قطنا
مرحبا بك في منتديات قطنا الثقافية و العلمية
و نشكر زيارتكم
ولتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من خصائص, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.
و يرجى الانتباه بادخال الايميل الصحيح لانه عند التسجيل ستصلك رسالة تفعيل رمز الدخول الى بريدك الالكتروني و بعد التفعيل ستتمكن من الدخول بالاسم و كلمة المرور التي ادخلتها
كما ندعوكم لزيارة موقعنا قطنا نت www.qatana.net
قطنا
مرحبا بك في منتديات قطنا الثقافية و العلمية
و نشكر زيارتكم
ولتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من خصائص, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.
و يرجى الانتباه بادخال الايميل الصحيح لانه عند التسجيل ستصلك رسالة تفعيل رمز الدخول الى بريدك الالكتروني و بعد التفعيل ستتمكن من الدخول بالاسم و كلمة المرور التي ادخلتها
كما ندعوكم لزيارة موقعنا قطنا نت www.qatana.net
قطنا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
قطنا

منتدى مدينة قطنا
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
"وقـل اعمـلوا فسـيرى الله عـملكم ورسـوله والمؤمنـون"    

 

 تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
ابو محمد الشيخ
عضو فعال
عضو فعال
avatar


المزاج : قطنا
ذكر
عدد المساهمات : 111
نقاط : 331
تاريخ الميلاد : 30/01/1948
العمر : 76
تاريخ التسجيل : 08/11/2010
مكان الإقامة : سوريا-قطنا

تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية Empty
مُساهمةموضوع: تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية   تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية Emptyالأربعاء مارس 14, 2012 3:17 pm

