تابع جبل الشيخ – الحلقة الثالثة
3- أرض الحياة
لقد وصف جبل الشيخ في ملحمة جلجاميش السومرية بأنه أرض الحياة أو أرض الأحياء ، وهذا الوصف ورد في القرآن الكريم كوصف للجنة واسم من أسمائها ، قال تعالى : « وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ »( ) قال ابن القيم وهو يعدد أسماء الجنة : الاسم السابع « دار الحيوان » قال تعالى « وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ » والمراد : الجنة عند أهل التفسير ، قالوا : وأن الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان ، لهي دار الحياة التي لا موت فيها ، فقال الكلبي : هي حياة لا موت فيها . قال وقال الزجاج : هي دار الحياة الدائمة ، وأهل اللغة على أن الحيوان بمعنى : الحياة . قال أبو عبيدة وأبن قتيبة : الحياة : الحيوان . قال أبو عبيدة : الحياة والحيوان والحِي - بكسر الحاء - واحد . قال أبو علي : يعني أنها مصادر ، فالحياة فعلة كالجلبة ، والحيوان كالنزوان والغليان ، والحي كالعي . قال العجاج : كنا بها إذا الحياة حي : أي إذا الحياة حياة ، وأما أبو زيد فخالفهم وقال : الحيوان ما فيه روح ، والموتان والموات ما لا روح فيه . والصواب : أن الحيوان يقع على ضربين : أحدهما مصدر كما حكاه أبو عبيدة ، والثاني وصف كما حكاه أبو زيد ؛ وعلى قول أبي زيد الحيوان مثل الحي خلاف الميت ، ورجح القول الأول : بأن الفعلان بابه المصادر كالنزوان والغليان بخلاف الصفات فإن بابها فعلان كسكران وغضبان ، وأجاب من رجح القول الثاني بأن فعلان قد جاء في الصفات أيضًا قالوا : رجل ضميان للسريع الخفيف وزفيان ، قال في الصحاح : ناقة زفيان : سريعة ، وقوس زفيان : سريعة الإرسال للسهم ، فيحتمل قوله تعالى : « وإن الدار الآخرة لهي الحيوان » معنيين : أحدهما أن الحياة الآخرة هي الحياة لآنها لا تنغيص فيها ولا نفاد لها أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار ، فيكون الحيوان مصدرًا على هذا . الثاني أن يكون المعنى أنها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا ، فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت( ).
وقد وضح عبد العزيز صالح سر تسمية جبل الشيخ بأرض الأحياء في سياق سرده لأحداث قصة « جلجاميش والطوفان » فقال : هذه أشهر الأساطير التي روى البابليون في ثناياها قصة الطوفان القديمة بعد أن عدلوا فيها ، وأضافوا إليها وغيروا بعض مسمياتها . وتخلفت من الصيغة البابلية لهذه الأساطير ألواح مبعثرة قليلة أمكن تصحيح قصتها واستكمالها من ألواح أخرى مرادفة لها وأكثر تفصيلًا منها كتبت بعدها باللغات الآشورية والحورية والحيثية . وبهذا أمكن تكوين صورة عامة لها يفهم منها : أن جلجاميش كان حاكمًا على مدينة « أوروك » ، أحبه « شمش » وحباه « آنو » و« إنليل » و« إيا » بنضرة الشباب وبسطه الجسم وجمال الصورة والقوة الخارقة والحكمة السابغة والنظرة الثاقبة حتى أصبح إنسانًا مثاليًّا ، أو على حد تعبير الأسطورة حتى أصبح به ثلثان من الربوبية وثلث من البشرية . وقد اهتم بمدينته وأسوارها كما اهتم ببلاطه وفخامته ورفاهيته ، فدب الحسد منه في نفوس معاصريه ، وشكوه إلى معبوداتهم ؛ وادعوا أنه يسخر أبناءهم ، ويحتبي عذاراهم ونساءهم ، فاستجابت المعبودات لشكواهم ، وابتغوا أن يعيدوا السلام والطمأنينة إلى أرض « أوروك » التي أرسى الحكماء السبعة بنيانها « وهم سبعة حكماء أسطوريون نسبت القصص إليهم تأسيس وتحضير أقدم مدن في الوجود » . وأمر « آنو » المعبودة « أرورو » أن تخلق من الطين إنسانًا ينافس جلجاميش قوة واقتدارًا حتى تهبط عزيمته حسدًا منه فينصرف طغيانه عن شعبه . وأتمت « أرورو أمرها وغسلت يديها وقبضت قبضة من طين البراري وتفلت عليها وخلقت منها غلامًا دُعي « إنكيدو » أو « إنجيدو» عظيم البأس ، له قوة الأسود وسرعة الطير ، وفيه قبس من روح « آنو » و« نينورتا » ، ولكنه نشأ على الرغم من قوته أشعر غير ذي فطنة ولا حكمة ، فمال إلى مصاحبة الغزلان آكلات العشب دون الناس ، وشاركها مرعاها وموارد شربها ، وعزف عن طعام الناس وموارد شربهم . وبلغ من إخلاصه لحيواناته أن تتبع شباك الصيادين فأتلفها ، وتتبع حفرهم فردمها . فاشتكاه صائد إلى أبيه الشيخ ، فوجهه أبوه إلى جلجاميش وتنبأ له أنه سوف يستأسر « إنكيدو » عن طريق أنثى ، فلما أعاد شكواه على جلجاميش أوصاه بالفعل بأن يغويه بغانية جميلة ، ففعل ما أوصاه به ، وارتحل بها ثلاثة أيام حتى بلغا البرية التي يعيش فيها ، وتربصا به يومين حتى خرج بحيواناته يسقيها . واستطاعت الأنثى أن تلفه بجمالها ، فكشفت له عن مفاتنها وخلعت له ملابسها وفرشتها له ، ونجحت فيما فشل فيه غيرها ، فاستجاب لها « إنكيدو » وقضى معها ستة أيام وسبع ليال ، ولما أفاق بعدها التفت إلى البرية وحيواناتها ، ولكن الحيوانات التي أحبته لفطرته وطهره ما أن رأت وجهه بعد الخطيئة حتى ازورت عنه وهجرته ، فأدرك دنسه واشتد به عذاب النفس والحزن واليأس ، ولكن المرأة شغلته بحديثها