تابع أضواء على ألقاب الشيخ حسن الراعي
- لقب الفتى : الفتى المثالي النموذجي في القرآن
ومن المفيد أن نعرض هنا أهم فتوة في التاريخ البشري تحدث عنها القرآن الكريم ، ألا وهي فتوة إبراهيم – عليه السلام - ، ولن ندرس هنا إلا جانبًا واحدًا من جوانب تلك الفتوة ، جانب القوة في الدعوة إلى الله ، وتغيير المنكر ، والوقوف في وجه الطاغوت إعلاء لكلمة الحق وإزهاقًا للباطل حتى عُدَّ " أمة " وحده ، وهذا وصف لم يحظَ به نبي غيره ، قال تعالى : « إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ( ) . قال سيد في أسلوبه الأدبي في ظلال أيات سورة الأنبياء (51-67) : « وبعد الإشارة السريعة إلى موسى وهارون وكتابهما يرتد السياق إلى حلقة كاملة من قصة إبراهيم ، وهو جد العرب الأكبر وباني الكعبة التي يحشدون فيها الأصنام ، ويعكفون عليها بالعبادة ، وهو الذي حطم الأصنام من قبل . والسياق يعرضه هنا وهو يستنكر الشرك ويحطم الأصنام . والحلقة المعروفة هنا هي حلقة الرسالة. وهي مقسمة إلى مشاهد متتابعة ، بينها فجوات صغيرة . وهي تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد . ويعني به الهداية إلى التوحيد . فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة « الرشد » في هذا المقام . « وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ( ) مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ »( ) آتينا رشده ، وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون . « إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ؟»( ) . فكانت قولته هذه دليل رشده . سمى تلك الأحجار والخشب باسمها : « هذِهِ التَّماثِيلُ » ولم يقل : إنها آلهة ، واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة . وكلمة « عاكِفُونَ » تفيد الانكباب الدائم المستمر . وهم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها ، ولكنهم يتعلقون بها ، فهو عكوف معنوي لا زمني . وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدًا على هذه التماثيل ! فكان جوابهم وحجتهم أن « قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ »( ) ! وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة ، في مقابل حرية الإيمان ، وانطلاقه للنظر والتدبر، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية . فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية ، والوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل : « قالَ : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ »( ) . وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها ، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها . فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم ، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق . وعند ما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير، وبهذه الصراحة في الحكم ، راحوا يسألون : « قالُوا : أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ؟ »( ) . وهو سؤال المزعزع العقيدة ، الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه ، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه . ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد . فهو لا يدري أي الأقوال حق . والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل ! وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير . فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه ، متمثل له في خاطره وفكره ، يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه : « قالَ : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّـماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَـرَهُنَّ ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ »( ) . فهو رب واحد : رب الناس ورب السماوات والأرض . ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق . فهما صفتان لا تنفكان : « بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ » .. فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة ، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب ، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق ، وأن الخالق هو الله . ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئًا وهم يعلمون ! إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه : « وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » وإبراهيم - عليه السلام - لم يشهد خلق السماوات والأرض ، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه .. ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين.. إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر، وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه . ثم يعلن إبراهيم لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار . أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمرًا لا رجعة فيه : « وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ »( ) . ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهما لا يفصح عنه .. ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه . ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدًا. فتركوه ! « فَجَعَلَهُمْ جُذاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ »( ) وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة .. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم « لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ » فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة ! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ، فيرجعون إلى صوابهم ، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت . وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذًا إلا ذلك الكبير! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها : إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئًا . وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها ؟ لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال ، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر . فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطم آلهتهم ، وصنع بها هذا الصنيع : « قالُوا : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ؟ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ »( ) .. عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة هذه التماثيل ، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها ! « قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ »( ) .. ويبدو من هذا أن إبراهيم - عليه السلام - كان شابًا صغير السن ، حينما آتاه الله رشده ، فاستنكر عبادة الأصنام وحطمها هذا التحطيم . ولكن أكان قد أوحي إليه بالرسالة في ذلك الحين ؟ أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة ، فدعا إليه أباه ، واستنكر على قومه ما هم فيه ؟ هذا هو الأرجح( ) .. وهناك احتمال أن يكون قولهم : « سَمِعْنا فَتًى » يقصد به إلى تصغير شأنه بدليل تجهيلهم لأمره في قولهم : « يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ! » للتقليل من أهميته ، وإفادة أنه مجهول لا خطر له ؟ قد يكون . ولكننا نرجح أنه كان فتى حديث السن في ذلك الحين . « قالُوا : فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ » .. وقد قصدوا إلى التشهير به ، وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد ! « قالُوا : أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ؟ »( ) .. فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة . فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم ، وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر ، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوي العقلي الدون : « قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا . فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ »( ) .