تابع جبل الشيخ – الحلقة الثانية (1)
2- جبل الحرمون
يعتبر اسم « حرمون » الاسم الثاني في الشهرة في وقتنا الحاضر لجبل الشيخ ، والذي مازال متداولاً لدى الكتاب والمؤلفين ، وتسميته باسم « حرمون » تسمية قديمة ، موغلة في القدم ، لا يعرف اسم أول شعب أطلقها عليه ، ولعله من الأسماء التي أطلقتها شعوب ما قبل التاريخ المدون عليه ، وعنهم أخذتها الشعوب اللاحقة ، وأقدم نص وجده علماء الآثار يحتوي على الاسم هو لدى السومريين ، فقد جاء في ملحمة جلجاميش « كلكامش » الملك الخامس « 3150 ق.هـ »( ) من سلالة الوركاء الأولى من السلالات السومرية المشهورة التي خلدته في التاريخ( ) ، وخلدت معه جبل الشيخ ، الذي ذكر فيها « حرمون » باسمه الصريح في قوله : « أرض جبل الأرز " حرمون " ، هي أرض الخالدين » . ولقد ذكره المؤرخ المعاصر « فيليب حتي » بقوله : « إن جبل الحرمون بفضل تكوينه الطبيعي ، وموقعه الجغرافي ، هو أجمل قمة في هذه السلسلة ، وأشدها روعة وجلالًا ، وأبرزها إلى عين الرائي من مسافات بعيدة » . ويضيف إلى ذلك قوله : « واسم حرمون ، عبراني الأصل ، ومعناه : مقدّس »( ). وفي الواقع فقد جاء ذكر جبل « حرمون » في التوراة في سفر القضاة حيث قال : « جبل حرمون : إنه أول جبال لبنان ، من جبل بعل حرمون حتى مفرق حماة »( ). وفي التلمود أيضًا ورد اسمه « حرمون الكبير» . ويذكر علماء النصارى أن اسم حرمون ورد في الكتاب المقدس « العهد القديم » 71 مرة( ) مما يدل دلالة واضحة على أهميته الدينية . ومن المعلوم تاريخيًا أن موسى – عليه السلام – قاد بني إسرائيل عائدًا بهم من مصر إلى فلسطين هربًا من فرعون وجيشه في الربع الأخير من القرن 20 ق.هـ( ) . وبعد عبورهم سيناء ، أقاموا فترة في فلسطين وخاضوا حربًا انتصروا فيها على سيحون ملك العموريين وعوج ملك باشان ، وسقطت في أيديهم مجموعة من مدن فلسطين مثل أريحا فاستباحوها ثم أحرقوها . واستوطنت قبيلتي يهوذا وبنيامين الأراضي المحيطة بالقدس ، أما باقي القبائل فقد استوطنت السهول الشمالية . واستغرقت فترة الاستيطان قرنًا كاملاً امتد بين القرنين 19 و18 ق.هـ( ) ، ويطلق عليها المؤرخون فترة « عصر القضاة » ، حيث كان القضاة محاربين أقوياء وحكامًا مخلصين ، كان على رأسهم دبورة وباراق وجدعون وشمشون ، وقد قادوا العبرانيين في حروبهم ضد الفلسطينيين وانتصروا عليهم ، لكن الفلسطينيين كانوا على معرفة بصهر الحديد واستخدامه في الحرب ، فازدادت قوتهم ، واستطاعوا في القرن 19 ق.هـ( ) أن يهزموا العبرانيين ، لكن داوود تمكن من التغلب عليهم ( ). إن هذا الاستعراض التاريخي ضروري للمقارنة بين تاريخي ملحمة جلجاميش وكتابة الأحبار سفر القضاة بعد موسى – عليه السلام – بعدة أجيال ، وهذا يعني أن الفارق الزمني بين التاريخين يزيد عن ألف عام ، ولما كان النص السومري أقدم من نص سفر القضاة بحوالي ألف سنة ، فإن ما ذكره المؤرخ فيليب حتي ومن نهج نهجه يحتاج إلى إعادة نظر في عبرانية كلمة « حرمون » ، لأن النص دل دلالة واضحة على أن السومريين كانوا يعرفون التسمية قبل عهد موسى – عليه السلام – ونزول التوراة عليه ، وحتى قبل وصول العبرانيين إلى المنطقة ، فضلاً عن كتابة سفر القضاة . ومن المحتمل أن العبرانيين أخذوا التسمية عن السومريين ، أو عن سكان المنطقة الكنعانيين لمجاورتهم لهم واختلاطهم بهم ، وهو الأرجح . وفي الواقع فإن العبرانيين في تسميتهم للجبل لم يقتصروا على اسم حرمون ، وإنما أطلقوا عليه أسماء أخرى ، منها إضافة إلى حرمون : سنيرو ، وسيئون ، وسعير . وتأتي النصوص الأخرى التي اكتشفت لتؤكد استخدام الكنعانيين له ، ولتؤكد على تسميتهم له باسم جبل « حرمون » أيضًا ، الذي ذكرت نصوص أوجاريت في الشام أن معبوداتها تستقر فوقه . وأن هذا الاسم الكنعاني أصبح منتشرًا ومعروفًا لدى الساميين ، وذلك على ما ورد في ملحمة جلجاميش البابلية المعدلة عن الرواية السومرية( ) ، والتي سنوردها كنموذج لثقافة شعوب المنطقة عن أرض الحياة ، جبل الأرز في حرمون . كما سجل الحثيون والمصريون القدماء له أيضًا في وثائقهم الرسمية ، فقد ورد اسم « حرمون » في معاهدة السلام التي وقّعها الملك الحثي حاتوشيلي الثالث مع الفرعون المصري رعمسيس الثاني في عام 1953 قبل الهجرة( ). وهو قبل عودة موسى – عليه السلام - ببني إسرائيل من مصر !! . وهذا يدل على أن الاسم لم يعد اسمًا محليًا فحسب ، وإنما صار اسمًا عالميًا له ، عرفه بها شعوب المنطقة ومن جاورهم من الأمم ، ومن كان لهم بهم صلات تجارية – اقتصادية وغيرها .
ومن المدهش حقًا أن هذا الاسم لم يستعمله علماء اليونان والرومان ، الذين حكموا المنطقة منذ الربع الأول من القرن العاشر قبل الهجرة( ) ، وإنما أطلقوا عليه مسميات أخرى ، سترد إن شاء في مواضعها ، وكذلك حذا حذوهم علماء الجغرافيا العرب والمسلمون في كتبهم القديمة ، وإنما كانوا يطلقون عليه اسم جبل الثلج ، هذه التسمية التي أطلقها العرب عليه قبل الإسلام واستمروا يتداولونها بينهم . وليس معنى هذا أن التسمية اندثرت ، وإنما نقول انحصرت في أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية ، الذين بقوا يتوارثونها في كتبهم المقدسة وفي مؤلفاتهم المحصورة بهم ، وهذا هو سر بقاء هذه التسمية إلى عصرنا الحاضر ، وسر من يتداولها رغم وجود التسمية الحالية « جبل الشيخ » للجبل .
وكدليل على ذلك نورد ذكر بنيامين التطيلي اليهودي المتوفى سنة 569 هـ في القرن السادس الهجري له في رحلته حيث قال : « وعلى بعد عشرة أميال منها – يقصد صيدا - تقيم طائفة الدروز ، وهي في خصام مستمر مع أهل صيداء . وهؤلاء لا دين يعرف لهم ، يعتصمون فوق قمم الجبال وشعاب الصخور ، ولا يمتون بطاعة لملك أو أمير . ومضاربهم على بعد ثلاثة أيام من جبل حرمون »( ). وقال في وصف مدينة دمشق : « دمشق » البلدة العامرة ، حاضرة نور الدين ، سلطان التوغرمين المعروفين بالترك . وهي مدينة واسعة الأرجاء ، جميلة المنظر ، تدور بها الأسوار المتينة ، وتمتد رياضها وبساتينها إلى مسافة خمسة عشر ميلا من كل جانب . ولم أجد مثل فاكهتها وأشجارها في أي مكان آخر في العالم . وينحدر نحو المدينة نهران يأتيانها من جبل « حرمون » هما : « أبانة » و « فرفر » . ويشرف الجبل على ظاهر البلد . أما أبانة فيجري في داخل المدينة ، ويوزع ماؤه على بيوت الخاصة بقناطر تمر بالأسواق والأزقة . وأما فرفر فيسقي البساتين والغياض خارج البلدة »( ).