المعسول ، وأوهمته أنه أصبح حكيمًا ، وحرضته على أن يواجه جلجاميش ، ويستحوذ على مدينته « أوروك » وملكه العريض ، وينتقل من حياة البراري إلى جوار مقر « آنو » و« إشتار » : « عشتار» وحياة المدنية . فاستجاب « إنكيدوا » للمرأة مرة أخرى ووصل معها إلى « أوروك » . وهنا تواردت الرؤى على جلجاميش ، ورأى فيما يرى النائم روح « آنو تجلت في السماء على هيئة كوكب ، ونزلت عليه فحاول أن يرفعها أو يحركها ففشل ، وتجمع أهل « أوروك » حولها وقبلوا قدميها . ولما أفاق جلجاميش قص رؤياه على أمه الحكيمة « نينسون » ، فنبأته بنبإ « إنكيدو » ، تنبأت له بأنه سيميل إليه كما يميل إلى أنثى . ثم رأى في رؤيا أخرى أن قومه ثبتوا فأسًا في الأرض وتجمعوا حولها ، فاتجه إليها بدوره ، ولما أعاد الرؤيا على أمه فسرتها له بنفس تأويلها الأول . وقضى « إنكيدوا » مع غانيته ستة أيام وسبع ليال أخرى كاد ينسى نفسه فيها ، فأثارت المرأة عزيمته ثانية وألبسته ثيابًا جديدة ، وخرجت تشده كأنها أمه إلى أماكن الرعاة ليستعيد نخوته بينهم ، فحن هناك إلى رضاعة لبن البراري ، وعندما قدم إليه طعامهم وشرابهم ما درى كيف يطعمه ويشربه ، فراضته المرأة عليه حتى اعتاده واستساغ الشراب العنيف وأسرف فيه ، وأزال شعر بدنه واعتاد الطيب ، وأصبح يذود عن أغنام الرعاة ويصيد السباع . ثم أتى البرية رجل يستصرخه ضد جلجاميش الذي استولى على زوجته ، فاستثارت الغانية والناس همته حتى خرج إلى « أوروك » ، وهناك تجمع الناس حوله ، ورأوا فيه كفؤًا لجلجاميش وإن كان أقصر قامة منه . وتلاقى البطلان في سوق المدينة وتصارعا مصارعة عنيفة ، واستطاع جلجاميش أن ينتصر على خصمه ، ثم رق كل منهما للآخر وصادقه ، وأصبح كل منهما أحب إلى صديقه من نفسه ، حتى كان يوم رأى فيه جلجاميش صديقه دامع العين كسير الفؤاد ، فلما سأله عما به شكا له الإعياء والمرض ، فاعتزم جلجاميش أن يدفع عنه الملل ، ويشركه في مغامرة مثيرة ، وعرض عليه أن ينطلقا إلى حيث يعيش « هواوا » ، ويتعاونا على قتله عسى أن يذهب النحس عن الأرض بهلاكه ، وهنا قصت الألواح مغامرة الصديقين في صورة قريبة من صورتها السومرية القديمة مع تعديلات يسيرة وتعبيرات تناسب آفاق المعرفة في عصرها ، وكان من ذلك أن ذكرت « جبل الأرز» في « أرض الأحياء » التي اتجها إليها باسمه الكنعاني المعروف للساميين وهو « جبل حرمون » الذي ذكرت نصوص « أوجاريت » في الشام أن معبوداتها تستقر فوقه . ثم كان من أمتع ما جاءت به قول جلجاميش لصديقه وهو يرد على مخاوفه من لقاء « هواوا » من يستطيع أن يعاند السماء يا صديقي ؟ ليس من يخلد تحت الشمس غير المعبودات ، أما البشر فأيامهم معدودات ، وأنت هنا تخشى الموت ؟ فأين بطولتك الفذة إذن ؟ أولى بك أن تهيب بي أن تقدم ولا تخف ، فإذا سقطت صريعًا تركت لنفسي سمعة طيبة ، وقال عني خلفائي من أهل بيتي : سقط جلجاميش بعد أن تحدى « هواوا » . وأضافت النسخ الآشورية للقصة أن جلجاميش بعد أن نجح في إقناع شيوخ بلده بمغامرته التفتوا إلى « إنكيدو » وقالوا له : نحن أعضاء المجلس أمناك على الملك ، فأعده سالمًا إلينا ، والتفت جلجاميش إلى صديقه وقال له هيا بنا إلى القصر الكبير « إجالمه » وإلى حضرة الملكة العظيمة « نينسون » . وعندما قص عليها ما عزم عليه فزعت ، وارتدت رداءها الكهنوتي ، وصعدت الدرج وعلت السور ، وطلعت إلى السطح وحرقت البخور ، فتصاعد عبيره عاليًا لمعبودها « شمش » ، ثم رفعت يديها إلى معبودها وقالت تخاطبه : لم وهبتني جلجاميش ولدًا ؟ ولم جعلت هذا الابن القلق من نصيبي ؟ ثم انتهت الألواح إلى ما انتهت إليه القصة السومرية من قتل « هواوا » ، وأضافت أن جلجاميش انتشى بعد النصر ، واغتسل وعقص شعره وأرسل ضفيرته خلف ظهره ، واستبدل ثيابه وارتدى عباءة ذات أهداب ، فلمحته المعبودة « إشتار » : « عشتار» وشغفت به حبًّا ، وابتغته زوجًا لها ، ومنته بأماني كثيرة ، ووعدته بملك عريض ، فاستهان بعرضها وذكرها بغرامياتها المتقلبة ، وكيف أحبت « دوموزي » في صباها ثم غدرت به ، وكيف أحبت طائرًا ثم كسرت جناحه ، وكيف عشقت أسدًا وحفرت له سبع حفر بعد سبع حفر ، وكيف أحبت محاربًا وراعيًا ، بل وأحبت بستاني القصر، ثم غدرت بمن أحبها منهم ، ومسخت منهم من استعصم عليها . فلما واجه جلجاميش هذه المعبودة الحسناء بحقيقتها انقلب حبها له إلى حقد شديد ، وشكته إلى والديها في السماء « آنو » و« أنتوم » ، ودعت أباها إلى أن يرسل عليه « فحل » السماء ليقتله ، وتوعدته إن لم يفعل بأن تفتح أبواب العالم السفلي فيخرج أمواته ويفتكون بالأحياء ، فاستجاب لها أبوها وأرسل معها « فحل » السماء بعذاب شديد . وأراد « إنكيدو » أن يفتدي صديقه فتصدى « للفحل » ونجا من حفره بعد أن سقط في إحداها ، ثم تعاون هو وجلجاميش على ذبحه ، وقدما قلبه قربانًا إلى « شمش » ، فجن جنون « إشتار » وصبت اللعنات على « أوروك » وحرضت الكاهنات على أهلها . فتصدى لها « إنكيدو » وتوعدها بأن يفعل بها مثل ما فعل بـ « الفحل » ، وأفسد هو وصديقه خطتها ، وكان يوم انتصارهما عليها يومًا مشهودًا ، خرجت العازفات فيه ينشدن بإيعاز من جلجاميش : من هو أعظم المغاوير قدرًا ؟ من هو أعظم الناس قدرًا ؟ فيرد الناس وراءهن : ذاك هو جلجاميش : أعظم المغاوير قدرًا ، ذاك جلجاميش أعظم الناس شهرة . وتلك صورة من هتاف الأنصار للبطل تربط الماضي بالحاضر . وانقلب حال السماء ومعبوداتها ، فاجتمع « آنو » و« إنليل » و« شمش » ، وانقسموا فريقين : « آنو » و« إنليل » في جانب ، وقد اعتزما الفتك بـ « إنكيدو » لإهانته « إشتار » واشتراكه في قتل « هواوا » وقتل « الفحل » ، و« شمش » في جانب آخر ، وقد أصر على حماية الصديقين ، واعترف بأنهما قتلا « هواوا » و« الفحل بأمره ، وانتصر رأي « آنو » و« إنليل » وابتليا « إنكيدو » بداء عضال لا يرتجى البرء منه ، واسترسلت الأسطورة في وصف أسف جلجاميش على صديقه ، وخوف « إنكيدو » من عالم الفناء وأهواله ، وتبرمه بما لحق به ، حتى أتاه صوت « شمش » من السماء بعتاب رقيق ، ذكره فيه بفضل ربه عليه حين وهبه القوة والبأس من قبل ، وحين حباه بصداقته للبطل جلجاميش ، وحين أيده بنصره في مغامراته القديمة ، فقرت نفس « إنكيدو » ورضي بنصيبه ، وتحولت لعناته إلى دعوات ، ولكن ظلت الرؤى تتوارد عليه وتدفعه إلى أن يتذكر العالم الآخر رغم أنفه ، حيث الدار التي لم يتركها شخص دخلها ، وحيث الطريق التي لا رجعة منها ، وحيث الظلام الأبدي الذي عز النور على أهله ، وحيث الطعام طين وتراب ، وحيث لا يجد الموتى ما يتدثرون به سوى أجنحة كأجنحة الطيور ، وحيث تحيا ملكة العالم الآخر« إرشكيجال » ، وحيث تركع أمامها كاتبتها « بلت سرى » تقرأ لها لوحها المكتوب ، وقد رآها « إنكيدو » في منامه ترفع رأسها وتتطلع إليه ، وتقول : من أتى بهذا الشخص هنا ؟ فأدرك أنها النهاية ، واشتد به المرض ، وظل يعاني سكرات الموت عشرة أيام - أو اثني عشر يومًا - فلما أحس دنو أجله دعا جلجاميش وودعه ، وأفضى إليه بأسفه على أنه لم يمت شهيدًا في معركة ، وأن عليه أن يموت على فراشه . ولما قضى نحبه بكاه جلجاميش وظل يندبه بحرقة ووفاء ، وأبنه ونعى صفاته وشجاعته بعبارات ينفطر الفؤاد لها ، ثم فاق إلى نفسه ، وتخيل نفسه يلقى مصير « إنكيدو » ، فطارت نفسه شعاعًا وكره الموت ، واعتزم أن يلجأ إلى جده الأكبر الحكيم « أوتانبشتيم » أو « وتنابشتو » ، أو « أوتونبشتم ابن وبرتوتو » ، وهو « نوح البابلي » ، في مقابل « نوح السومري » : « زيوسدرا » ، الذي يقابله Xisouthros في النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة . عله يجد عنده سر الحياة ، وانطلق من ثم يقطع البراري والقفار حتى بلغ جبلًا يُدعى « جبل ماشو » تتصاعد قممه إلى عنان السماء ، وتصل جذوره إلى العالم السفلي ، ولقي حارسه وكان له وجه عقرب ، فخوفه الحارس أهوال الطريق ولكنه لم ينثن عن عزمته ، وظل يقطع مفازاته ، ويتخطى أهواله حتى لقد ناداه « شمش » من علاه : إلى أين جلجاميش ؟ ارجع فلن تجد الحياة التي تسعى إليها ، فأجابه : وهل بعد أن أقطع البراري أضع رأسي في قلب الأرض ، وأنام مدى الدهر ؟ دع ناظري يمتلئان بنورك دائمًا ، فإن الظلمة تتشتت أمام النور .. واستمر جلجاميش في طريقه ، وقابل صاحبة حانة تدعى « سيدوري » ، روى لها قصته وقصة صديقه الذي اختطفه الموت بعد أن سقطت دودة من أنفه وتحول إلى طين ، على حد قوله ، فلم يستطعم الحياة من بعده ، فردت عليه بأن الموت نهاية كل حي ، وأن للإنسان أن ينعم بحياته ويطعم ويشرب ويلبس ويمرح ، وأنه ليس من سبيل إلى حياة الخلود التي يبتغيها ، وأنه يفصل بينه وبين « أوتا نبتشتيم » بحر لم يعبره إنسان ، وأنه لن يستطيع عبوره بغير مساعدة نوتي فظيع يدعى « سورسونابو » . وكأنما أراد القصاص أن يبين أن الرؤية الصحيحة قد تتوفر عند صاحبة حانة ، وتغيب عن جلجاميش العظيم بعد أن ألهته عنها شدة رغبته في الحياة ، وقابل جلجاميش النوتي وحاوره وراضاه حتى اصطحبه معه في قاربه ، وركبا الموج شهرًا وثمانية عشر يومًا إلى أن بلغا مياه الأعماق . وخرج جلجاميش إلى جزيرة جده « أوتا نبشتيم » أو « وتنابشتو » ، وقابله ورأى فيه صورة من نفسه ، وقص عليه قصته ، ورجاه أن يدله على سر الخلود ، ولكن جده أراد أن يزيده خبرة بأحداث الماضي البعيد قبل أن يلبي رجاءه ، فقص عليه قصة الطوفان القديم ، قائلًا له : سأكشف لك جلجاميش سرًّا ، وهو سر رباني . « شوروباك » مدينة تعرفها تقع على ضفة الفرات ، هي مدينة عتيقة عاشت المعبودات فيها ، وعندما أرادت مشيئتهم إحداث الطوفان ، كان بينهم « آنو » أبوهم ، والشجاع « إنليل » مستشارهم ، ومساعدهم « نينورتا » ، و« إنوجيه » متولي أمر قنواتهم . وكان معهم كذلك صاحب الحكمة « إيا » الذي حزبه الأمر ، ولكنه لم يشأ أن يفشي سر الآلهة جهرة ، فجعل « أوتا نبشتيم » يرى في منامه ما يحذره من الطوفان ، ولما لم يدرك هذا الأخير مغزى رؤياه وتطلع إلى تفسيرها ، ألقى « إيا » حديثه إلى كوخه بطريق غير مباشر قائلًا :
يا كوخ البوص ، يا جدار ويا جدار .