وقال عبد الكريم يونس الخطيب : « وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ؟ قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ »( ) .. ومناسبة ذكر إبراهيم هنا ، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى ، وهارون ، ومحمد ، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى ، فإن موقف إبراهيم من قومه ، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه ، وما يعبدون من أصنام . وإتيان الله - سبحانه وتعالى - إبراهيم رشده ، أي منحه الإدراك السليم ، والقلب النقيّ ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث . - وقوله تعالى : « إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ؟ » .. متعلق بقوله تعالى : « عالِمِينَ » أي وكنا به عالمين ، حين قال لأبيه وقومه هذا القول : « ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ؟» فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وضلال ، إذ عكفوا على عبادة هذه التماثيل التي صوروها بأيديهم من خشب وأحجار . والعكوف على الشيء : مداومة الاتصال به حالا بعد حال ، ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه ... وكلما جاءهم بحجة دامغة ، التووا عليه ، وردوا المنطق بالسفاهة .. يقول لهم : « ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ؟ » وكان جديرًا بهم - لو عقلوا - أن ينظروا إلى هذه التماثيل ، وأن يتعرفوا على حقيقتها ، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها .. إنها لا تسمع ، ولا تعقل ، ولا تملك ضرًا ولا نفعًا . فكيف يعطيها إنسان ولاءه ، وينفق عمره فى سبيلها ؟ ولكنهم لا ينظرون في شيء من هذا ، بل يردون عليه بداهة : « قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ » !. هذا هو كل ما عندهم .. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم .. أو قرود تقلد ما ترى في غير إدراك ، أو وعي لما تقلده !. « قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ »( ) .. إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال .. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به فى الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل ، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه ، ولا يستغني عنهما فى التعرف على الأشياء حوله ؟ إن هذا المنطق يقضي بأن يغمض الإنسان عينيه ، ثم يضع يده على كتف أي ذي عينين ، ليقوده ويتبع خطاه ! هكذا فى تهكم وسخرية ، يلقون هذا المنطق المشرق .. وهكذا يستقبلون الجدّ بهذا الهزل الأحمق .« قالَ : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ »( ) لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا ، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه ، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه : « رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ » هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد ، وإن كان لا يرى ، فإن آثاره تدل عليه ، وتشهد على عظمته وجلاله ، وقدرته وعلمه ، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله ، وشهد شهادة الحق له .. « وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ »( ) .. لقد أسرّ إبراهيم ذلك فى نفسه ، وأراد أن يريهم هذا القول فى صورة عملية ، بعد أن لم يجد القول آذانًا تسمع ، أو قلوبًا تعي .. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال ، وصغار العقول من الرجال .. وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها فى شأن الأصنام ، بالقسم ، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه فى هذا الموقف ، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا ، وبردت حرارة الموقف !. والكيد للأصنام ، هو إعمال الحيلة ، وإحكام التدبير فيما يريده بها . « فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ »( ) . وهكذا كان إبراهيم وتدبيره .. لقد دخل على مرابض الأصنام في غفلة من عابديها ، ثم أعمل فيها يده تحطيمًا ، وتكسيرًا ، حتى جعلها « جُذاذًا » أي قطعًا صغيرة متناثرة .. إلا كبير هذه الأصنام ، فإنه أبقى عليه لأمر أراده ، سيكشف عنه فيما بعد .. وفى هذا يقول الله تعالى في سورة الصافات : « فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ »( ) . « قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ؟ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ »( ) .. وحين رأى القوم آلهتهم حطامًا ، وقد جاءوا إليها عابدين ، أخذتهم الحيرة والدهشة ، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم . فلما زايلتهم تلك الحال ، جعلوا يتساءلون : « مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ؟ » يقولونها ولا يسألون أنفسهم : كيف يفعل بآلهتهم هذا ، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به ؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها ؟ لم يلتفتوا إلى شيء من هذا ، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة .. « إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ » ! « قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ »( ) .. والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة ، ويبغض مقامها فيهم ، فلم يجدوا غير إبراهيم ، الذي أنكر عليهم عبادتها ، وسخر من قبل بهم وبها ! « قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ »( ) .. وجاءوا بإبراهيم ، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام ، على أعين الناس ، وبمشهد من الجموع الحاشدة ، التي هزّها هذا الحدث العظيم ! « قالُوا : أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ؟ »( ) « قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا. فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ؟»( ) . بهذا الأسلوب الساخر القاتل ، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له . أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام ، بل الذي فعله هو كبيرهم هذا ، الذي ترونه قائمًا على هذه الأشلاء ! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة ، وليس هذا ببعيد ، فما أكثر ما يقع الخلاف بين المتبوع والتابعين ، وما أكثر ما يملك المتبوع من القوة والسلطان ما يضرب به أتباعه الضربة القاضية.. وليس من المستبعد إذن أن يكون قد وقع خلاف بين هذا الصنم الكبير، وبين أتباعه ، فأخذهم ببأسه ، ونكّل بهم هذا التنكيل الذي ترون ! فإن كنتم لا تصدقون « فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » أي إن كان في قدرتهم أن ينطقوا ، وأن يكشفوا عن الجاني الذي جنى عليهم ، وحطم رؤوسهم ، ومزق أشلاءهم ! ولم ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبير.. بل دعاهم إلى أن يسألوا المجني عليهم ، فهم أعرف بمن جنى عليهم ، إن كان بهم قدرة على الكلام .. أما الجاني فقد ينكر جنايته ، ولا يكشف عن فعلته .. وهذا هو السرّ في أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني .. هذا ، وقد أكثر المفسرون في الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام ، ودفع التهمة عنه .. ودخلوا فى جدل طويل حول هذا الكذب ، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب ، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه .. لأنه من قبيل التقيّة ، التي يجوز للمؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى ، ما دام قلبه مطمئنًا بالإيمان .. والأمر لا يحتاج إلى شيء من هذا ، فما قال إبراهيم هذا القول ، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه ، أو يأخذون به .. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه .. وإنما قال إبراهيم ما قال ، استهزاء بالقوم ، وسخرية منهم ، وكشفًا لهم عن حقيقة هذه الأحجار .. ولهذا ردّوا عليه قوله : « لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ » ! أي إنك تقول هذا القول ساخرًا مستهزئًا ، لأنك تعلم أنهم لا ينطقون .. وإذن فلا كذب من إبراهيم ، وإنما هو الحق الصراح ، فى أسلوب مجازي !! « فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ »( ) . أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا ، ووقع فى أنفسهم هذا القول الذي قاله ، أنه حق ، وأنهم على ضلال ، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى ، وتلك الخشب المسندة .. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق ، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال ، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه ، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم ، شيئًا من العقل المستبصر ، والبصيرة النافذة لاشتعلت هذه الشرارة فى كيانهم ، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم ، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم .. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق ، حتى نفخ فيها الهوى ، والضلال ، فماتت في مهدها ، وخبت فى مكانها ! « ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ »( ). لقد صحّ وضع القوم فى الحياة ، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم ، وأراهم من آلهتهم ما هي عليه من ذلّة وضعف واستسلام ، فرأوا وجه الحق مشرقًا مضيئًا .. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم ، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس ، ونكسوا على رءوسهم ، فرأوا الأشياء فى وضعها المقلوب ، كما كانوا يرونها من قبل .. رأوا الحق باطلًا ، والباطل حقًا .. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال : « لَقَدْ عَلِمْتَ ، ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ؟ »( ) « قالَ : أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ ؟ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ . أَفَلا تَعْقِلُونَ »؟( ).