وقال الأستاذ « منيف الخطيب » معبرًا عن استمرارية اسم حرمون : « اسـمـه جبـل الشـيخ ، الجبل الشــيخ ، جبـل الثلج ، الجبـل المـقـدّس ، جبل حرمون » . هـذه بعـض الأسـماء التي أطلقـت على هذا الجبل العـظيم عبر الحـقـب التاريخـية ، وقد تبقى الآن اسـمان فقط من هذه الأسـماء ، همـا جبل الشـيخ أو حـرمون يعرف بهما ، وتعتمدهما الكتب والموسـوعات الجغرافية والتاريخية وسـائر الدراسـات والأبحاث والوثائق التي تتعلق بالمنطقة( ) » ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك التسميات الأخرى التي تعبر عن قدسيته ، مثل أرض الحياة ، وأرض الخالدين ، وأرض شوبا ، وبعل حرمون ، وجبل الجليل ... الخ

ولما كانت كلمة « حرمون » غير عربية الأصل والمنشأ ، لذلك لا نجد لها ذكرًا في معاجم اللغة العربية ، ويترتب على هذا عدم البحث عنها فيها . ولكن أرى أن مجموعة اللغات المسماة باللغات السامية لها جذور مشتركة ، وأحيانًا تكون متقاربة أو متفقة المعنى ، وهذا يعني أن البحث في ذلك قد يعود ببعض الفوائد ، ويلقي أضواء على الكلمة تزيد في وضوحها ، وفي نضج البحث . ومن هذا المنطلق أرى أن جذر كلمة حرمون : « حرم » مستخدم في اللغة العربية بعدة معان ، وجمع « حَرَام » : « حُرُم » ، وهو ما أورده عبد العزيز صَالح مُحَوَّرًا « هوروم »( ) بالنص السومري ، كما ذهبت إلى ذلك « هالة حمصي » أيضًا في عرضها لأقوال أستاذة اللاهوت المسيحي في جامعة القديس يوسف « روز أبي عاد » : « جذر لفظة حرمون هو « حرم » . ولا تزال الكلمة مستخدمة حتى اليوم ، ومنها نستقي تعبير الحرمة ، أي القدسية ، والمكان الذي لا يمكن لأي شخص كان أن يصل إليه »( ) . ومن معانيها ما قاله الخليل ابن أحمد الفراهيدي في كتابه العين : « والمُحَرَّم سُمِّيَ به لأنَّهم لا يَسْتَحلُّونَ فيه القتال . وأَحْرَمْتُ : دَخَلْتُ في الشهر الحَرام . والحُرْمةُ : ما لا يَحِلُّ لكَ انتِهاكُه . وتقول : فلانٌ له حُرْمةٌ : أي تَحَرَّمَ منّا بصُحبةً وبحَقٍّ . وحُرَمُ الرجل : نِساؤه وما يَحمي . والمَحارِمُ : ما لا يحِلّ استحلالُه . والمَحْرَم : ذو الرّحم في القرابة وذات الرّحم في القرابة ، أي : لا يحِلّ تَزويجُها ، يقال : هو ذو رَحِمٍ مَحْرَم وهي ذات رَحِمٍ مَحْرَم قال : وجارة البَيْتِ أراها مَحْرَما . وحَريمُ الدار: ما أُضيفَ إليها من حُقوقها ومَرافِقه ، وحَريم البِئْر : مُلْقَى النَّبيثَة والمَمْشَى على جانِبَيْها ونحو ذلك . وحَريمُ النَّهر : مُلْقَى طينه والمَمْشَى على حافَتَيْه . والحَريمُ : الذي حَرُمَ مَسُّه فلا يُدْنَى منه . وكانت العَرَبُ إذا حَجُّوا ألْقَوا الثِّيابَ التي دَخَلوا بها الحَرَمَ ، فلا يلبَسونها ما داموا في الحَرَم ، قال :
كفى حزنًا كري عليه كأنه ... لقىً بين أيدي الطائفين حَريمُ
والحَرامُ ضِدُّ الحَلال ، والجميع حُرُم ، قال : وباللّيْل هُنَّ عليه حُرُمْ »( ). وما ورد في قوله تعالى : « وَقَالُوا : إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا ، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ؟ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( )» . وقوله تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ( ) » . وهاتان الآيتان والتي في معناهما تشيران إلى خاصتين من خصائص الحرم ، وهما الأمن والتمكن ، الأمن المطلق الذي يفيده تنكير كلمة « حرمًا آمنًا » ، فمطلق الأمن يدخل فيه الأمن النفسي ، والأمن الشخصي ، والأمن الجماعي ، والأمن الاقتصادي ، والأمن العسكري ، الأمن الدنيوي والأمن الأخروي ...الخ . قال ابن عاشور : والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة . والأمن حفظ الناس من الأضرار ، فتشريد الذعار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ، ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله البيت أمنًا للناس يومئذ ، أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف . قال تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ »( ) فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه ، فكان ذلك أمنًا كافيًا . قال السهيلي فقوله تعالى : « مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا »( ) إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة ، فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام »( ). وقال : والحرام المجعول وصفًا للمسجد هو الممنوع ، أي الممنوع منع تعظيم وحرمة ، فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء ، فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه . وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام ، أي : الممنوع من الجبابرة والظلمة والمعتدين ، ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم « عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ »( ) : أي المعظم المحترم ، وسمي الحرم قال تعالى : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً »( ) فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب( ) . وقال : وقد جعل إبراهيم للكعبة مكانًا متسعًا شاسعًا يحيط بها من جوانبها أميالًا كثيرة ، وهو الحرم ، فكان الداخل فيه آمنًا . قال تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ »( ). فكان ذلك أمنًا مستمرًا لسكان مكة وحرمها ، وأمنًا يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذًا ، ولتحقيق أمنه أمن الله وحوشه ودوابه تقوية لحرمته في النفوس ، فكانت الكعبة قيامًا لكل عربي إذا طرقه ضيم( ).

