عَلَيْكُم وعَلى نَفسِي وَجَعَلته حَقنًا لدمائكم ، فرضوا بذلك . فَأرْسل الله هَذَا البواب بلية يخدمني ، فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ ، وَخفت أَن يقتل هُوَ وَأَصْحَابه ، وَقد كنت وضعت فِي نَفسِي الصَّبْر على كل عَذَاب ، فدخلتم عليّ من طَرِيق أُخْرَى لم أستحسن فِي الفتوة مَعهَا إِلَّا الصدْق . فَقَالَ لَهُ الْأَمِير: جَزَاء هَذَا الْفِعْل أِن أطلقك ، وَلَكِن تتوب فَتَابَ ، وَجعله الْأَمِير من بعض أَصْحَابه ، وأسنى لَهُ الرزق ، فاستقامت طَرِيقَته( ).
قَالَ طالوت بن عباد الصَّيْرَفِي : كنت لَيْلَة نَائِما بِالْبَصْرَةِ فِي فِرَاشِي وأحراسي يحرسوني وأبوابي مقفلة فَإِذا أَنا بِابْن الْخياطَة ينبهني من فِرَاشِي فانتبهت فَزعًا فَقلت من أَنْت فَقَالَ ابْن الْخياطَة فَتلفت فَقَالَ لَا تجزع قد قمرت السَّاعَة خَمْسمِائَة دِينَار أَقْرضنِي إِيَّاهَا لأردها عَلَيْك فأخرجت خَمْسمِائَة دِينَار فدفعتها إِلَيْهِ فَقَالَ نم وَلَا تتبعني لأخرج من حَيْثُ جِئْت وَإِلَّا قتلتك قَالَ وَأَنا وَالله أسمع صَوت حراسي وَلَا أَدْرِي من حَيْثُ دخل وَلَا من أَيْن خرج وكتمت الحَدِيث خوفًا مِنْهُ وزدت فِي الحرس وَمَضَت لَيَال فَإِذا أَنا بِهِ قد أنبهني على تِلْكَ الصُّورَة فَقلت مرْحَبًا مَا تُرِيدُ قَالَ جِئْت بِتِلْكَ الدَّنَانِير تأخذها مني فَقلت أَنْت فِي حل مِنْهَا فَإِن أردْت شَيْئا آخر فَخذ فَقَالَ لَا أُرِيد من نصح التُّجَّار شاركهم فِي أَمْوَالهم وَلَو كنت أردْت أَخذ مَالك باللصوصية فعلت وَلَكِنَّك رَئِيس بلدك وَلَا أُرِيد أذيتك فَإِن ذَلِك يخرج عَن الفتوة وَلَكِن خُذْهَا فَإِن احتجت إِلَى شَيْء بعد هَذَا أخذت مِنْك فَقلت أَن عودك لَا يفزعني وَلَكِن إِذا أردْت شَيْئا فتعال إِلَيّ نَهَارا أَو رَسُولك فَقَالَ افْعَل فَأخذت الدَّنَانِير مِنْهُ وَانْصَرف وَكَانَ رَسُوله يجيئني بعلامة بعد ذَلِك فَيَأْخُذ مَا يُريدهُ بعد مُدَّة فَمَا انْكَسَرَ لي عِنْده شَيْء إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ( ) .
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