تابع أضواء على ألقاب الشيخ حسن الراعي
- لقب الفتى - الحلقة الثامنة
الفتوة في عصر حسن الراعي
وقد عاش الإمام ابن الجوزي هو والشيخ حسن الراعي في القرن السادس الهجريّ ، والّذي يعد من أهم القرون المؤثرة في الساحة العربية الإسلامية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية ، والّذي شهد اضطرابات سياسية واجتماعية وفكرية واسعة النطاق . فمن الناحية الاجتماعية كانت هناك اضطرابات اجتماعية خطيرة ، فقد كان هناك تفاوت في المجتمع من حيث المستوى الاجتماعي ، يرجع ذلك إلى اختلاف الدخول ، فقد كانت هناك طبقة الأثرياء الذين يمتلكون الأموال الطائلة ، بينما هناك من لا يجد قوت يومه ، أدى ذلك إلى ظهور طبقة العيارين والشطار، الذين عاثوا في البلاد فسادًا ، وقد زاد من انتشارهم ضعف السلطة وعدم الاستقرار السياسي . وقد رأى الشيخ حسن الراعي اتساع الفتن الاجتماعية الناجمة من الصراعات الطائفية ، ومن غارات البدو والقبائل على الآمنين ، وهذه ناتجة من بعض ما أفرزه القلق والفوضى السائدان في القرن السادس الهجريّ الّذي سيطر فيه السلاجقة . وشهد الناحية السياسية سقوط الدولة الفاطمية سنة 567 هـ ، وقيام الدولة الأيوبية وتجديد شباب الخلافة العباسية في عهد الناصر لدين الله .أما الناحية الاقتصادية فقد كان لسوء توزيع الثروة بين الناس أثره الشديد على تنعم بعض الطبقات بالأموال الطائلة والثروات الكبيرة وحرمان الآخرين ، مما أثر على ترابط المجتمع وعدم تماسكه . وعلى الرغم من ذلك فلم يكن هناك توازن بين دخول الناس والضرائب المفروضة عليهم ، فقد تعسفت السلطة في جمع الضرائب من الناس على الرغم من سوء الأحوال الاقتصادية . أما الناحية الفكرية فقد تميز عصر الشيخ الراعي بكثرة العلماء والمفكرين ، كما اتسع تيار الصوفية الّذي كان له اتجاهان : أحدهما التزهد والبعد عن مباهج الحياة ، والآخر الشعوذة والتمسك بالخرافات والأساطير . وكان هناك صراع بين أصحاب المذاهب المتشددة الفقهية وبين أصحاب المذاهب العقلية والفلسفية( ) . كل هذه الأمور لعبت دورًا كبيرًا في ازدهار نظام الفتوة وترسيخه في المجتمع الإسلامي في ذلك العصر والعصور التالية . وهذا النظام ككل نظام بشري لا بد أن يتحمس له بعض الناس ويناصرونه ويؤازرونه ، وأن يعارضه آخرون ويكيلوا له النقائص والعيوب ، ويفتشون عن الأخطاء والسلبيات ، ونظام الفتوة لاشك أنه كان له إيجابياته وسلبياته التي سطرها المؤرخون والكتاب على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وعصورهم .
وحول الحديث عن لباس الفتوة يستحسن أن نبين الأصل الذي حكم به بعض العلماء ببدعيته ؛ وذلك أن : فعل المكلف : إما أن يكون في مجال العبادات ، أو في مجال العادات والمعاملات ، ولكل من المجالين قاعدة شرعية وحكم إلهي تسير عليه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم ، أن أعمال الخلق تنقسم إلى : عبادات يتخذونها ديناً ، وينتفعون بها في الآخرة ، أو في الدنيا والآخرة ، وإلى عادات ينتفعون بها في معاشهم . فالأصل في العبادات : أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله . والأصل في العادات : أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله . وبهذا القياس توزن أعمال المكلفين ، وبهذا المعيار تسير أفعالهم فإن كانت وفق الدليل الشرعي ، ولها أصل في دين الله يدل عليها ، فهي مقبولة مثاب عليها فاعلها إذا قصد بها وجه الله . وإن كانت مخالفة للشرع ، أو مناقضة له فلا تخلو من أحد حالين :
الأول : أن لا يقصد بهذه المخالفة القربة إلى الله سبحانه فتعد معصية ، وفي هذا تدخل جميع المنهيات الشرعية مثل النظر إلى النساء ، وسماع الغناء ، والحلف بالطلاق ، وشرب المسكر ، وكشف العورة ، وأكل الربا ... وغير ذلك .