يا كوخ البوص ، يا جدار ويا جدار .
أصيخوا ورددوا :
يا رجل « شوروباك » يا ابن « وبرتوتو » .
أهدم الدار وابن سفينة . دع أملاكك ، وانقذ حياتك ..
ارحل بها وخذ بذرة كل حي ..
اجعل عرضها مثل طولها .
ففهمت وقلت : مولاي « إيا » ، أمرت سيدي ، وسأكون أهلًا لحمل الرسالة ، ولكن بم أجيب أهل المدينة وشيوخها ؟ فقال « إيا » ، قل لهم : إني سمعت أن « إنليل » غير راضٍ عني ، ولهذا لن أبقى في مدينتكم ، ولن أطرق أرض « إنليل » ، ولسوف أذهب إلى الأعماق ، وأعيش مع مولاي « إيا » ، ولسوف يبارك لكم في الطير والأسماك ، ويجعل الأرض تؤتي أكلها ، ذلك الذي يأمر في ظلمة الليل باخضرار اليابس ، ولسوف يرسل عليكم مطرًا من الغلال - وكلمة الغلال تورية عن الهلاك لاشتراكهما في اللفظ - وبعد أن تعلم الحكيم من ربه كيف يصنع السفينة من البوص والأخشاب ، ولم تكن له معرفة سابقة بصناعتها ، قال : وعند الفجر تجمع الناس حولي ، وحمل الصغار القار ، وحمل الكبار كل الضروريات ، وفي اليوم الخامس أتممت إطار السفينة ، وكانت سعة أرضها فدانًا كاملًا ، وارتفاع جدرانها 120 ذراعًا ، وجعلت لها سبعة مسطحات ، أي قسمتها ستة أقسام ، وقسمت أرضيتها تسعة أجزاء ، وأكرمت من عملوا معي ، واكتملت السفينة في اليوم السابع وأنزلوها الماء ، وحملتها بكل ما عندي ، وما أملك من فضة وذهب ، وحملتها بصنوف الأحياء كلهم ، وأخذت معي كل عائلتي وأقربائي ، وحيوانات البراري ، وكل الصناع . وحدَّد « شمش » وقتًا معينًا لي قائلًا : عندما يرسل من يبعث القلق بالليل رذاذًا من المن ، ارحل بسفينتك وأغلق مدخلها . وحان الوقت ، وتطلعت إلى الجو ، فوجدته معتمًا ، فغلقت السفينة ، وعهدت بها إلى النوتي « بوزور أموري » . وظهرت غمامة سوداء في الفجر ، رعد فيها « أداد » ، وتقدمها « شولات » و« هانيش » رسولين فوق السهل والجبل ، وحطم « إراجال » المساند التي تسند الدنيا ، وخرج « نينورتا » فجعل الترع تفيض ، وحمل « الأنوناكيون » المشاعل وجعلوا الأرض تتوهج بها ، وبلغ غضب « أداد » السماوات ، وأحال النور إلى ظلمة ، وهبت عاصفة الجنوب يومًا كاملًا بسرعة عنيفة فنسفت الجبال ، واقتلعت الناس ، فخشيت المعبودات عاقبة الطوفان ، وأجفلوا وصعدوا إلى سماء « آنو » : أعلى السماوات ، وتجمعوا كالكلاب حين تقبع بجوار الجدران ؛ وصرخت « إشتار » صرخة أنثى تلد ، وولولت صاحبة الصوت الشجي قائلة : ضاعت الأيام الخوالي هباء لأني أخطأت في مجمع الأصنام ؛ ولكن كيف أخطئ في مجمعهم ، وأعلن حربًا لفناء الناس ، وأنا التي وهبتهم الحياة ؟ فتكاثروا كأسماك البحر .. وبكى « الأنوناكيون » معها . واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام وست ليال ، واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب ، وفي اليوم السابع هبطت العاصفة وهدأ البحر وتوقف الطوفان ، وتطلعت إلى الجو ، فإذا سكون شامل والناس قد تحولوا إلى طين ، وأصبحت الأرضيات في مستوى السقوف . ففتحت منفذًا ، وسقط الضوء على وجهي ، فسجدت وبكيت ، وتطلعت أتلمس خطوط الساحل على مدى البحر هنا وهناك ، وبدت يابسة . والتصقت السفينة « نسرات نابشتم » : أي منقذة الحياة بجبل « نيزير » فاحتجزها يومًا ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة ولم يدعها تتحرك . وفي اليوم السابع أطلقت حمامة ، فذهبت وعادت وعز عليها أن تجد مكانًا ظاهرًا تحط عليه ، وأرسلت سنونو فذهب وعاد حين لم يجد موضعًا ظاهرًا يحط عليه ، فأرسلت غرابًا فذهب ورأى الماء يتناقص فأكل وعب ودار ولم يعد . وحينذاك واجهت الجهات الأربع وضحيت - وسكبت قربانًا فوق قمة الجبل ، ونصبت 14 قدرًا ، وعندما شمت المعبودات الرائحة تجمعن كالطيور حول الأضاحي . ثم وصلت العظيمة « إشتار » ورفعت حليها العظيمة التي أهداها لها « آنو » ، وقالت : أيها المعبودات ، بحق هذا اللازورد حول عنقي ، سوف أذكر هذه الأيام ولن أنساها ، ادعوا المعبودات إلى الأضاحي ، ولكن لا تدعوا « إنليل » الذي سبب الطوفان وأهلك شعبي ، وبعد فترة وصل « إنليل » فلما رأى السفينة غضب وقال : هل نجت روح ؟ وما كان لبشر أن يبقى ؟ فأجاب « نينورتا » ، ومن غير « إيا » يفشي الخطط وهو العليم بكل شيء ؟ وهنا قال « إيا » لـ « إنليل » العظيم :
يا حكيم الأصنام ، يا بطل ، كيف تتهور وتأمر بالطوفان ؟
إنما تقع الخطيئة على مرتكبها ، وعلى الباغي تدور الدوائر .
كن رحيمًا وإلا قطع ... ، كن صبورًا وإلا أقصي ...
أما كان يخرج أسد فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان ؟
أما كان يخرج ذئب فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان ؟
أما كانت تحدث مجاعة فتقلل للناس عوضًا عن الفيضان ؟
لست أنا من يفشي سر الأصنام الكبار .
لقد جعلت « أتراخا سيس » : حكيم الحكماء .
أي « أوتانبشتيم » يرى رؤيا كشف فيها سر الأصنام ، فاقض فيه إذن !