ومن خصائص الحرم التمكن ، قال ابن عاشور : ومعنى « مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ »( ) ثبتناهم وملكناهم ، وأصله مشتق من المكان . فمعنى مكنه ومكن له ، وضع له مكانًا . قال تعالى : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنًا »( ) . ويكنى بالتمكين عن الاقتدار وإطلاق التصرف ، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانه وبيته ، ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر . ويقال : هو مكين بمعنى ممكن ، قال تعالى : « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ »( ) . والتمكين في الأرض : تقوية التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا ، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال( ) . قال العز بن عبد السلام : ولم تزل مكة حرمًا آمناً من الجبابرة والخوف والزلازل ، فسأل إبراهيم أن يجعله آمنًا من الجدب والقحط ، وأن يرزق أهله من الثمرات ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللهَ حَرَّم مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضَ »( ). قال مساور بن هند في هجاء بني أسد :
زعمتــم أن إخـوتكم قريش ... لهم إلــف وليس لكـم إلاف
أولئك أومنوا جوعًا وخوفًا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا( )
وفي كلمة « مقدس » التي هي معنى كلمة « حرمون » . قال الزمخشري في مادة « قدس » : سبّحوا الله وقدّسوه ، وهو القدّوس ، المقدّس ، المتقدّس ، ربّ القدس . قال :
قد علم القدّوس رب القدس ... بمعدن الملك قديم الكرس
وخرج إلى البيت المقدس ، وإلى القدس ، وإلى الأرض المقدسة . قال الفرزدق :
ودع المدينة إنها مرهوبة ... واعمد لمكة أو لبيت المقدس
وقدّس الرجل : أتى بيت المقدس ، كما تقول : كوّف وبصّر، ومنه قولهم : راهب مقدّس . قال امرؤ القيس يصف الثور والكلاب :
فأدركنه يأخذن بالساق والنّسا ... كما شبرق الولدان ثوب المُقَدَّسِ
لأن الصبيان يتمسحون بثيابه تبركًا به فيمزقونها . وأنزلك الله حظيرة القدس وهي الجنة . وفي الحديث : « قل وروح القدس معك » أي ومعينك جبريل عليه السلام . وقيل : وعصمة الله وتوفيقه معك( ). وقال ابن منظور : وَيُقَالُ : القَدُّوس فَعُّول مِنَ القُدْس ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ . والتَقْدِيس : التَّطْهِير والتَّبْريك . وتَقَدَّس : أَي تطهَّر . وَفِي التَّنْزِيلِ : « وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ »( ). قال الزَّجَّاجُ : مَعْنَى نُقَدِّسُ لَكَ : أَي نُطهِّر أَنفسنا لَكَ ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ بِمَنْ أَطاعك نُقَدِّسه : أَي نطهِّره .. قَالَ : وَمِنْ هَذَا بَيْتُ المَقْدِس أَي الْبَيْتُ المُطَهَّر ، أَي الْمَكَانُ الَّذِي يُتطهَّر بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ . وقال ابْنُ الْكَلْبِيِّ : القُدُّوس : الطَاهِرُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : « الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ »( ) : الطَّاهِر فِي صِفَةِ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وَقِيلَ : قَدُّوس - بِفَتْحِ الْقَافِ - قَالَ : وجاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنه الْمُبَارَكُ . والقُدُّوس : هُوَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ- والقُدْسُ : الْبَرَكَةُ . والأَرض المُقَدَّسة : الشَّامُ مِنْهُ ، وَبَيْتُ المَقْدِس مِنْ ذَلِكَ أَيضًا ، فإِمّا أَن يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ ، وإِمّا أَن يَكُونَ اسْمًا لَيْسَ عَلَى الفِعْل كَمَا ذَهَبَ إِليه سِيبَوَيْهِ فِي المَنْكِب ، وَهُوَ يُخفَّف ويُثقَّل . والمُقَدِّس : الحَبْر ؛ وَحَكَى ابْنُ الأَعرابي : لَا قَدَّسه اللَّه أَي لَا بَارَكَ عَلَيْهِ . قَالَ : والمُقَدَّس المُبارَك. والأَرض المُقَدَّسة : المطهَّرة . وَقَالَ الفرَّاء : الأَرض المقدَّسة : الطَاهِرَةُ ، وَهِيَ دِمَشْق وفِلَسْطين وَبَعْضُ الأُرْدُنِّ . وَيُقَالُ : أَرض مقدَّسة أَي مُبَارَكَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وإِليه ذَهَبَ ابْنُ الأَعرابي ؛ وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ :
قَدْ عَلِمَ القُدُّوس مَوْلى القُدْسِ ... أَنَّ أَبا العَبَّاس أَوْلى نَفْسِ
بِمَعْدن المُلْك القَديم الكِرْسِ
أَراد أَنه أَحقُّ نفسٍ بالخِلافة . ورُوحُ القُدُس : جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي الْحَدِيثِ : « إِن رُوحَ القُدُس نَفَث فِي رُوعِي »( ) ، يَعْنِي جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأَنه خُلِق مِنْ طَهَارَةٍ . وَقَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فِي صِفَةِ عِيسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ »( ) ؛ هُوَ جِبْرِيلُ ، مَعْنَاهُ : رُوحُ الطَّهَارَةِ ، أَي خُلِق مِنْ طَهَارَةٍ ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ :
لَا نَومَ حَتَّى تَهْبِطِي أَرضَ العُدُسْ ... وتَشْرَبي مِنْ خَيْرِ ماءٍ بِقُدُسْ
أَراد الأَرض المقدَّسة . وَفِي الْحَدِيثِ : « لَا قُدِّستْ أُمَّة لَا يُؤْخَذ لضَعِيفها مِنْ قَوِيِّها »( ) أَي لَا طُهِّرت( ) .