وقال آخر عارضًا هذه الفتوة : أُعْقِبَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ هُوَ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي مُقَاوَمَةِ الشِّرْكِ : إِذْ قَاوَمَهُ بِالْحُجَّةِ وَبِالْقُوَّةِ وَبِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ ، إِذْ أَقَامَ لِلتَّوْحِيدِ هَيْكَلًا بِمَكَّةَ هُوَ الْكَعْبَةُ ، وَبِجَبَلِ " نَابُو " مِنْ بِلَادِ الْكَنْعَانِيِّينَ حَيْثُ كَانَتْ مَدِينَةٌ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ " لَوْزَا " ، ثُمَّ بَنَى بَيْتَ إِيلَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ مَدِينَةِ " أُورْشَلِيمَ " فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُقِيمَ بِهِ هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدُ ، فَكَانَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ شَاهِدًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَ مُمَاثِلًا لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِ دَابِرِهِ . وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ كَانُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي نَعَاهَا جَدُّهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ أَشْهَرُ شَرِيعَةٍ بَعْدَ شَرِيعَةِ مُوسَى . وإبْرَاهِيمَ قد آتاه الله رشده ، أَيِ الرُّشْدُ الَّذِي أُرْشِدَهُ . وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا الرُّشْدِ ، أَيْ رُشْدًا يَلِيقُ بِهِ ، وَلِأَنَّ رُشْدَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ كَانَ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، أَيْ هُوَ الَّذِي عَلِمْتُمْ سُمْعَتَهُ الَّتِي طَبَّقَتِ الْخَافِقَيْنِ ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُشْدٍ أُوتِيَهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلِاخْتِصَاصِ ، فَكَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِالْهُدَى بَيْنَ قَوْمِهِ . وَزَادَهُ تَنْوِيهًا وَتَفْخِيمًا تَذْيِيلُهُ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : « وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ » ( ) أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدًا عَظِيمًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِإِبْرَاهِيمَ ، أَيْ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ الرُّشْدِ ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَحَلَّ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ قُرْآنِهِ ، أَيْ عَلِمَ مِنْ سَرِيرَتِهِ صِفَاتٍ قَدْ رَضِيَهَا وَأَحْمَدَهَا فَاسْتَأْهَلَ بِهَا اتِّخَاذَهُ خَلِيلًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : « وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ » ( ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى : « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته » ( ). وَقَوْلِهِ : « مِنْ قَبْلُ » ( ) أَي من قَبْلُ أَنْ نُوتِيَ مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا . وَوَجْهُ ذكر هَذِه الْقبلية التَّنْبِيه على أَنه مَا وَقَعَ إِيتَاءُ الذِّكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَّا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمَا لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً مَدْرُوسَةً . وإِذْ قالَ : ظَرْفٌ لِفِعْلِ آتَيْنا ، أَيْ كَانَ إِيتَاؤُهُ الرُّشْدَ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : « مَا هذِهِ التَّماثِيلُ » ( ) إِلَخْ ، فَذَلِكَ هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيَهُ ، أَي حِين نزُول الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَذَلِكَ أول مَا بدىء بِهِ من الْوَحْيُ . وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ " الْكَلْدَانِ " وَكَانَ يَسْكُنُ بَلَدًا يُقَالُ لَهُ " كَوْثَى " ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي التَّوْرَاةِ " أُورَ الْكَلْدَانِ "، وَيُقَالُ : أَيْضًا إِنَّهَا " أُورْفَةُ " فِي " الرُّهَا " ، ثُمَّ سَكَنَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُهُ " حَارَانَ "، وَحَارَانُ هِيَ " حَرَّانُ " ، وَكَانَتْ بَعْدُ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِصْحَاحِ 12 مِنَ التَّكْوِينِ لِقَوْلِهِ فِيهِ : « اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ » . وَمَاتَ أَبُوهُ فِي " حَارَانَ " كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ 11 مِنَ التَّكْوِينِ ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مِنْ " حَارَانَ " لِأَنَّهُ مِنْ حَارَانَ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ . وَقَدِ اشْتُهِرَ حَرَّانَ بِأَنَّهُ بَلَدُ الصَّابِئَةِ وَفِيهِ هَيْكَلٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِئَةِ ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا مُجَسَّمَةً . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : « مَا هذِهِ التَّماثِيلُ » يَتَسَلَّطُ عَلَى الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : « الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ » ( ) فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا عِبَادَتُكُمْ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ ؟. وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِأُسْلُوبِ تَوَجُّهِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ذَاتِ التَّمَاثِيلِ لِإِبْهَامِ السُّؤَالِ عَنْ كُنْهِ التماثيل فِي بادىء الْكَلَامِ : إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِالْمَعْبُودِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِعُكُوفِهِمْ عَلَيْهَا . وَهَذَا مِنْ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ اسْتَعْمَلَهُ تَمْهِيدًا لِتَخْطِئَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ جَوَابَهُمْ ، فَهُمْ يَظُنُّونَهُ سَائِلًا مُسْتَعْلِمًا ، وَلِذَلِكَ أَجَابُوا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِمْ : « وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ))( ) فَإِنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ " مَا " أَنَّهُ لِطَلَبِ شرح مَاهِيَّة الْمَسْئُول عَنْهُ . وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ لِزِيَادَةِ كَشْفِ مَعْنَاهَا الدَّالِّ عَلَى انْحِطَاطِهَا عَنْ رُتْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ . وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ يَسْلُبُ عَنْهَا الِاسْتِقْلَالَ الذَّاتِيَّ . وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ " بَعْلُ " وَهُوَ أَعْظَمُهَا ، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ ، وَهُوَ رَمْزُ الشَّمْسِ فِي عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ ، وَعَبَدُوا رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ : وَدًّا ، وَسُوَاعًا ، وَيَغُوثَ ، وَيَعُوقُ ، وَنَسْرًا ، إِمَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَإِمَّا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى . وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْنَامِ أَشُورَ " إِخْوَانِ الْكَلْدَانِ " صَنَمًا اسْمُهُ " نَسْرُوخُ " وَهُوَ نَسْرٌ لَا مَحَالَةَ . وَجَعْلُ الْعُكُوفِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : « أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ » فِيهِ معنى الْعِبَادَة ، فَلذَلِك عُدِّيَ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ مُلَازَمَةِ عِبَادَتِهَا . وَجَاءُوا فِي جَوَابِهِ بِمَا تَوَهَّمُوا إِقْنَاعَهُ بِهِ ، وَهُوَ أَنَّ عِبَادَةَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ كَانَتْ مِنْ عَادَةِ آبَائِهِمْ ، فَحَسِبُوهُ مِثْلَهُمْ يُقَدِّسُ عَمَلَ الْآبَاءِ ، وَلَا يَنْظُرُ فِي مُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَجَابَهُمْ : « لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » ( ) مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِلَامِ الْقَسَمِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : « كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ » مِنِ اجْتِلَابِ فِعْلِ الْكَوْنِ وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ ، إِيمَاءٌ إِلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ وَانْغِمَاسِهِمْ فِيهِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ ضَلَالٌ بَوَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِـ « مُبِينٍ » . فَلَمَّا ذَكَرُوا لَهُ آبَاءَهُمْ شَرَّكَهُمْ فِي التَّخْطِئَةِ بِدُونِ هَوَادَةٍ بِعَطْفِ الْآبَاءِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ ، وَلَا عُذْرَ لِآبَائِهِمْ فِي سَنّ ذَلِكَ لَهُمْ ، لِمُنَافَاةِ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ لِحَقِيقَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ . وَلِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ ضَلَالًا ، وَإِيقَانِهِمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ ، شَكُّوا فِي حَالِ إِبْرَاهِيمَ أَنَطَقَ عَنْ جِدٍّ مِنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِقَادَهُ فَقَالُوا : « أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ ؟ » فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْحَقِّ الْمُقَابِلِ لِلَّعِبِ وَذَلِكَ مُسَمَّى الْجِدِّ . فَالْمَعْنَى : بِالْحَقِّ فِي اعْتِقَادِكَ أَمْ أَرَدْتَ بِهِ الْمَزْحَ ، فَاسْتَفْهَمُوا وَسَأَلُوهُ : « أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ؟ »( ) . وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ . وَالْمُرَادُ بِاللَّعِبِ هُنَا لَعِبُ الْقَوْلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى مَزْحًا ، وَأَرَادُوا بِتَأْوِيلِ كَلَامِهِ بِالْمَزْحِ التَّلَطُّفَ مَعَهُ وَتَجَنُّبَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ اسْتِجْلَابًا لِخَاطِرِهِ لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ حُجَّتِهِ . وَعَدَلَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوَصْفِ لَاعِبٍ إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مِنْ زُمْرَةِ اللَّاعِبِينَ مُبَالَغَةً فِي تَوَغُّلِ كَلَامِهِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَزْحِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَائِلُهُ مُتَمَكِّنًا فِي اللَّعِبِ وَمَعْدُودًا مِنَ الْفَرِيقِ الْمَوْصُوفِ بِاللَّعِبِ . وَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ : « أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ » لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ، أَيْ وَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّمَاثِيلُ أَرْبَابًا ، إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ هِيَ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنَ الْحِجَارَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ « أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ » ( ) فَلَمَّا شَذَّ عَنْهَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنْكَرٍ مِنْكُمْ فَهِيَ مَنْحُوتَةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ ، فَمَا هِيَ إِلَّا مَرْبُوبَةٌ مَخْلُوقَةٌ ، وَلَيْسَتْ أَرْبَابًا وَلَا خَالِقَةً . فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى « فَطَرَهُنَّ » ضَمِيرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا مَحَالَةَ . فَكَانَ جَوَابُ إِبْرَاهِيمَ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ « أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ » مَعَ مُسْتَنَدِ الْإِبْطَالِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ . وَلَيْسَ فِيهِ طَرِيقَةُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا ظَنَّهُ الطِّيبِيُّ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : « وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » ( ) إِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ لِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ ، لِأَنَّ رَسُولَ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدٌ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » ( ) ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْمِهِ مَنْ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَنَّهُ بَعْضُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْأَقْطَارِ . وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ ، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ :
شَهِدَ الْفَرَزْدَقُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
ثُمَّ انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْقَوْلِ إِلَى تَغْيِيرِهِ بِالْيَدِ مُعْلِنًا عَزْمَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : « وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ » ( ) مُؤَكِّدًا عَزْمَهُ بِالْقَسَمِ ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الْقَسَمِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ الَّتِي قَبْلَهَا . وَالتَّاءُ تَخْتَصُّ بِقَسَمٍ عَلَى أَمْرٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ وَتَخْتَصُّ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : « قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ » ( ). وَسَمَّى تَكْسِيرَهُ الْأَصْنَامَ كَيْدًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِاعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْكَيْدِ . وَالْكَيْدُ : التَّحَيُّلُ عَلَى إِلْحَاقِ الضُّرِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ الْمُتَضَرِّرِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : « إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ » ( ) . وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَيْدَهُ بِمَا بَعْدَ انْصِرَافِ الْمُخَاطَبِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الضُّرُّ بِالْأَصْنَامِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ، وَهَذَا مِنْ عَزْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مَعَ كَوْنِهِ بِالْيَدِ مَقَامُ عَزْمٍ ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ، فَلَوْ حَاوَلَ كَسْرَهَا بِحَضْرَتِهِمْ لَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ : إِزَالَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَلِذَلِكَ فَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمِكْنَةِ . قال تعالى : « فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ » ( ) . وَالْجُذَاذُ : اسْمٌ جَمْعُ جُذَاذَةٍ ، وَهِيَ فُعَالَةٌ مِنَ الْجَذِّ ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِثْلَ قُلَامَةٍ وَكُنَاسَةٍ ، أَيْ كَسَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ قِطَعًا . قِيلَ : كَانَتِ الْأَصْنَامُ سَبْعِينَ صَنَمًا مُصْطَفَّةً وَمَعَهَا صَنَمٌ عَظِيمٌ وَكَانَ هُوَ مُقَابِلَ بَابِ بَيْتِ الْأَصْنَامِ ، وَبَعْدَ أَنْ كَسَرَهَا جَعَلَ الْفَأْسَ فِي رَقَبَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ . وَمَعْنَى « لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ » : رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ الْأَقْوَامُ إِلَى اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَنْ كَسَرَ بَقِيَّةَ الْأَصْنَامِ ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَهْلَهُمْ يُطْمِعُهُمْ فِي اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ . وَلَعَلَّ الْمُرَادَ اسْتِشَارَةُ سَدَنَتِهِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ وَحْيِهِ الْمَزْعُومِ . وَضَمِيرُ « لَهُمْ » عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ مِنْ قَوْله « أَصْنامَكُمْ » ( ) وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ مُحَاكَاةً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ قَوْمَهُ يَحْسُبُونَ الْأَصْنَامَ عُقَلَاءَ ، وَمِثْلُهُ ضَمَائِرُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ « بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ » ( ), وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَمِلَهُ بَعْدَ أَنْ جَادَلَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ ، وَرَأَى جِمَاحَهُمْ عَنِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ . وَقَوْلُ قَوْمِهِ « مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ » يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ الْآلِهَةِ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ فَرِيقٌ لَمْ يَسْمَعْ تَوَعُّدَ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدَ أَصْنَامَهُمْ ، وَالَّذِينَ قالُوا « سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ » هُمُ الَّذِينَ تَوَعَّدَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ . وَالْفَتَى : الذَّكَرُ الَّذِي قَوِيَ شَبَابُهُ . وَيَكُونُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْإِبِلِ . وَالْأُنْثَى : فَتَاةٌ ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ صِفَةَ مَدْحٍ دَالَّةً عَلَى اسْتِكْمَالِ خِصَالِ الرَّجُلِ الْمَحْمُودَةِ . وَالذِّكْرُ : التَّحَدُّثُ بِالْكَلَامِ . وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ « يَذْكُرُ » لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِتَوَعُّدٍ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : « أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ؟ » ( ) كَمَا تَقَدَّمَ . وَفِي قَوْلِهِمْ « يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ » دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَحْثِ فِي الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ ، أَوْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَرَادُوا تَحْقِيرَهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ ، وَإِنَّمَا يُدْعَى أَوْ يُسَمَّى إِبْرَاهِيمَ ، أَيْ لَيْسَ هُوَ مِنَ النَّاسِ الْمَعْرُوفِينَ . وَمَعْنَى « عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ » : عَلَى مُشَاهَدَةِ النَّاسِ ، فَاسْتُعِيرَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَمَكُّنِ الْبَصَرِ فِيهِ حَتَّى كَانَ الْمَرْئِيَّ مَظْرُوفٌ فِي الْأَعْيُنِ . وَمَعْنَى « يَشْهَدُونَ » : لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ الْأَصْنَام بالكيد( ). وكان إبراهيم - عليه السلام - رجلاً خاملاً في القوم ، بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم : « قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ » ( ) فهو غير مشهور بينهم ، مُهْمَل الذكر ، لا يعرفه أحد ، فلما والى الله والاه قال : لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ، ولأُجرينَّ ذِكْرك بعد أنْ كنت مغمورًا على كل لسان ، وها نحن نذكره - عليه السلام - في التشهد في كل صلاة( ).