ولا يبعد أن القصاص أراد أن يعبر بمثل التساؤلات السابقة عن تساؤلات دارت في ذهنه هو عن حكمة الأصنام المعبودة في إرسال الطوفان الذي أوشك أن يهلك الجميع . وعند ذاك خرج « إنليل » من السفينة ، وأمسك يدي ، وأخرجني وأخرج زوجتي وجعلها تركع بجانبي ، ووفق بيننا ، ولمس جبهتينا ليباركنا ، وقال : لم يعد « أوتانبشتيم » بشرًا ، سيكون هو وزوجته أشبه بنا معشر الأصنام المعبودة ، وسيستقر بعيدًا عند مصاب الأنهار . فرفعتني الأصنام المعبودة إلى مصاب الأنهار . ولكن أنت يا جلجاميش من سيجمع لك الأصنام المعبودة ليهبوك الحياة ؟ قم لا تنم ... وانقضت ستة أيام وسبع ليال ، وجلجاميش قابع وقد غلبه النعاس . فقال « أوتانبشتيم » لزوجته : انظري إلى هذا البطل الذي يبحث عن الحياة ، لقد استولى عليه النعاس ... فقالت له زوجته : المسه لعله يصحو ، ويعود من حيث أتى . ولكنه قال لها : إن الإنسان من طبعه الخداع ، ولسوف يحاول أن يخدعك : أي ينكر أنه نام ، فقومي اخبزي له فطائر وضعيها فوق يافوخه ، وعلمي على الجدار عدد الأيام التي نامها . فخبزت سبع فطائر ووضعتها فوق رأسه يومًا بعد يوم ، وعلمت عدد الأيام على الجدار ، فجفت الفطيرة الأولى ، وفسدت الثانية ، وعفنت الثالثة ، وابيضت الرابعة ، واخضرت الخامسة ، وظلت السادسة كما هي ، وعندما وضعت له السابعة صحا وقال لجده : الواقع أنه قلما ينتابني النعاس ، وحالما تلمسني أصحو . فقال جده : قم جلجاميش وعد الفطائر ، ولاحظ ما صارت إليه ... وأسقط في يد جلجاميش وعلم بعزم جده على ترحيله ، فقال له : وما عساي أن أفعل ؟ وأين أذهب وقد خمدت أطرافي ؟ وفي حجرة نومي يستقر الموت ؟ وأينما ذهبت فهو الموت ؟ واستدعى « أوتانبشتيم » نوتيه وأمره بأن يأخذ جلجاميش إلى البحيرة ليزيل أوساخه ، ويحمل الماء عنه أدران جلده ، وحتى يظهر بهاء جسده . وأوصاه بأن يزوده بثوب جديد وعمامة جديدة ، ويساعده على العودة إلى بلده . فنفذ النوتي ما أمره به واستعد للإبحار بجلجاميش ، ولكن زوجة « أوتانبشتيم » قالت له بحنان الجدة على حفيدها : وما عساك معطيه وهو عائد إلى بلده ؟ فاستدعاه وقال له : سوف أعهد إليك بسر رباني ، نباتًا سوف يخزك شوكه مثل الورد ، ينبت في غور البحر ، ما أن تحرزه حتى تتجدد حياتك . فما سمع جلجاميش قوله حتى ربط أحجارًا إلى قدميه وغاص بها في الماء حتى رأى النبات واقتلعه ووخزه شوكه ، ثم حل الأحجار فطفا ، وقال للنوتي : سوف آخذ هذا النبات إلى « أوروك » ، وأسميه رجوع الشيخ إلى صباه ، وسوف آكله بنفسي . وبعد ثلاثين مرحلة رأي جلجاميش بئرًا صافية فأراد أن يتبرد فيها ، ونزل الماء ، ولكن أفعى شمت النبات فاختطفته واختفت به . وربما أراد راوي القصة بذكر اختطاف الحية لسر الحياة الأبدية أن يفسر به قدرتها على تجديد جلدها وشبابها الظاهري كلما أدركها الهرم ، ولحق البلى بجلدها . وقعد جلجاميش يبكي ويندب حظه .. ثم رضخ للأمر الواقع ، واصطحب الملاح ، ودعاه إلى زيارة « أوروك » ، ووصفها له بأن مساحة مساكنها تبلغ سارا ، وتمتد بساتينها سارا ، وتمتد حدودها سارا ... وهكذا انتهت القصة إلى ما يفيد بأن سنة الحياة والموت جارية منذ الأزل وحتى الأبد ، وأنه لم يغيرها أن أتى جلجاميش البطل بالأعاجيب في سبيل تغييرها ، وأنه لم يكتب له الخلود من البشر غير « أوتانبشتيم » الذي يكاد يرادف « الخضر » في الأقاصيص الشعبية عند المسلمين ، وإن كانت القصة العراقية القديمة قد أشركت معه زوجته أيضًا في نعمة الخلود( ).