وقال أبو هلال العسكري في « الفرق بين التسبيح والتقديس » : هما يرجعان إلى معنى واحد ، وهو تبعيد الله عن السوء . وقال بعض الأفاضل : بين التسبيح والتقديس فرق ، وهو أن التسبيح : هو التنزيه عن الشرك والعجز والنقص ، والتقديس : هو التنزيه عما ذكروه عن التعلق بالجسم ، وقبول الانفعال ، وشوائب الإمكان ، وإمكان التعدد في ذاته وصفاته ، وكون الشيء من كمالاته بالقوة . والتقديس أعم ، إذ كل مقدس مسبح من غير عكس ، وذلك لأن الإبعاد من الذهاب في الأرض أكثر من الإبعاد في الماء ، فالملائكة المقربون الذين هم أرواح مجردة بتجردهم وامتناع تعلقهم ، وعدم احتجابهم عن نور ربهم ، وقهرهم لما تحتهم بإضافة النور عليهم ، وتأثيرهم في غيرهم ، وكون كل كمالاتهم بالفعل مسبحون ومقدسون ، وغيرهم من الملائكة السماوية والأرضية ببساطة ذواتهم وخواص أفعالهم وكمالاتهم مسبحون ، بل كل شيء مسبح وليس بمقدس . ويقال : سبوح قدوس ولا يعكس . وقال بعض المحققين : التسبيح هو تنزيه الله عما لا يليق بجاهه من صفات النقص . والتقديس : تنزيه الشيء عن النقوص . والحاصل أن التقديس لا يختص به سبحانه بل يستعمل في حق الآدميين . يقال : فلان رجل مقدس : إذا أريد تبعيده عن مسقطات العدالة ووصفه بالخير ، ولا يقال : رجل مسبح ، بل ربما يستعمل في غير ذوي العقول أيضًا ، فيقال : قدس الله روح فلان ، ولا يقال : سبحه . ومن ذلك قوله تعالى : « ادخلوا الأرض المقدسة » يعني : أرض المقدس ، يعني : أرض الشام . وأما قول الملائكة : « سبوح ، قدوس » مع أن المناسب تقديم القدوس ليكون ذكره بعده ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى ، فلعله للإيذان من أول الأمر بأن المراد وصفه سبحانه دون غيره( ).