وإليك هذه الحادثة الطريفة في الفتوة : يقال « إِنَّ وَافِدًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بن الخطاب ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لِه عُمَرُ : مَا أَقْدَمَكَ ؟ قُالْ : وَافِدًا لِقَوْمِي ، قَالَ : فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَآذِنِ الْمُهَاجِرِينَ ، ثُمَّ الْوَفْدَ ، ثُمَّ النَّاسَ ، ثُمَّ احْضُرِ الْبَابَ ، قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَذَنْتُ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ الْوَفْدَ ثُمَّ النَّاسَ ، قَالَ : فَحَضَرُوا الْبَابَ ، فَجَلَسَ عُمَرُ وَصَفَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفًا ، فَقَالَ : وَجَعَلَ يَتَصَفَّحُهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُحْبَنْطِئٍ( ) عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتُ بُرُودٍ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هِيهْ ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُشَارَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، قَالَ : هِيه ، فَقَالَ الرَّجُلُ : هِيه ، فَقَالَ عُمَرُ : هِيه ، فَقَالَ الرَّجُلُ : هِيه ، فَقَالَ عُمَرُ : قُمْ ، فَأَخَذَ مَقَامَهُ مِنَ الصَّفِّ ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَصَفَّحُهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ صَغِيرُ الْقِمَّةِ ثَطٌّ ، قَالَ : فَأَتَاهُ ، فَإِذَا هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، فَقَالَ عُمَرُ : هِيه ، فَقَالَ : هِيه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَلْ ، فَلَنُخْبِرَنَّكَ ، قَالَ : هِيه ، قَالَ : هِيه ، قَالَ : قُمْ فَمَا نَفَعَكَ صَبَّاغٌ وَلَا رَاعِي ضَأْنٍ ، فَقَامَ ، فَأَخَذَ مَقَامَهُ مِنَ الصَّفِّ ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَصَفَّحُهُمْ بَعَيْنَيْهِ ، قَالَ : فَإِذَا شَابٌّ طُوَالٌ ، مَعْرُوقٌ حَسَنُ الْوَجْهِ ، فتفَّرَسَ فِيهِ الْخَيْرَ ، قَالَ : فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ ، قَالَ : فَأَتَاهُ فَجَثَا وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هِيه ، فَقَالَ : هِيه ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وُلِّيتَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِسَبْقٍ كَانَ مِنْكَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّهَا بَلِيَّةٌ ابْتُلِيتَ بِهَا ، وَلَوْ أَنَّ شَاةً ضَلَّتْ بِشَطِّ الْفُرَاتِ لِسُئِلْتَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَ : فَانْكَبَّ عُمَرُ لِوَجْهِهِ ، فَمَا زَالَ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ مَا حَوْلَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ أَعِدْ عَلَيَّ ، فَمَا صَدَقَنِي أَحَدٌ مُنْذُ وُلِّيتُ هَذَا الْأَمْرَ غَيْرُكَ ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ ، قَالَ وَبَكَى عُمَرُ أَشَدَّ مِنْ بُكَائِهِ الْأَوَّلِ حَتَّى سُرِّيَ عَنْهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ أَنْتَ تَأْكُلُ لَحْمَهَا ، وَأَنَا أُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَ : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لِأَنَّكَ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالشَّاةُ فِي رَعِيَّتِكَ ، قَالَ : فَكَانَتْ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، فَانْكَبَّ يَبْكِي حَتَّى ظَنَنَّا نَفْسَهُ سَتَخْرُجُ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ : لَيْتَ أَنَّ هَذَا الشَّابَّ لَمْ يَدْخُلِ الْيَوْمَ هَذِهِ الدَّارَ ، مَا دَخَلَهَا إِلَّا لِشَرٍّ ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ : فُلَانُ بْنُ زِيَادٍ ، قَالَ : أَخُو الْمُهَاجِرِ بْنِ زِيَادٍ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَدَعَا عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ، فَاسْتَعَمَلَهُ ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ الْفَتَى ، وَقَالَ لَهُ : تَفَقَّدْ سَرِيرَتَهُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، فَإِنَّ وَجَدْتَهُمَا وَاحِدَةً ، فَاكْتُبْ إِلَيَّ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ غِنًى ، قَالَ : وَكَانَ عُمَرُ إِذَا ذَكَرَ الْغِنَى عَنَى بِهِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَعْنِ بِهِ الْمَالَ ، قَالَ : فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى الْبِلَادَ أَجْبَرَهُ عَلَى الْعَمَلِ ، ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ رَجُلًا يَتَفَقَّدُ سَرِيرَتَهُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، فَوَجَدَهُمَا وَاحِدَةً ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ : إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاسْتِخْلِفْهُ عَلَى الْجُنْدِ ، وَأَقْبِلْ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ : كَرِهَ وَاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّاسِ رَجُلٌ ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ » ( ).
الباحث : محمود بن سعيد الشيخ