وقد بَيَّن لنا أدباء مصر في القرن التاسع عشر قبل الهجرة ثقافة الشعوب في المنطقة ككل حول أرض الحياة هذه ، في جبل حرمون خاصة وجبال الأرز في بلاد الشام عامة ، في الأرض المقدسة ، والتي تجاوزت الحدود المحلية لتصبح ثقافة دولية ، وقد عكست ذلك « قصة الأخوين » التي عرف بمضمونها كاتبها قبل أن يشرع في تفاصليها فقال : هذه قصة من القرن التاسع عشر قبل الهجرة( )، صورت ما يمكن أن تأتيه أنثى لعوب في بيت ريفي صغير . وأسهبت القصة في وصف الحياة الريفية ، وجمعت بين ما يمكن أن يحدث في واقع الحياة وبين ما لا يحدث إلا بالمعجزات وفي عالم الخيال . وجعلت أبطالها ثلاثة : إنبو ، وهو صاحب دار ومزرعة ، وزوجته الفاتنة اللعوب ، وباتا شقيقه الصغير . ووصفت القصة باتا الصغير بآيات القوة والإخلاص والوفاء ، فصورته مؤيدًا بقدرة ربانية ، وروت أنه عرف منطق الحيوان ، ونسبت إليه المهارة المطلقة في شؤون الزراعة والرعي ثم انتصاره ووصوله إلى عرش مصر بعد أن عاش في أرض الحياة في بلاد الأرز بلبنان وقتل فيها ثم عاد إلى الحياة بعد ثلاث سنوات من موته . والآن نترككم مع تفاصيل القصة : « واعتاد باتا أن يخرج بماشية أخيه مع الفجر فيحرث أو يحصد ، ويرعى قطيعه ، ثم يعود في المساء محملًا بخيرات الحقل وألبان البقر ويقدمها راضيًا بين يدي أخيه وزوجته . وبعد أن يتناول عشاءه ينطلق إلى حظيرة الماشية ، فينام فيها وحيدًا قانعًا . فإذا اقترب الفجر أعد إفطار أخيه وقدمه إليه ، ثم أخذ إفطاره معه وساق ماشيته إلى الحقل والمرعى ، وكان يحدث أحيانًا أن تتسار الماشية فيما بينها بأن الكلأ في مكان بعينه وفير نضير، فيفهم باتا قولها ويحقق لها رغبتها وينتجع بها ما توده من العشب والمرعى . ولما حل موسم الزراعة قال له أخوه : علم أحد الثيران الحرث ، فالأرض انحسر ماؤها وتهيأت للزرع ، وآتنا ببذور نغرسها مبكرين . فأطاع باتا ، وصحب أخاه إلى الحقل ، وانشغلا في الحرث ، وفاضت نفساهما بالأمل لقيامهما العمل في بداية الموسم . ولكن حدث بعد فترة أن اضطرا إلى التوقف لنفاذ البذور ، فأرسل إنبو أخاه إلى القرية ، وأوصاه بأن يسرع في إحضار المزيد من البذور . ولما بلغ باتا الدار ألفى زوجة أخيه تضفر شعرها ، فناداها في مرح وبساطة قائلًا : انهضي وناوليني كمية من البذور حتى أعجل بها إلى الحقل ، فأخي ينتظرني ، ولا تعوقيني . ولكن الأنثى تثاقلت وقالت له : اذهب أنت إلى مخزن الغلال ، واحمل منه ما تشاء ولا تضطرني إلى ترك ضفائري . ودخل باتا المخزن وأعد غرارة كبيرة ، واكتال شعيرًا وحنطة . ولما خرج بهما سألته : كم احتملت على كتفك ؟ فأجاب : ثلاثة مكاييل من الحنطة واثنين من الشعير . فحاورته قائلة : فيك بأس شديد ، وأشهد أنك تزداد قوة وجسارة على الدوام . ودبرت أمرًا في نفسها ثم هبت واقفة وتعلقت به وقالت هيت لك ، ودعنا نمرح ساعة ونضجع ، فذلك خير لك ، ولسوف أخيط لك ثيابًا حسانًا . وفوجئ الفتى وأجفل وبدا في هيئة فهد الصعيد الغضوب كما روت القصة ، وأربد وجهه من سوء ما دعته إليه . وأجفلت المرأة بدورها وخشيته خشية شديدة . وقال لها الفتى : اسمعي ، أنت بالنسبة لي في منزلة الأم ، وزوجك في منزلة الأب لأنه أكبر مني وقد تعهدني ورباني ، فلِمَ هذا العار الذي تدعونني إليه ؟ إياك أن تفاتحيني فيه مرة أخرى ، ولك من ناحيتي ألا أخبر أحدًا به أو أدعه يخرج من فمي إلى أحد . واحتمل باتا حمولته ، وانصرف إلى المزرعة ، فلما بلغ أخاه استأنف العمل كدأبه دون أن ينبس ببنت شفة . ولما حان المساء انفصل الأخ الأكبر وقصد داره ، وبقي الأصغر خلف ماشيته حتى أكمل حمولتها من خيرات الأرض ، ثم ساقها أمامه ليبيت بها في حظيرته ، وخشيت زوجة إنبو عاقبة زلتها ، فاستعانت بعقار جعلها كالمريضة أو المضروبة . فلما بلغ بعلها داره وجدها ممددة متهالكة ، فلم تصب الماء على يديه كعادتها ، ولم توقد المصباح قبل مجيئه . ووجد الدار في ظلام دامس ، فاقترب منها وسألها عمن أساء إليها قالت : لم يحادثني سوى أخيك ، أتى يأخذ البذور ووجدني وحيدة فراودني عن نفسي وأمسك شعري ، فأبيت أن أطيعه ، وقلت له : ألست في منزلة أمك ؟ وأخوك في منزلة أبيك ؟ فغضب وآذاني حتى لا أبوح لك بأمره . فإذا تركته يعيش مت أنا ، وأخشى إذا رجع المساء وفاتحته في عاره أن ينسب السوء إليَّ . وأربد وجه الزوج ، وشحذ خنجره واختبأ خلف باب الحظيرة ، ونوى أن يقتل أخاه حين رجوعه . وعاد باتا حين الغروب محملًا بخيرات الأرض كعادته ، فلما دخلت أولى بقراته الحظيرة ، همست له : أخوك واقف أمامك بخنجره ليقتلك ، فاهرب من أمامه . وفهم باتا قولها ، ثم سمع مثله من البقرة التي تلتها ، وتطلع إلى أسفل الباب فرأى قدمي أخيه ، فألقى حمولته على الأرض وأطلق العنان لساقيه ، وتبعه أخوه . وتطلع باتا في محنته إلى ربه رب الشمس « رع حرآختى » وناجاه : مولاي الكريم ، أنت الذي تفرق بين الآثم والبريء . فاستجاب رع لدعائه وفصل بينه وبين أخيه بنهر عظيم ملأته التماسيح . وضرب الأخ الأكبر بكفيه من الغيظ ، فناداه أخوه في الضفة الأخرى : الزم مكانك حتى يطلع رب الشمس ونحتكم إليه . وتجلى المعبود « رع حرآختي » حين الصباح ، وتطلع كل من الأخوين إلى الآخر . فقال الأصغر لأخيه : لِمَ طاردتني لتقتلني قبل أن تسمع دفاعي ؟ ألست أخاك الأصغر وأنت أب لي ! إنك حين أرسلتني لآتيك بالبذور دعتني امرأتك إلى الخنا ، ولكنها قصت عليك العكس . ثم قص قصته عليه وخنقته العبرات ، واستل بوصة حادة وقطع إحليله ورماه في الماء ليثبت لأخيه زهده في الخنا وأهل الخنا ، وكاد يغشى عليه من فرط الألم . وندم الأخ الأكبر ، ولم يتمالك نفسه فبكى ، ولكنه عجز عن أن يصل إلى أخيه خوفًا من التماسيح . ونادى باتا أخاه : إذا ظننت بي السوء فهلا تذكرت لي خيرًا فعلته من أجلك ؟ عد إلى دارك واجمع ماشيتك فلن أمكث في أرض تعيش فيها ، وسأذهب إلى وادي الأرز ، وعليك أن تسرع إلى مساعدتي إذا علمت أن سوءًا ألم بي ، فلسوف أنتزع قلبي وأضعه فوق شجرة أرز ، فإن حدث أن قطع أحد الشجرة وسقط قلبي فابحث عنه ، ولا تمل البحث ولو أنفقت في البحث سبع سنين . فإذا وجدته ضعه في ماء بارد ، ترد عليَّ الحياة . ولسوف تعلم آية سقوطه حين تقدم إليك كأس جعة فتجدها أزبدت واعتكرت ، فإن حدث ذلك فلا تتوان في الرحيل إليَّ . وانطلق الفتى إلى حال سبيله ، ورجع أخوه إلى داره يحثو التراب على شعره ، ويضع يده على رأسه ، ثم اندفع هائجًا فذبح زوجته ورمى جسدها إلى الكلاب ، وعاش يبكي أخاه . ومضت القصة في الخيال ، فروت أن باتا فارق مصر إلى وادي الأرز في لبنان ، وأن الأصنام عوضته عن تضحيته بأنثى بارعة الجمال ، أحبها وأخلص لها ، ولكنها عاشرته على دخل ، ربما لأنه أصبح عنينًا ثم نقل البحر خصلة من شعرها إلى فرعون مصر ، فسحره عطرها ، وأرسل رسله يبحثون عن صاحبتها فقتلهم باتا إلا واحدًا عاد إليه يخبره بمقتل زملائه . فأرسل الفرعون إليه جماعة أخرى ومنهم امرأة عجوز تحمل إليها هداياه ، فقبلت الزوجة عطاياه وانجذبت إلى سلطانه ، وصحبت رسله وسافرت إليه وتقربت منه ، وأوحت إليه بإهلاك زوجها وقطع الشجرة التي ائتمنها على قلبه ، فاستجاب الفرعون لكيدها ، وأمر بقطع الشجرة فمات باتا ، ولكن أخاه تنبه إلى آية اعتكار كأس الجعة ، فظل يبحث عن قلب أخيه ثلاث سنين حتى وجده ، ودعا للأرباب فبعثوه في خلق جديد ، وأراد باتا أن يرد على زوجته عاقبة غدرها ، فتنكر لها في هيئة فحل شديد مرة ، وهيئة شجرة مثمرة مرة ، وكلما كشفت أمره حرضت زوجها الفرعون على إهلاكه ، ولكنها ظلت تحيا في نعيم فاتر وقلق متصل حتى غلب الحق ، وعوضت الأصنام المعبودة زوجها القديم بعرش مصر وملكها العريض ، فقبض عليها وتحاكم معها إلى قضائه ، فأدانوها ولقيت حتفها جزاء غدرها »( ) .
4- أرض الخالدين
لقد وصف « جبل الشيخ » في ملحمة جلجاميش السومرية بأنه « أرض الخالدين » أو « أرض الخلود » ، وهذا الوصف جاء به القرآن الكريم في وصف « النار » بأنها « دار الخلد » قال تعالى : « ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ، لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ »( ). ووصف المفسرون الجنة بأنها : « دار الخلد » أيضًا . قال الجياني في تفسير قوله تعالى : « خالدون » : باقون بقاء لا آخر له ، وبه سميت الجنة دار الخلد ، وكذلك النار . والخلود : المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدة طويلة لا انتهاء لها( ) . قال ابن القيم في تعداده أسماء الجنة : الاسم الثالث « دار الخلد » ، وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها أبدًا كما قال تعالى « عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »( ) ، وقال : « إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ »( ) ، وقال : « أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا »( ) ، وقال : « وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ »( ). وقال الشعراوي : والجنة : وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النعيم الأُخْروي ، فهي تُطلَق أيضًا على حدائق وبساتين الدنيا ، كما جاء في قول الحق سبحانه : « إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ »( ). وقوله تعالى : « واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ »( ) . إذن : تُطلَق الجنة على شيء في الدنيا يضمُّ كل ما تطلبه النفس وسمَّوْها الجنة ؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها مَنْ يدخل فيها ، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تُحوجه إلى شيء غيرها( ) .
ولكن لماذا سمى القدماء جبل الشيخ بـ « أرض الخالدين » ؟ إن أول ما يسترعي الانتباه في ملحمة جلجاميش وقصة الأخوين اللتين ذكرناهما سابقًا ذهاب أبطالهما من جنوب العراق وصعيد مصر إلى أرض الحياة .. أرض الخلود .. إلى بلاد الأرز .. إلى لبنان .. إلى حرمون ؟ ونجاح آخرهما في عودة الحياة إليه بعد الموت بثلاث سنوات ، في وادي الأرز ، ووصوله إلى عرش مصر !! أقول إن أول ما يلمحه هو وصفه بأنه الجبل الذي تقيم فيه أعظم معبوداتهم من دون الله عز وجل ، لأنه أعلى جبل في بلاد الشام ، ومنه تطل على جميع من يعبدها من ناحية ، وتتصل بمعبودات السماء التي تمثلها تماثيلها على الأرض من ناحية أخرى . ولما كان أهم صفة تتميز بها هذه المعبودات بقاءها فترة طويلة وغير محدودة من الزمان ، لذلك كان عبادها يعتقدون خلودها ، ويعتقدون أن الأرض التي تقيم بها أرض الخلود ، والمعابد والهياكل التي تبنى لأجلها هي دور الخلد . وهكذا الخالدون هم - حسب زعمهم - الأصنام الوثتية التي ألهوها وعبدوها من دون الله أو مع الله لأن جميع البشر يموتون ولا يخلدون .
5- جبل شوبا « أرض شوبا »
من تسميات جبل الشيخ القديمة « أرض شوبا » نسبة لصنم الحوريين الوثنيين « شوب » : الذي يمثل عندهم « صنم الهواء » المعبود من دون الله ، الذي تسمت بلدة « كفر شوبا » باسمه في « العرقوب » عند سفوح جبل الشيخ ، ولا يزال في كفر شوبا آثار معبد ضخم يُعرف بمعبد « بعل جاد » ، وهو نفس « بعل حرمون »( ) . قال أحد المؤرخين : ومن الملاحظ أن السومريين جروا في تشييد بعض هياكل معابدهم فوق مسطحات مرتفعة ، وصوروا الأرضيات التي تعتليها تلك المعبودات في مناظرهم الدينية ، على هيئة مدرجات الجبال وكومات الأحجار ، وذلك مما يعني أنهم شاركوا أصحاب حضارة الوركاء ، في فكرة تعويض معابد معبوداتهم عن قممها العالية في بيئاتهم الجبلية القديمة بالمسطحات الصناعية العالية في سهول العراق . وقد يتصل بهذه الظاهرة الجبلية ما جروا عليه من تسمية معبد معبودهم « إنليل » في مدينة نيبور السومرية باسم « إكور » ، وهو اسم يحتمل أنه يحمل معنى « البيت الجبلي » ، ثم ما وصفوا به معبودتهم « إنانا » في إحدى أساطيرهم بأنها « ملكة السماء » الجليلة التي تسكن « جبال » الأرض الحالية « شوبا » ، وروايتهم عن معبودهم « أوتو » رب الشمس ، في الأسطورة نفسها ، رغبته في أن يشيد أتباعه معبدًا متساميًا « كالجبل » المقدس ، ويكون مزاره فيه كالغار . ومرة أخرى نجد أن صلة السومريين بمرتفعات جبل الشيخ كانت متينة ، ودليلنا على ذلك : ما أتت به أسطورتان لملك سومري يدعى « إنمركار » اعتبرته القوائم السومرية المتأخرة ثاني ملوك الأسرة الأولى في مدينة « أوروك » بعد الطوفان . وقد روت إحداهما أن المعبودة « إنانا » قد اصطفته من « بلاد شوبا » الجبلية ، ثم وصفته بأنه المجتبى بالإمارة في البلاد « الجبلية المحصنة » ، وأنه الراعي الذي ولدته البقرة الأمينة في « جوف الجبال » . وكل ذلك مما يحتمل معه الربط بين أصول الرجل وأسطورته وبين منطقة ما من مناطق المرتفعات المشار إليها( ) .