وقال المفسرون في تفسير « الأرض المقدسة » في قوله تعالى على لسان موسى - عليه السلام - : « يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ( ) » . قَالَ قَتَادَةُ : « هِيَ الشَّامُ »( ) . وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن معَاذ ابن جبل قَالَ : الأَرْض مابين الْعَريش إِلَى الْفُرَات( ). وقال الطبري : اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ « الأرض المقدَّسة » : فقال بعضهم : عنى بذلك الطورَ وما حوله . ثم أورد الطبري مروياته بأسانيده إلى مجاهد وابن عباس ، ثم قال : وقال آخرون : هو الشأم . وأورد مروياته إلى قتادة . ثم أورد القائلون بالقول الثالث فقال : وقال آخرون : هي أرض أريحا . وأورد مروياته عن ابن زيد والسدي وابن عباس . ثم قال : وقيل : إن « الأرض المقدسة » : دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ . ثم ذكر تفسير معناها فقال : وعنى بقوله : « المقدسة » : المطهرة المباركة . وعلق في الختام عليها بقوله : « وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : هي الأرض المقدّسة ، كما قال نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض ، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر ، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به . غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك »( ). وقال الشوكاني : وَقَوْلُ قَتَادَةَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهُ( ). وقال المراغي : المقدسة : المطهرة من الوثنية ، لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد ، روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه - أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات ، وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية ، والباقي باسم فلسطين ، أو بلاد المقدس ، أو الأرض المقدسة ، أو أرض الميعاد ، لأن الله وعد بها ذرية إبراهيم – عليه السلام - ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب . فقول موسى : كتب الله لكم ، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى في تلك البلاد المقدسة ، لا أن المراد أنها تكون كلها ملكًا لهم لا يزاحمهم فيها أحد ، لأن هذا مخالف للواقع ، ولن يخلف الله وعده ، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح . ونص هذا الوعد فى سفر التكوين من التوراة : إنه لما مر إبراهيم – عليه السلام - بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال : « لنسلك أعطى هذه الأرض » . وجاء فيه أيضًا في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا : « لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات » ( ) . وقال أحد المفسرين في شرح : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » فكان فيهم التوراة شريعة الله ، وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة ، وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب ، وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبيًا في التاريخ . « وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة ، الطيبة ، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات( ). وقال ابن عاشور : وَقَوْلُهُ : « يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ » هُوَ الْغَرَضُ مِنِ الْخِطَابِ ، فَهُوَ كَالْمَقْصِدِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ مَقَالَتَهُ وَهُوَ النِّدَاءُ بِـ « يَا قَوْمِ » لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ أَذْهَانِهِمْ . وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ أَمْرٌ بِالسَّعْيِ فِي أَسبَابه ، أَي تهيّأوا لِلدُّخُولِ . وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ بِمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُبَارَكَةِ ، أَيِ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، أَوْ لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ بِدَفْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوَّلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا وَهِيَ « حَبْرُونُ » . وَهِيَ هُنَا أَرْضُ كَنْعَانَ مِنْ بَرِّيَّةِ « صِينَ » إِلَى مَدْخَلِ « حَمَاةَ وَإِلَى حَبْرُونَ » . وَهَذِهِ الْأَرْضُ هِيَ أَرْضُ فِلَسْطِينَ ، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ وَبَيْنَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ وَالْبَحْرِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَهِي إِلَى « حَمَاةَ » شَمَالًا وَإِلَى « غَزَّةَ وَحَبْرُونَ » جَنُوبًا( ) . وقال أيضًا : والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَهِيَ تَبْتَدِئُ مِنَ السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ لِلْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي إِلَى سَوَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ وَإِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ وَحُدُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَحُدُودِ بِلَادِ التُّرْكِ( ). وقال في شرح : « فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ »( ) معددًا الشعوب التي تسكنها : وَجَاءَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ : أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى : « وَأَنْتَ لَا تَدْخُلُ إِلَى هُنَاكَ » وَفِي الْإِصْحَاحِ « 34» : « وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ « نَبْو » فَأَرَاهُ اللَّهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ » وَقَالَ لَهُ : « هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لِإِبْرَاهِيمَ قَائِلًا : لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ ، وَلَكِنَّكَ لَا تَعْبُرُ » . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ « سَأُرِيكُمْ » خِطَابًا لِقَوْمِ مُوسَى ، فَيَكُونُ فِعْلُ أُرِيكُمْ كِنَايَةً عَنِ الْحُلُولِ فِي دَارِ الْفَاسِقِينَ ، وَالْحُلُولُ فِي دِيَارِ قَوْمٍ لَا يكون إلّا بالْفَتْح وَالْغَلَبَةِ ، فَالْإِرَاءَةُ رَمْزٌ إِلَى الْوَعْدِ بِفَتْحِ بِلَادِ الْفَاسِقِينَ ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ الْمُشْرِكُونَ ، فَالْكَلَامُ وَعْدٌ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ بِأَنْ يَفْتَحُوا دِيَارَ الْأُمَمِ الْحَالَّةِ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ خِطَابًا لِلشَّعْبِ : « احْفَظْ مَا أَنَا مُوصِيكَ بِهِ ، هَا أَنَا طَارِدٌ مِنْ قُدَّامِكَ الْأَمُورِيِّينَ ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ ، وَالْحَثِّيِّينَ ، وَالْفَرْزِيِّينَ ، وَالْحَوِّيِّينِ ، وَالْيَبُوسِيِّينَ ، احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ سُكَّانِ الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ آتٍ إِلَيْهَا لِئَلَّا يَصِيرُوا فَخًّا فِي وَسَطِكَ ، بَلْ تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ وَتَكْسِرُونَ أَنْصَابَهُمْ وَتَقْطَعُونَ سُوَارِيَهُمْ ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِإِلَهٍ آخَرَ »( ) .

أما الشعراوي فقد برز برأي آخر عندما قال : وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة ، وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علمًا على الكرة الجامعة . ووردت كلمة « الأرض » في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة . فها هو ذا قول الله في آخر سورة الإسراء : « وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض »( ) فهل هناك سكن إلا الأرض ؟ إن أحدًا لا يقول : اسكن كذا إلا إذا حدد مكانًا من الأرض ؛ لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض ، فكيف يأتي القول : « اسكنوا الأرض » ؟ والشائع أن يقال : اسكن المكان الفلاني من المدن ، مثل : المنصورة أو أريحا ، أو القدس . وقوله الحق : « اسكنوا الأرض » هو لفتة قرآنية ، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكونًا خاصًا ، فكأنه قال : ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن ، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن ، أي لا توطن لكم أبدًا ، وستسيحون في الأرض مقطعين ، وقال سبحانه : « وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا »( ) وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أأيدتها القضايا الكونية أم عارضتها ؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أممًا ، أي تفريقهم وتشتيتهم ، ولم يقل القرآن : « أذبناهم » بل قال : « قَطَّعْنَاهُم » وتفيد أنه جعلهم أوصالاً ، ولكنهم مفرقون في البلاد . وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيًا مخصوصًا ، ولا يذوبون في المواطنين أبدًا ، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستقلون بها ، فكأنهم شائعون في الأرض ، وهم مقطعون في الأرض ، ولكنهم أمم ، فهناك « حارات » وأماكن خاصة لليهود في كل بلد . حدث ذلك من بعد موسى - عليه السلام - لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى ؟ قال لهم الحق : « ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ » أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم . ونلحظ هنا أن كلمة « الأرض المقدسة » فيها تحييز وتحديد للأرض .