الثاني : أن يقصد بالمخالفة القربة على الله - سبحانه وتعالى - فهذه هي التي تعد بدعة ، سواء كانت في العبادات المحضة أو المعاملات أو العادات ، وسواء كانت بالاعتقاد أو الجوارح أو باللسان . فأما في العبادات فالأمر بين وواضح ، مثل : صلاة الرغائب ، وصلاة النصف من شعبان ، والأوراد البدعية عند الصوفية ، واعتقاد الولاية في مظهر الفسوق وغير ذلك ، وهو كثير ... وأما المعاملات فمثل : النظر إلى النساء والمردان ، أو استماع الغناء بقصد القربة ، أو أخذ المكوس والضرائب على الأبدان ، والبضائع ، مع اعتقاد أن ذلك مما يجيزه الشرع أو يبيحه ، ويدخل في هذا المعنى مجموعة من البدع السياسية وكل البيوع والعقود والشروط التي نهى عنها الشارع وألغاها ، فإن فعلها على وجه القربة لله ، أو إلحاق حكم لها بالوجوب أو الندب أو الإباحة من الإبتداع . ومن أوضح ما يصح التمثيل به في هذا الباب : نكاح المتعة الذي تجيزه الرافضة وتعمل به . ومثله نكاح المحلل ، من قال بجوازه وحله فقد أتى بدعة منكرة ، إذ أنه وجد في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا ، ولما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه ، دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها . وأما في العادات فمثل : لبس الصوف عبادة ، وحلق الرأس على وجه التعبد في غير نسك ، ولزوم زي واحد وجعله ديناً وقربة ، ومن ذلك لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة .. ونحو ذلك ، مع أن الأصل في الأفعال العادية عدم التحريم وكذلك في المعاملات ، ولكن لما ألحق المبتدع إليها أوصافاً ليست لها من قبل الشارع كاعتقاده التقرب بهذا العمل ، وجعله ديناً وعبادة ، أو إلحاق حكم شرعي بالندب أو الوجوب أو الجواز ، وليس له هذا الحكم من جهة الشرع كان هذا هو سبب اعتبار هذه الأعمال وأمثالها بدعاً في دين الله ( ). وإذا كان لباس الفتوة المستحدث بدعة في تلك العصور ، فإن لباس المرأة المسلمة كان الحجاب الشرعي الذي هو عنوان فتوتها ، يتعرض اليوم إلى هجمات خطيرة من أعداء الإسلام لأهداف مرسومة ، وغايات شيطانية ، ووسائل إبليسية . قال أحد المسلمين مدافعًا عنه : هب أن رجلًا انتحل شخصية قائد عسكري كبير ، وارتدى بَزَّته ، وتحايل بذلك ، واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته ؟ وهل يصلح سلوكه - في نظركم - مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميز للعسكريين مثلا خشية أن يسيءَ أحَد استعماله ؟ وما يقال عن البزة العسكرَية ، يقال عن "لباس الفتوة ، وزي الرياضة ، فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون ، والفتى الذي يسيء ، والرياضي الذي يذنب ، هل يقول عاقل إن على الأمة أن تحارب شعار العسكر ، ولباس الفتوة ، وزي الرياضة ،. . . لخيانات ظهرت ، وإساءات تكررت ؟ فإذا كان الجواب : "لا" . فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي ؟ ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة ؟ . إن الهدف البعيد من وراء هذه الأراجيف الكاذبة هو تنفير المسلمات من الحجاب الذي فرضه الله عز وجل ، وترسيخ روح الاشمئزاز والكراهية من التجلبب به ، والتحصن بعفافه ، حتى إذا خلعن الحجاب ظهرن في المجتمع بأقبح ما تظهر به امرأة في تهتكها وانحلالها . إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب ، يأمرها أن تكون ذات خلق ودين ، إنه يربي مَنْ تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب ، ويقول لها :« وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ »( ) ، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال، قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب( ) .
وفي ختام حديثنا عن الفتوة نرى أن هذه الظاهرة التي أخذت أبعادًا دينية واجتماعية وحتى سياسية بدأت في التلاشي في عصرنا الحاضر ، ولم يتبق منها إلا النزر اليسير ، وسيأتي وقت تتلاشى فيه بالكامل في آخر الزمان ، كما أشار إلى ذلك الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقد رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : « كَيْفَ بِكُمْ إذَا فَسَقَ فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ ! قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ . كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ ! قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ »( ) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَقَ شَبَابُكُمْ ، وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ » قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ ؟ قَالَ : « وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ سَيَكُونُ ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ »( ) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَقَ شَبَابُكُمْ , وَطَغَتْ نِسَاؤُكُمْ , وَكَثُرَ جُهَّالُكُمْ ؟ » قَالُوا : وَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ , كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ , وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ » قَالُوا : وَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ , كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا , وَرَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ »( ) وحَدِيث أبي أُمَامَة « كَيفَ أَنْتُم إِذا طَغى نِسَاؤُكُمْ وَفسق شبانكم وتركتم جهادكم ؟ قَالُوا : وَإِن ذَلِك لكائن يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : نعم ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ، وَأَشد مِنْهُ سَيكون . قَالُوا : وَمَا أَشد مِنْهُ يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : كَيفَ أَنْتُم إِذا لم تأمروا بِمَعْرُوف وَلم تنهوا عَن مُنكر؟ قَالُوا: وكائن ذَلِك يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : نعم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَأَشد مِنْهُ سَيكون . قَالُوا وَمَا أَشد مِنْهُ ؟ قَالَ: كَيفَ أَنْتُم إِذا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوف مُنْكرًا وَالْمُنكر مَعْرُوفًا ؟ قَالُوا : وكائن ذَلِك يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : نعم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَأَشد مِنْهُ سَيكون . قَالُوا : وَمَا أَشد مِنْهُ ؟ قَالَ : كَيفَ أَنْتُم إِذا أمرْتُم بالمنكر ونهيتم عَن الْمَعْرُوف ؟ قَالُوا : وكائن ذَلِك يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : نعم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَأَشد مِنْهُ سَيكون ، يَقُول الله تَعَالَى : بِي حَلَفت لأتيحن لَهُم فتْنَة يصير الْحَلِيم فِيهَا حيران »( ) .
ومن هذا الاستعراض نرى أن الشيخ حسن الراعي كان نموذجًا للفتوة الحقة التي تحلت بمكارم الأخلاق ، حفظ الله فحفظه ، وحفظ ذكره بين الأنام ، ونال من الثناء العاطر الذي ناله من قبله فتية أهل الكهف من رب العزة حيث وصفهم بالإيمان ، وتفضل عليهم إحسانًا منه بأن زادهم هدى ، فكانوا على بصيرة من أمرهم ، ومعرفة مجتمعهم ، وواستنارة طريقهم الذي يسلكونه أمام الطغيان العاتي ، فثبتهم الله على الإيمان ، وربط على قلوبهم فلم يدخلها ريح الشك ولا ظلمة الارتياب ، وإنما وطنوا أنفسهم على التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وتحمل الشدائد والمحن بعزم لا يلين ، وثبات لا يتزعزع ، فأكرمهم الله بحفظه ، وكلأهم بعين رعايته : « إِذْ قَامُوا فَقَالُوا : رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا »( ) وهكذا أعلنوا بكل قوة وشفافية ووضوح مفاصلتهم الكاملة لقومهم شعورًا وواقعًا على المبادئ الربانية ، فلما حفظوا الله حفظهم حفظًا يذكر على مر الزمان ، ما دام هناك كفر وإيمان ، وصراع بين جاهلية وإسلام ، وذلك مصداقًا لقوله – صلى الله عليه وسلم - : « احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ »( ) وفي رواية : « احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَ ، فَاسْأَلِ اللهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا »( ) . أنعم بفتى عاش حياته كلها لله ، وكان مع الله فكان الله معه في كل وقت وحين ، فكان : « سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا »( ) ، وَإِنْ سَأَلَه أُعْطِاهُ ، وَإِنِ اسْتَعَاذَهُ أُعِاذَهُ ، « وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ ، وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ »( ) ، فَإِذَا دَعَا أَجَابَهُ ، وَإِذَا اسْتَنْصَرَهُ نَصَرَهُ . وسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ ، فَقَالَ : كُنْتُ أَسْرَعَ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ سَمْعِهِ فِي الاسْتِمَاعِ ، وَبَصَرِهِ فِي النَّظَرِ ، وَيَدِهِ فِي اللَّمْسِ ، وَرِجْلِهِ فِي الْمَشْيِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ ضَرَبَهَا ، وَالْمَعْنَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، تَوْفِيقُهُ فِي الأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ ، يَعْنِي : يُيَسِّرُ عَلَيْهِ فِيهَا سَبِيلَ مَا يُحِبُّهُ ، وَيَعْصِمُهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يَكْرَهُ : مِنْ إِصْغَاءٍ إِلَى اللَّغْوِ بِسَمْعِهِ ، وَنَظَرٍ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَبَطْشِ مَا لَا يَحِلُّ بِيَدِهِ ، وَسَعْيٍ فِي الْبَاطِلِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ : سُرْعَةَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ ، وَالإِنْجَاحَ فِي الطَّلِبَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الإِنْسَانِ إِنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه ويديه ورجليه " قال : وجه ذلك أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا في الله ولله ، فجوارحه كلها تعمل بالحق ، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة( ) . وقال ابن دقيق العيد : فهذه علامة ولاية الله ، لمن يكون الله قد أحبه ، ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسماعه ، ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ، ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه ، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه ، فهذا هو الأصل ، إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك ، فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله غير أهل الذكر توصلاً إلى أن يسمع لهم ، وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليه ، تلك صفة عالية ، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها( ). قِيلَ :
سَـــــاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُـــــــرُهُ لَسْــتُ أَنْسَــاهُ فَأَذْكُرُهُ
غَابَ عَنْ سَمْعِي وَعَنْ بَصَرِي فَسُوَيْدَا الْقَلْبُ يُبْصِرُهُ( )
وأختم هذا البحث بقول الشاعر :
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
الباحث : محمود بن سعيد بن محمود بن يوسف بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ، أبو محمد الشيخ القطناني المكي . مكة المكرمة 14/1/1433هـ