6- جبل سَعِير « سعار »
أطلق الكنعانيون على جبل الشيخ اسم « سعار»( ) إضافة إلى اسم حرمون ، بينما أطلق العبرانيون عليه اسم « سَعِير » كما ورد في التوراة( ) . ولم أجد معناها بلغة الكنعانيين ، ووجدت كلمة « سَعِير » التي هي الآن قرية في فلسطين ، تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة الخليل ، وتبعد عن الخليل حوالي 8 كم ، وترتفع 870 م عن سطح البحر ، وتحيط بها الجبال العالية منها « رأس طورة » في الشمال حيث يرتفع 1012 م عن سطح البحر . يقال بأنها ثاني أقدم قرية في العالم بعد مدينة أريحا . وهي تشتهر بزراعة الزيتون والعنب والتين .
ومعنى كلمة « سَعير » العبرانية: كثير الشعر . وقيل في سبب التسمية أنها نسبة إلى :
(1) اسم أمير حوري أطلق اسمه « سَعِير الحوري » على المناطق الجبلية التي سكنها( ) ، وهو جد سكان تلك الأراضي الذين سكنوا المنطقة ، ومنها جبل الشيخ حيث خلفوا وراءهم على قمته معبد بعل جاد الذي هو أيضًا بعل حرمون( ) .
(2) اسم الأرض التي كان يسكنها الحوريون( ) ، ثم استولى عليها « عيسو » ونسله( ) . وكانت تسمى أيضًا « جَبل سَعِير » لأنها أرض جبلية على الجانب الشرقي من البرية العربية , ويصل ارتفاع أعلى قمة في هذه الأرض إلى 1600 مترًا وهي قمة « جبل هُور » وقد حاول بنو إسرائيل أن يعبروا تلك الأرض في طريقهم من مصر إلى كنعان , ولكن رفض الأدوميون الذين يقع جبل سعير بأرضهم السماح لهم , فدخل العبرانيون البرية العربية شرقي أرض سعير, وساروا في أرض وعرة قاسية حتى يتفادوا المرور في سعير .
(3) جبل في أرض يهوذا( ) بين قرية « يعاريم » و« بيت شمس» , وربما كان سلسلة الجبال التي تقع عليها قرية « ساريس » إلى الجنوب الغربي من قرية « يعاريم » وإلى الشمال الغربي من أورشليم. ولا زالت آثار الغابات التي كانت تنمو فوقه موجودة إلى اليوم .
(4) سَعِير : كلمة آرامية ، بمعنى : الصخر أو الشاهق ، ومعروف أن أعلى قمة في جبال المنطقة هي قمة جبل الشيخ التي تعرف بـ : « شارة الحرمون » ، وهي التي ينطبق عليها الوصف .
(5) خشونة منظر البلاد ، وهذا اشتهر به جبل الشيخ لوعورة مسالكه .
(6) سعير من الصعر ، وذكرت باسم صِعير ، وهي مرادفة لأدوم بالعبرية .
(7) سَعِير يعني : النار ولهيبها ، وجمعها سُعُر ، وهذا المعنى اللغوي في اللغة العربية . قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »( ). وقال تعالى : « فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا »( ). وقال عز وجل : « مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا »( ). وقال : « بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا »( ) وقال : « إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا »( ). وقال : « وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا »( ). وقال : وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا »( ).
(8) سعير بهذا الاسم نسبة إلى صفة النبي الذي سكنها « العيص » أخ يعقوب ابن اسحق ؟ وتعني : « ذو الشعر الكثيف » ، حيث كان العيص كذلك حسب زعم كُتَّاب التوراة .
وقد ورد اسم « سَعِير » في عدة لغات منها العربية والآرامية والرومانية والعبرية , ولكن السبب الأرجح في التسمية يرجع إلى « سَعِير الحُوري » جد سكان المنطقة الذي سكنها قبل الكنعانين( ). وهذا يشير إلى أن هذه التسمية حورية الأصل .
وقد نشأت « سَعِير » الحالية على موقع بلدة « صعير » في العهد الروماني باسم « سيور » ، وهي مكان أثري يحتوي على مدافن منقورة في الصخر . وتقوم « سعير » فوق رقعة جبلية من الأرض ترتفع حوالي 975م عن سطح البحر وتحيط بها - ولا سيما من الجهات الشمالية والشمالية الغربية والجنوبية الغربية - سلاسل جبلية عالية منها « رأس طورة » في الشمال ويعلو 1,012م عن سطح البحر . وفي البلدة مسجد يضم فيما يُروى رفات « العيص بن إسحاق » ويؤمه الناس للزيارة ، وتشرب بلدة سعير من عين ماء غزيرة بجوارها( ). وهذا يدل على أن اسم سعير قد تقلص مدلوله على مر التاريخ ، ففي القديم كان يشمل منطقة واسعة منها جبل الشيخ ، والآن يشمل قرية صغيرة وما حولها في فلسطين.
ولعل الصنم « سُعَيْر » - بلفظ التصغير – الذي ذكره ياقوت من قول أبي المنذر الذي كان لقبيلة « عنزة » ، والذي مر به « جعفر بن خلاس الكلبي » على ناقته ، وقد عترت عتيرة( ) عنده فنفرت ناقته منه ، فأنشأ يقول :
نفرت قلوصي من عتائر صُرِّعَتْ حول السُّعَيْر يزوره ابنا يقدم
وجمـــــــوع يذكر مهطعين جنابة ما إن يجيـــز إليهــــــم بتكلـم
ويقدم ويذكر : ابنا عنزة ، فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السُّعَيْر( ) أثر من آثار أولئك القوم ، والله أعلم .
بالباحث محمود الشيخ