ولكن ما معنى « مقدسة » ؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير . فـ « قَدَّس » أي طهّر ونزّه ، ومقدسة يعني مطهرة . والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلاقية . ففي الريف المصري نجد ما نسميه « القَدَس » أو « القادوس » وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية ، وكانوا يستعملونه للتطهير، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف . وعندما يقال : « مقدسة » أي مطهرة . إن من أسماء الحق « القُدُّوس » ، ويقال : « قُدِّس الله » أي نُزِّهَ « فالله ذات وليست كذات الإنسان ، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك ، وهو سبحانه له أفعال ، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك . فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود ؛ لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول ، ويطرأ عليها عدم ثانٍ ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته ، والإنسان واجب لغيره ، وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد . ولله حياة وللإنسان حياة ، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله ؟ لا . إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك ، وصفاته ليست كصفاتك ، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة ، وهو سبحانه سميع والعبد سميع ؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له ... والأرض المقدسة هي المطهرة ، وذلك بإرادة الحق سبحانه ، تمامًا كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم ، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض . وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي ؟ « أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا »( ) ، لو كانت المسألة إرادة كونية ، فكان لا بد ألا يحدث خلل أبدًا ، وألا يعتدي أحد على أحد . وما الفرق بين الكوني والتشريعي ؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية ، فالحق يريد أن يكون عبدًا طويل القامة ، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها . ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعًا مصليًا ، فتلك إرادة تشريعية . والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها ؛ لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان . والله - سبحانه وتعالى - يريد الحرم آمنًا . وتلك إرادة تشريعية ، لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا . ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبدًا . لذلك فهي إرادة تشريعية ، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنًا ، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم . فمراد الله - عز وجل - مطلوبه شرعًا « أن يكون الحرم آمنًا » . « ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ » فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم كتابة كونية أو كتابة تشريعية ؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال : « فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ »( ) . إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية . فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها ، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم . إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه : إنه كتبها لهم، ثم قوله من بعد ذلك : إنها محرمة عليهم ، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية . فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهاً قوياً سيساندهم ؛ فإنهم سيدخلونها ، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم . « يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ »( ) وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة : « وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض »( ) وعرفنا مراد ذلك القول . ولا دقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل ، أي في الأرض عمومًا ، ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين . « فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً »( ) أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ، ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء : « وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً »( ) لأن الحق حينما قال : « سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ »( ) . أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام . وأوضح الحق لهم : يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي ، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه ، وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن ، وبعد ذلك يسلط الله عباداً له يجوسون خلال دياركم ، ويشردونكم من هذه البلاد . والحق يبلغنا : نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام : « وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً »( ) وبعض الناس يقولون : إن هذا كان أيام بختنصر ؛ ونقول لهم : افهموا قول الحق : « فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا » وكلمة « وعد » لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك . إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر . فـ « إذا » الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان ، أي بعد أن جاء هذا الكلام . ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله ؟ إن قوله الحق : « عِبَاداً لَّنَآ »( ) مقصود به الجنود الإيمانيون ، وبختنصر هذا كان فارسيًا مجوسيًا .

وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ- ثم أجلاهم . وهل هي تقتصر على هذه ؟ يقول سبحانه : « فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً »( ) ولنا أن نسأل : وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين ؟ . لا ، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين ، لكان ذلك بالقياس إلى ما فعلوه أمراً طيباً ؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير . ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام ، وسبحانه قد قال : « بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ »( ) فمادام يوجد « عباد الله » خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلا بد أن يتحقق وعد الله ، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف ؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله : « ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ »( ). فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان . فإذا ما تساءل بعض المؤمنين : ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل ؟ . تكون الإجابة : لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله . وما دمنا قد تخلفنا عن مفهوم « عباد الله » فلا بد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل . ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق : « ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ »( ). فإذا كنا عبادًا لله فلن يتمكنوا منا . والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها . ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا ، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه ، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة . ولكن لا بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية . ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله . فقلنا : « أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس ؟ ! » . فقال : نعم . صدق ربنا لأنه قد قال : « وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ » هكذا قال الحق ، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة ؟ . لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات ، فإذا ما قال الحق : « رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة »( ). فليست المسألة أنهم لكونهم يهودًا لا يعطيهم الله الكّرَّةَ . ولكن القضية هي أننا عندما نكون عبادًا لله حقيقة .. اعتقادًا وسلوكًا .. قولًا وعملًا ننتصر عليهم . « ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا »( ). وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر . ولأنهم جميعًا في الجيش المدافع عن دولتهم . وذلك معنى « بنين » و« أكثر نفيرًا » . النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته ؛ لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل . واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم ، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر . إذن فقوله الحق : « وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ »( ). قول صدق وحق . وقوله الحق : « وَبَنِينَ »( ) قول صدق وحق . وقوله الحق : « وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا »( ) قول صدق وحق . ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود : « إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا »( ) وهل تستمر الكرَّة يا رب ؟ . لا. فها هو ذا الحق سبحانه يقول : « فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ »( ). كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر ؛ ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عبادًا لله حقًا ، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود : « لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ »( ) وأشرف ما في الإنسان هو الوجه ، وعندما نكون عبادًا لله سنسوء وجوههم ، وفوق ذلك : « وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا »( ) ، ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل، فها هوذا قوله الكريم: « وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً »( ) . إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة . فكيف يكون دخولنا المسجد إذن ؟ . لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه . والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل ، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية ، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم . ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل . « وَلِيَدْخُلُوا المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ »( ). سنكون نحن إذن عبادًا لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا ؛ لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالاً لليهود ، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع - كما قلنا - الدولة الرومانية . ويضيف الحق من بعد ذلك : « وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا »( ). وحتى نتبر ما يُعْلُونه - أي نجعله خرابًا – لا بد أن تمر مدة ليعلوا في البينان . وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عبادًا لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدًا تشريعيًا ، فإذا عدنا عبادًا لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرًا ، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر، فقال : « يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ »( ). وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية ، فلو كان الأمر كونيًا لدخلوا الأرض ، والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق : « وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ »( ) أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين . فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار، فستدخلون الأرض، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها. إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية، ولكنها تشريعية ( ) .

وممن ذهب إلى هذا القول بأنها أرض الشام من المفسرين السمرقندي( ) وابن زمنين( ) وابن فورك( ) والثعلبي( ) الذي قال بعد أن ساق ما ذكره الطبري من أقوال – وإن لم يصرح باسمه - : قال زيد بن ثابت : بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال : « طوبى للشام » قيل : يا رسول الله ولم ذلك ؟ قال : « إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم »( ) . وروى نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد الله بن حوالة قال : كنّا عند النبي - صلى الله عليه وسلّم – فقال : « والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس والرّوم وأرض حمير ، وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة ، جندًا بالشام ، وجندًا بالعراق ، وجندًا باليمن »( ) . فقال ابن حوالة : يا رسول الله ! إن أدركني ذلك ؟ قال : « اختار لك الشام ، فإنها صفوة الله من بلادكم ، وإليها يجتبي صفوته من عباده . يا أهل الإسلام ! فعليكم بالشام ، فإن صفوة الله من الأرض الشام ، فمن أبى فليلحق بيمنه ، وليستق من غدره . إن الله قد تكفّل لي بالشام وأهله »( ) . وروى الأعمش عن عبد الله بن صبّار عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال : قسّم الخير عشرة أعشار ، فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق . وقسم الشّر عشرة أعشار ، فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام . ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي - صلى الله عليه وسلّم - ونزل خمس وسبعمائة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلّم - فيهم سبعون صحابيًا . « الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ » يعني : كتبه في اللوح المحفوظ ، أنها لكم مساكن . قال الكلبي : صعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - جبل لبنان فقيل له : أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريّتك من بعدك( ) . وقال الواحدي : الأرض المقدَّسة : المطهَّرة يعني : الشَّام ، وذلك أنَّها طُهِّرت من الشِّرك ، وجُعلت مسكنًا للأنبياء( ) . وكذلك قال البغوي( ) ، وابن الجوزي( ) ، والقرطبي( ) ، وأبوحيان( ) ، والفيروزآبادي( ) ، وجلال الدين المحلي ، وجلال الدين السيوطي( ) ، والمظهري( ) ، وابن عاشور ، والمراغي وغيرهم .

الباحث : محمود بن سعيد بن محمود بن يوسف بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ، أبو محمد الشيخ القطناني المكي . مكة المكرمة 26/3/1433هـ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أطناوي وأفتخر
عضو مميز
عضو مميز
أطناوي وأفتخر


المزاج : قطنا
empty
ذكر
عدد المساهمات : 313
نقاط : 327
تاريخ الميلاد : 25/04/1982
العمر : 42
تاريخ التسجيل : 09/01/2010

تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية   تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية Emptyالسبت مارس 17, 2012 5:57 am

جزاك الله خير

على ما تقدمه من علم نافع

تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية 492151
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية (2)
» تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية (3)
» تابع جبل الشيخ - الحلقة الثانية (3)
» تابع أضواء على ألقاب الشيخ حسن الراعي - لقب الفتى - الحلقة الثانية
» قطنا والحديث الشريف - تابع الحلقة الثانية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
قطنا :: المنتديات العامة :: شخصيات لها تاريخ-
انتقل الى: